-3- الإمامة عند المعتزلة: مقدمة: إذا كانت هناك بعض الفرق الإسلامية ترى في النص طريقا للإمامة كما يذهب الشيعة في القول بالنص على علي بن أبي طالب (ع) بعد النبي (ص)، أو البكرية الذين اجتهدوا في إثبات النص لأبي بكر (رض)، أو الراوندية الذين قالوا بأن الإمام يجب أن يكون من نسل العباس عم النبي (ص) مع إثبات ما للنص على الإمام من أهمية قصوى تصل إلى مستوى أصول العقائد وأركان الدين كما يذهب إلى ذلك الطرح الشيعي. وإذا كان أهل السنة يرون بأن الإمامة مصلحة دنيوية تدخل في فروع الفقه (لا علم الأصول) وأنه قد يجوز أن يتصدى إليها البر والفاجر، وقد يجوز فيها القهر و الغلبة بالسيف حتى أصبح الأمر تسلطا واستبدادا ذاقت الأمة الإسلامية منه الأمرين على امتداد تاريخ طويل من ممارسات الطغاة. فإن المعتزلة قد حاولوا سلوك طريق بين الأمرين في هذا الموضوع الشائك، بآراء في الإمامة قد جمعت أحيانا بين المتناقضين، فوافقوا السنة في مناط قضية الإمامة بمصالح المحكومين، ووافقوا الشيعة أيضا في عدد من الشروط التي وضعوها لمن يتصدر للإمامة ولو أنهم لم يجاروا الطرفين في كل ما رتبوه لهاته المسألة. ضرورة الإمامة عند المعتزلة: يرى المعتزلة –متابعين لقول الجمهور من المسلمين- بأن الإمامة واجبة1، وأن طريق وجوبها هو السمع لا العقل، أي الشرع وليس النظر العقلي و الإجتهاد. فقد تم الإجماع بين رجال الصدر الأول من المسلمين على إمامة الخلفاء الأوائل بغض النظر عمن كانت تؤيده النصوص أو تسنده الكفاءة و النسب. وهو رأي يخالف ما ذهب إليه الشيعة الذين يرون وجوبها عقلا لا سمعا، إذ هي لطف من الله بعباده. وحجة المعتزلة على رفض منطق الشيعة هو قياس الإمامة على النبوة، وهو قياس مع وجود الفارق، فضلا على أن المكلف يستطيع القيام بحقوق الله دون حاجة ضرورية لوجود الإمام. كما يرد المعتزلة المتأخرين بأن احتجاب الإمام المهدي عند الشيعة الإمامية عن الظهور لم يؤثر في استمرار قيام المكلفين بما كلفوا به، وبالتالي فإن وجوده ليس ضروريا من الوجوه التي يحتج بها هؤلاء على الوجوب العقلي. وهكذا يرى المعتزلة ضرورة الإمامة ويولونها مكانة خاصة تصل عند بعضهم إلى مرتبة أصول الدين. ولم يشد عن هذا الرأي منهم إلا الأصم والفوطي، حيث يقول الأشعري: "قال الأصم: لو تكاف الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام"2 وهو أمر كما يبدو مستحيلا. طريق الإمامة عند المعتزلة: الشورى والإختيار يرى أغلب المعتزلة بأن طريق الإمامة الشرعي هو الشورى والإختيار. فقالوا بأن ما أثبت الإختيار طريقا إلى الإمامة هو إجماع الصحابة على ذلك، وقد ثبت أن الإجماع حجة فيجب أن يقال ذلك3. والذين يجرون هذا الإختيار هم أهل الحل والعقد أي أعيان الأمة وفقهاؤها و أولي الرأي فيها الذين ترشحهم مؤهلاتهم لتمثيل الأمة والنيابة عنها في قضية اختيار الإمام. كما وذهبوا إلى أن الإمامة تنعقد على الأقل بخمسة، حيث أنه من الصعب أن يشترك كل الرعية في ذلك، فبقي من المشروع أن ينوب عنهم من يوثق بفقهه وحسن اختياره وقد اختلفوا في مسألة التفويض أو اختيار الإمام القائم فعلا لمن يقوم بعده، وهو ما يعرف بالعهد بالإمامة. حيث ذهب القاضي عبد الجبار متفقا مع أستاذه أبي هاشم عبد السلام بن الجبائي إلى أن هذه الطريقة دستورية تماما (وقد فوض أبو بكر عمر قبيل وفاته) وذلك قياسا على الوصية. أما الإتجاه الثاني فيمثله أبو علي الجبائي الذي يجيز عهد الإمام لغيره بالأمر من بعد بشرط حيازة المعهود إليه رضا الجماعة التي لا يصح بدونها اختيار الإمام وهو خمسة كما تقدم، ويبرر الجبائي رأيه هذا باستشارة أبي بكر لعدد من الصحابة قبل توليته عمر وإن اختلفت آراءهم حوله. مسألة النص وقد انقسم المعتزلة في مسألة النص التي ينتصر لها الشيعة بين فريقين؛ معتزلة بغداد وقد كانوا أميل إلى الطرح الشيعي في مسألة النص، ومعتزلة البصرة4 الذين تمسكوا بمسألة الإختيار وكان من أشهرهم واصل بن عطاء، والأصم والفوطي والجبائي، حيث يرد هؤلاء على الشيعة، بأنه إذا تم التسليم بالنص على علي والحسن والحسين (ع)، فكيف يمكن التسليم بباقي الأئمة، وقد اختلف الشيعة بعد الإمام الصادق (ع) وافترقوا طوائف؟ ويرفض أبو هاشم الجبائي فكرة النص بجميع صورها، لأن في ذلك اتهام للصحابة بكتمان الأمر لحاجة في نفوسهم، ولأن في ذلك تهمة للأمة جميعا بالتواطؤ على الكتمان، وهو أمر مرفوض، لأن الأمة لا تجمع على كتمان ما يجب إظهاره5. إمامة المفضول من جهة أخرى، يفسر معتزلة بغداد الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة في تفسير إمامة أبي بكر (رض) وتقديمه على علي (ع) تفسيرا مصلحيا، حيث يقول الخياط في الذين عقدوا البيعة لأبي بكر (رض) بأنهم "شاهدوا من الأمة الميل إلى أبي بكر والاجتماع إليه ما دعاهم إلى توليته أمورهم دون غيره"6. وهو ما سيتبناه الشيعة الزيدية الذين اعتنقوا هذا الرأي لدى المعتزلة تحت ما يسمى بجواز إمامة المفضول في وجود الفاضل. يقول القاضي عبد الجبار: "إذا كان في الفاضل علة تؤخره، أو في المفضول علة تقدمه، فالمفضول أولى، لأن الإمامة ليست للأفضل بالفضل ولا بزيادة الفضل، وإنما يختار للإمامة لما تقتضيه المصالح" 7. وهكذا فقد اقتضت مجموعة من العلل حجب الإمامة عن علي بن أبي طالب (ع) بالرغم من إجماع الأمة على أفضليته. ذلك أن عليا قد قتل الكثير من أقرباء مشركي مكة، فكانوا يضمرون له البغض. ومن بين تلك الأسباب أيضا ما باح به عمر بن الخطاب (رض) يوما لابن عباس عندما قال له: "إن قريشا كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد" ولم يكن الإيمان قد تغلغل في النفوس بعد لتجاوز هذه الحسابات السياسوية الضيقة.. شروط الإمامة عند المعتزلة: إلى جانب الشروط التي توافق عليها أغلب المسلمين في من يتصدى لمرتبة كالإسلام و العقل والبلوغ، وأن يكون الإمام صاحب رأي وتدبير يرجع إليهما فيما يعالجه من مشكلات الحكم8..هناك عدد من الشروط التي اختلف فيها المعتزلة مع فرق أخرى، حيث كانت دائرة الخلاف هذه تتسع وتضيق بين معتزلة بغداد والبصرة. نذكر من أهمها: العلم ويرى المعتزلة بأنه ضروري بالقدر الكافي الذي يحتاجه الإمام لتدبير أمور ومصالح الأمة، فلا يشترط أن يكون الإمام أعلم أهل زمانه كما يذهب إلى ذلك أغلب الشيعة، بل يحتاج إلى مشورة الآخر في مسائل هم أكثر إحاطة بها منه، ولا ينقص هذا من قدره، فقد ثبتت حاجة من العلم إلى العلماء9. الأفضلية حيث ينكر المعتزلة هذا الشرط بمفهومه الشيعي الذي يذهب إلى أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه. فالفضل عند المعتزلة شرط ضروري في الإمام لكن الأفضلية غير ضرورية ولكنها مفضلة10. والتمسك بها قد يؤدي إلى تعطيل الإمامة برمتها، ومصلحة الأمة هي الأولى. فالأفضل من يرعى مصالح الأمة على أفضل وجه. العدل وهو مفهوم مركزي عند المعتزلة كما سبق من خلال عرض أصولهم الخمسة11. وذلك خلافا لما ورد عن أصحاب الحديث، حيث يروي عنهم الأشعري أنهم قالوا: "إن الإمام يكون عادلا وغير عادل"12. ويستشهد المعتزلة بحقيقة مقررة، وهي أنه مادامت العدالة لازمة في الشاهد والأمير وهما دون الإمام، فمن الأولى أن تكون في الإمام أشد لزوما. كما أن الإمام موكل بمصالح الرعية، ينفذ الحدود والأحكام، وينصف المظلوم، وينتصف من الظالم ويجبي الأموال من وجوهها. ويصرفها في حقوقها..إلخ، وما لم يكن الإمام عادلا، تزعزعت الثقة في أعماله. وحوم الشك على نزاهة مقاصده، وهو مايجب أن يبرأ منه الإمام13. القرشية إذا كان الشيعة قد تمسكوا بهذا الشرط، والخوارج قد أنكروه، فإن المعتزلة لم يتفقوا على هذا الشرط وجودا أو عدما. ففي مقالات الإسلاميين للأشعري ما نصه: "قال قائلون من المعتزلة والخوارج: جائز أن يكون الأئمة في غير قريش. وقال قائلون من المعتزلة وغيرهم: لا يجوز أن يكون الأئمة إلا من قريش"14. كما يقول الشهرستاني-بعد أن روى رأي ضرار15 في تقديم الأعجمي على القرشي-: "المعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي". وقد روى المسعودي بأن بعض من تقدم من المعتزلة يوافقون الخوارج في عدم تمسكهم بقرشية الإمام16. خاصة وأن أغلب المعتزلة الأوائل كانوا من الموالي بمن فيهم مؤسس المذهب واصل بن عطاء17، و لما في شرط القرشية أيضا من عنصرية بادية أنكرها الإسلام لقوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" –الحجرات:13- وفي قوله (ص): "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". أما المتمسكون بهذا الشرط، فقد كانوا يرون بأن من قريش من يصلح للخلافة، والقرب من النبي (ص) كما يقول الجبائي من نعم الدنيا. كما أن الرسول (ص) قد نص في أحاديث كثيرة على قريش لأنه يوجد فيهم من يصلح للإمامة، وأن الناس إلى الإنقياد إليهم أقرب. لكن هذا الشرط ليس على إطلاقه " فإذا عدم فيهم من يصلح لذلك للإمامة..فلا بد من نصب من يصلح لذلك"18. مسألة الخروج عند المعتزلة: قد تواتر بأن المعتزلة ينكرون إمامة الجائر (تماشيا مع أصل العدل لديهم) وبالتالي فهم يرون مشروعية الثورة المسلحة على حكام الجور تطبيقا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكنهم حددوا عددا من الضمانات لنجاح هذه الثورة، منها عقد اللواء للإمام لعادل، ووجود جماعة منظمة لها من القوة والإعداد ما يؤهلها لإزالة الجور وإعلاء كلمة الحق، بحيث يغلب على ظنها أن يكون النصر نتاج الثورة19، كما يزيد القاضي عبد الجبار في المغني بأنه "لا بد أن يكون الإمام مستحقا بأمر قد تقدم ثم يتصرف فيما بعد20" ومعنى ذلك أن الإمام يجب أن تتضح فيه الشروط التي تؤهله للإمامة قبل تنصيبه إماما، أما التصرف فإنه يمارسه بمقتضى إمامته القائمة فعلا لا قبلها. ويوافقهم الزيدية من الشيعة على هذا الرأي حيث يرى المفكر الزيدي قوام الدين أحمد بن الحسين بأن طريق الإمامة عند الزيدية النص في الأئمة الثلاثة (علي والحسن والحسين) ثم الدعوة والخروج21 فيمن توفرت فيه عدد من الشروط، لكن الزيدية لا يسايرون المعتزلة في كل الضمانات والشروط التي وضعوها للخروج. خاتمة: هكذا تتبلور المعالجة الواقعية والعقلانية للمعتزلة لمسألة الإمامة بقدر كبير من التحري والمرونة مع مراعاة السياقات التاريخية والظروف الإجتماعية والسياسية التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية آنذاك، مما يعكس النضج المبكر الذي عرفه متكلموا المعتزلة بالرغم من هيمنة الكثير من المواقف الأصولية والمتطرفة أحيانا على المشهد الثقافي والسياسي في صدر الإسلام، مما أدى إلى التعجيل بنهاية هذا التيار قبل إتمام مشروعه التنويري بعد صعود المتوكل العباسي. ورغم ذلك مازالت آثار مفكريه ونقاشاتهم التي طالت كل المواضيع والقضايا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية شاهدة على السبق الكبير لرجالات الفكر الإسلامي المتنور على الكثير من أفكار الفلاسفة الذين صنعوا نهضة الغرب فيما بعد. 1- لا ينكر وجوب الإمامة إلا الخوارج (المحكمة الأولى والنجدات) الذين شذوا عن إجماع المسلمين على هاته المسألة، وهم قوم لا يعتد بهم لأنهم تطرفوا في أحكامهم فكفروا عليا وعثمان واعتبروا دار المسلمين دار قتال. 2- مقالات الإسلاميين للأشعري، ج2، ص133. 3- المغني للقاضي عبد الجبار، ج20، القسم الأول، ص306،319. 4 -وكان أغلبهم من العثمانية وقد كان هواهم مع الأمويين من آل عثمان بن عفان (رض) وضد العلويين. 5-وقد قوبل هذا الموقف بردود كثيرة من الشيعة نذكر منها الحصار الذي تعرض له آل بيت الرسول (ص) في عهد الخلفاء الأوائل، واعتزال علي بن أبي طالب (ع) وخلص أصحابه ميدان السياسة والخطابة في المسجد. بل إنه لم يشارك في أي معركة بعد وفاة الرسول (ص) حتى وقعت معركة الجمل التي انفجرت فيها الأوضاع بين المسلمين بعد مقتل عثمان بن عفان (رض) مع أنه كان صاحب لواء أغلب الغزوات في عهد الرسول (ص).. 6- الإنتصار للخياط المعتزلي، ص76. 7- المغني ج20، القسم الأول، ص227. 8- نفس المصدر، ج20، القسم الأول، ص168 وما بعدها. 9- نفس المصدر، ج20، القسم الأول، ص211. 10- نفس المصدر، ج20، القسم الأول، ص217. 11- أنظر مقالنا "النزعات العقلانية في الموروث الإسلامي-1" في نفس الجريدة: http://www.hespress.com/writers/344441.html 12- مقالات الإسلاميين، ج2، ص125. 13 -المغني، ج20، القسم الأول، ص201-202. 14- مقالات الإسلاميين، ج2، ص134-135. 15- هو ضرار بن عمرو كان معتزليا ثم انشق على أصحابه وقال بالجبر. وينسب إليه أنه قال: إذا اجتمع قرشي وأعجمي وتساويا في الفضل فالأعجمي أولى لأنه أقلهما عشيرة. أنظر مقالات الإسلاميين،ج2، ص136. 16- مروج الذهب للمسعودي، ج2، ص138. 17- أنظر المنية والأمل، ص18،22،29. 18- المغني، ج20، القسم الأول، ص238-239. 19- مقالات الإسلاميين، ج2، ص140. 20- المغني، ج20، القسم الأول، ص273. 21- أنظر رسالة المفكر الزيدي يحيى بن الحسين تحت عنوان "كتاب فيه معرفة الله من العدل والتوحيد إلخ" حيث يسرد الكاتب أمثلة من أئمة الزيدية الذين تحقق فيهم شرط الخروج كزيد بن علي وابنه يحيى والنفس الزكية وأخويه إبراهيم ويحيى، والحسين بن علي بن الحسن صاحب موقعة فخ.. *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected]