-2- الشيعة والرافضة من بين الألقاب الطريفة التي لازمت الشيعة عبر التاريخ، مصطلح "الرافضة". وقد جاء في العقد الفريد عن الشعبي قوله: "يا مالك إني درست الأهواء كلها فلم أر أحمق من الرافضة، ثم قال: أحذرك الأهواء المضلة شرها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة1"! حيث استطاعت السلطات التاريخية ربط كلمة "رافضة" عنوة بالشيعة مع تحميلها مدلولا سلبيا منفرا، وذلك بالرغم من أن تاريخ الرفض قد سبق ظهور الشيعة كفرقة على مسرح الأحداث بكثير. فنجد الشيعة أنفسهم يتهمون الخلفاء الأوائل برفض بيعة علي بن أبي طالب (ع) بمقتضى وصية الرسول (ص) حسب واقعة الغدير، وقد تسلل أصحاب السقيفة من بين المعزين ورسول الله (ص) يجهز ليدفن كي يلتحقوا بالأنصار في سقيفة بني ساعدة ويدخلوا معهم في جدال حول خلافة الرسول (ص)، وقد ذكر كل المؤرخين هاته القصة التي انتهت بتولية أبي بكر رغم رفض فصيل الخزرج بقيادة سعد بن عبادة، وعلي بن أبي طالب (ع) نفسه مع عدد من أصحابه وأهل بيته لهذه البيعة حتى توفيت السيدة فاطمة الزهراء (ع). وقد رفضت القيادات السياسية خارج المدينة أيضا بيعة الخليفة الأول واتهمت القرشيين باحتكار السلطة فنتعهم أبو بكر بالمرتدين وحاربهم لأنهم منعوا أموال زكاتهم عنه طعنا منهم في شرعية خلافته. بل إن الأمويين كذلك بزعامة أبي سفيان لم يكونوا ليقبلوا ببيعة أبي بكر لولا توليته الشام ليزيد بن أبي سفيان، والتي أصبحت من ذاك التاريخ في عهدة الأمويين حيث خلف معاوية أخاه يزيدا بعد وفاته ليجعل منها عاصمة تمرده على علي فيما بعد. وقد رفض بعد ذلك عدد من كبار الصحابة وعلى رأسهم الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة (رض) بيعة علي الجامعة بعد مقتل عثمان وخرجوا عليه في حرب مفتوحة سميت بمعركة الجمل لأن عائشة زوج الرسول (ص) كانت تقودها على جمل! ورفض الخوارج بعد واقعة التحكيم بيعة الرجلين علي ومعاوية وكفروهما على رؤوس الأشهاد، وقد اغتال أحدهم حسب المشهور من الروايات الإمام علي (ع) في مسجد الكوفة. فكيف اقتصر مصطلح "الرافضة" على شيعة علي بعد رفضهم لبيعة معاوية والأمويين، والكل يعرف بأن هؤلاء القوم قد اغتصبوا السلطة من أصحابها الشرعيين، وقد حولها معاوية إلى ملك جبري توارثه من بعده أبناءه! وقد حاول الزيدية وهي من أشهر فرق الشيعة فيما بعد التقارب مع أهل السنة بقولهم بجواز ولاية المفضول -يقصدون أبا بكر (رض)- في وجود الأفضل –ويقصدون به علي بن أبي طالب (ع)- لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح نتيجة التعصب الطائفي الذي لا يمكن أن نستثني منه بعض طوائف الشيعة أيضا. الأمويون والشيعة لا يختلف المحققون في كون أن تكريس الخلاف التاريخي بين الشيعة والسنة قد كان بسبب السياسات الأموية الإقصائية والتي استهدفت أتباع أهل البيت (ع)، خاصة بعد اغتيال الإمام علي بن أبي طالب وابنه الحسن (ع)، ولا داعي للتذكير بالكثير من التجاوزات التي تورط فيها هذا النظام الذي استباح حرمات الرسول (ص) وفتح باب الإستبداد واستغلال الدين في السياسة، وقد كانت مجزرة كربلاء في حق الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه من أقسى التجارب التي شهدتها الأمة الإسلامية خلال العهد الأموي. وقد أدت هذه الإجراءات الدموية التي اتبعها بنو أمية ضد العلويين إلى لجوء الشيعة لمسألة التقية بتوجيه من أئمتهم حفاظا على دماءهم وأموالهم، وذلك بإخفاء تشيعهم لأهل البيت (ع) وكتمان مذهبهم خوفا من بطش السلطات القائمة. وإني لأستغرب كيف يشبه بعض المتعصبين التقية بالنفاق، مع أن الفرق بينهما واضح. فالنفاق هو إظهار الإيمان والورع وإبطان الكفر والعداوة، والتقية عكس هذا، ويستمد الشيعة دليلها من قوله تعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)"-آل عمران- وقد كانت خيارا استراتيجيا ساهم في الحفاظ على خط الإسلام النبوي الأصيل الذي كان يدافع عنه أئمة وأتباع أهل البيت (ع)، وهي ليست من أصول المذهب كما يروج البعض إذ يمكن الاستغناء عنها كلما ارتفع الاضطهاد وانجلت دوافع الفتنة الطائفية. وكان من بين الإجراءات التي اعتمدها حكام هذه الدولة، التعتيم على الأحاديث الواردة في فضل أهل بيت الرسول (ص)، مع الاجتهاد في جعل الأحاديث في فضل بني أمية و كذا فضل عدد من الصحابة والتابعين الذين وقفوا ضد علي (ع) وأبناءه من بعده2، بالإضافة إلى دس الكذابين وسط أتباع الأئمة من آل البيت (ع) بغرض اختلاق أحاديث ونسبتها إليهم لتشويه المذهب، وهو ما يفسر وجود أحاديث الغلو والخرافة في كتب الشيعة مما يناقض العقل والمنطق. ومن بين الإجراءات الغريبة التي سنها الأمويون منع الصلاة على آل محمد (ص)، والاقتصار عند ذكر الرسول (ص) على الصلاة والسلام عليه دون أهل بيته! وقد جاء في الحديث المشهور أن النبي (ص) نهى عن ذلك، حيث جاء في الحديث أن أنه قال (ص): قال: لا تُصلُّوا عَلَيّ الصلاةَ البَتراء، قالوا: وما الصلاةُ البَتراء ؟! قال: "تقولون: اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ، وتُمسِكون، بل قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آلِ محمّد"3. وفي سنن الدارقطني (ص136) بسنده عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله (ص): "من صلى صلاة لم يصل فيها علي ولا على أهل بيتي لم تقبل صلاته". كما خالف فقهاء بني أمية الكثير من المسائل التي كان يفتي بها أئمة أهل البيت (ع)4، فقامت مذاهب على معارضتهم إرضاء للسلطة الأموية، واستمر العباسيون على نفس المنوال بعد أن تنكروا لبني عمومتهم من العلويين، وقد قامت دولتهم على أكتاف الشيعة والموالي! وقد تتلمذ عدد من علماء السنة الأفاضل على أيدي عدد من أئمة الشيعة كأبي حنيفة النعمان (رض) الذي لازم الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) لسنتين صحح خلالهما الكثير من مواقفه وأحكامه في الفقه. وقد شهد له بالأعلمية قائلا: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق"، وكذلك الإمام مالك بن أنس (رض) الذي أخذ الحديث عن الإمامين محمد الباقر وابنه الصادق (ع)، وقد كان يقدمهما ويحبهما كثيرا. كما درس الإمام الشافعي (رض) عند مقاتل بن سيلمان وهو من أكابر علماء الشيعة الزيدية، وكان يقول فيه: "من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان".. محاولات لرأب الصدع لقد ورث عدد من فقهاء السنة وخصوصا منهم السلفية الذين يمثلهم اليوم "الوهابية" الكثير من الأحقاد والافتراءات التي ساهمت السلطات التاريخية منذ العهد الأموي في إلصاقها بالشيعة، واجتهدوا في نشرها في كل بقاع العالم الإسلامي خاصة بعد اكتشاف النفط الذي أتاح لعدد من دول الخليج التي تتبنى هذا المذهب تمويل تصديره إلى باقي الدول عبر العالم. فكان ذلك سببا في إثارة الحروب والنعرات الطائفية من جديد بعد أن خبت وانطفأت جذوتها لفترة طويلة قبل أن تبعثها الوهابية بعد أن فرضت نفوذها في جزيرة العرب بدعم من آل سعود. وهكذا كان معظم خصوم الشيعة يتبنون آراء شاذة لبعض علمائهم مما لم يكن يوما موضع إجماع، أو يستشهدون من كتبهم القديمة ببعض الآراء والمواقف والأقوال الضعيفة أو ما تسرب من ذلك مما كان يروجه الغلاة وينكره عليهم أئمة ومراجع المذهب. وذلك في غياب التحقيق الرصين والبحث الدقيق في هذه المتون والنقولات مما يمكن أن يجلي الكثير من المغالطات والافتراءات ويساهم بالتالي في وأد أسباب الفتنة الطائفية، خاصة وأن الخلاف بين المذهبين لا يطال أصول العقائد المجمع على صحتها بين المسلمين كما يحاول بعض المتعصبين تصويره5. وإن طال الفروع، فقد اختلفت مذاهب السنة أيضا بينها في طريقة الاجتهاد واستنباط الأحكام، وتناقضت فتاوى علماءهم في المسألة الواحدة. وهو أن دل على شيء فهو يدل على ثراء الفقه الإسلامي وحيويته. إننا لا نقصد من كتابة هذه المقالات الدفاع عن الشيعة بالمطلق انتصارا لهذه الطائفة أو لتبرير بعض انحرافات أتباعها من الغلاة والمتطرفين مما لا يمكن إنكاره أو المجادلة فيه. بل هدفنا الأسمى والنبيل هو تصحيح الكثير من المغالطات والافتراءات التي ارتبطت بهؤلاء القوم عبر تاريخ طويل، والذين يمثلون جزءا لا يمكن إنكاره أو الاستغناء عن وجوده داخل الأمة الإسلامية. وذلك من أجل إعادة بناء جسور التقريب والتواصل بين المسلمين كافة وتجاوز خلافاتهم الطائفية الجوفاء التي لا تخدم إلا أعداء هذا الدين. وقد تجند الكثير من الفقهاء بين الطائفتين لخدمة هذا الهدف النبيل عبر التاريخ، حيث نذكر في هذا المقام بجهود الأزهر الشريف في إذابة الجليد بين العالمين الشيعي والسني في العصر الحديث من خلال الرسائل التي تبادلها العالمين الجليلين الشيخ سليم البشري (شيخ الأزهر خلال فترة الثلاثينات) والسيد شرف الدين الموسوي (من أهم مراجع جبل عامل بلبنان في نفس الفترة) والتي تم طبعها فيما بعد باسم "المراجعات"، وكذا فتوى الشيخ محمد شلتوت حول جواز التعبد بالمذهب الجعفري -نسبة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)- الذين يدين به معظم الشيعة اليوم خلال فترة الخمسينات. حيث تم بعد ذلك فتح أقسام في الأزهر الشريف نفسه لتدريس مذهب أهل البيت (ع)، كما تم تأسيس "جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية" والتي بذلت جهودا كبيرة لتجاوز الخلافات المفتعلة بين الشيعة والسنة قبل تدخل بعض الدوائر المغرضة والتي تلعب بأوتار الطائفية في المنطقة للتضييق على هذا المشروع النبيل خدمة لأجندات خاصة. لقد حان الوقت لتجاوز هذا الخلاف التاريخي الذي عانت منه الأمة كثيرا ومازالت تعاني من تبعاته الكارثية، وذلك بإعادة التحقيق في تراث الطرفين وتقويمه على أسس عقلانية وموضوعية، مع فتح حوار جاد ومسؤول بين علماء الفريقين بعيدا عن أشكال التهريج الذي تقوم به بعض المنابر و الفضائيات الطائفية من أجل لتحقيق معاني الوحدة والاعتصام التي يدعو إليها القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ صدق الله العظيم الهوامش: 1 -العقد الفريد لابن عبد ربه، ج1، ص259. 2- أنظر مقال: تاريخ الوضع في السنة النبوية (الوضع السياسي) 3- أنظر الصواعق المحرقة لابن حجر العسقلاني، ص87. 4- من ذلك مسألة السدل والقبض في الصلاة والتي اختلف حولها الفقهاء حتى داخل نفس المذهب كما هو شأن المالكية، ولو أن المشهور عندهم هو السدل على غرار مذهب الإمامية وعلى عكس مذهب السلفية الوهابية الذي يهيمن داخل الأوساط السنية بانتصاره للقبض بناء على أدلة متشابهة! 5- أنظر عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر *باحث في التاريخ واختلاف المذاهب الإسلامية