أختصر للقارئ الكريم الخطوط العريضة للعقيدة الزيدية، تاركا التفاصيل لمراجعة الكتب الكلامية في المذهب، لمن أراد التوسع في ذلك. علم الكلام لا يمكن البحث في عقائد الزيدية دون إثارة موضوع الاعتزال. يقول الشهرستاني: إن زيدا اقتبس من واصل الاعتزال، فصار أصحابه كلهم معتزلة. وقد تأثر الزيدية بالاعتزال بدرجة كبيرة، حتى قال الشهرستاني في البترية من فرق القوم: «أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة، حذو القذة بالقذة، ويعظمون أئمة الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت». ولا يلتزم الزيدية جميعا، ولا دوما، بمقالات المعتزلة. فقد أثبت بعضهم -مثلا- الصفات، ولم يقولوا: هي الذات، بل قالوا: صفة العلم، مثلا، لا هي الله ولا غيره. وهذا قول أهل السنة، يقولون بقيام الصفات بالذات. كما اختلفوا هل نقول: لم يزل الباري مريدا.. وهل يمكن أن نصفه تعالى بالقدرة على الظلم، مثلا. كذلك لهم في خلق الأعمال قولان: أحدهما أقرب إلى أهل السنة، والآخر أقرب إلى مذهب المعتزلة.. وعليه ينبني اختلافهم في الاستطاعة والفعل. والذي يبدو من كلام الإمام زيد في القدر أنه يقول بأمر بين بين، وهو يفرق بين الإرادة والأمر، ولا يرى أنه يُفعل شيء بدون إذن الله.. وهذا كله يجرّ إلى نظرية الكسب الأشعرية.. كثيرا ما نقدها الناس، لكنهم إذا راموا حلّ إشكال القدر، حاموا حول ما قاله أبو الحسن رحمه الله، ولم يزيدوا عليه. كما لهم في مرتكب الكبائر قول واحد، أعني تخليده في النار. الموقف من الصحابة يتفق الزيدية أجمعون على أن عليا (ض) هو أفضل الصحابة على الإطلاق. ثم إن البترية منهم يترضون عن أكثر الصحابة، إلا النادر، لأنهم صححوا خلافة أبي بكر وعمر. يقول النوبختي: «ذكروا أن عليا عليه السلام سلّم لهما الأمر، ورضي بذلك، وبايعهما طائعا غير مكره، وترك حقه لهما، فنحن راضون كما رضي.. لا يحل لنا غير ذلك، ولا يسع منا أحدا إلا ذلك. وإن ولاية أبي بكر صارت رشدا وهدى لتسليم عليّ ورضاه، ولولا رضاه وتسليمه لكان أبو بكر مخطئا ضالا هالكا. وهم أوائل البترية» . أما الجارودية فيضللون أكثر الصحابة، ويرون أنهم تواطؤوا على انتزاع الخلافة من علي.. وقولهم لا يختلف عن الإمامية، كما سنرى ذلك تفصيلا. وهذا خروج بيّن على رأي إمامهم زيد في هذه المسألة. في الإمامة وغيرها قال الشهرستاني: إن الزيدية «ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل: فاطمي، عالم، زاهد، شجاع، سخي، خرج بالإمامة، أن يكون إماما واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن، أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما.. وجوزوا: خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة». لذلك فإن «الزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور، وإزالة الظلم وإقامة الحق. وهي بأجمعها لا ترى الصلاة خلف الفاجر، ولا تراها إلا خلف من ليس بفاسق». وقد اختصر المقبلي -العلامة الزيدي المستقل- مذهب الزيدية في هذا النص: «يخصون الثلاثة المشايخ رضي الله عنهم بالتأويل، ولا يتأولون لمعاوية ونحوه من المخالفين. فكل باغ يجب الخروج عليه. وهذا شيء معلوم من قديم الدهر في الزيدية، وبه انفصلوا عن سائر المذاهب. وليس لهم كبير خلاف بعد ذلك، بل يوافقون المعتزلة في العقائد. وأما في الفروع فأئمتهم يختلفون: منهم من يغلب عليه مذهب الحنفية، ومنهم من يغلب عليه مذهب الشافعي، موافقة لا تقليدا. ومنهم من لم يكن كذلك، بل شأنهم شأن سائر المجتهدين.» فرق الزيدية افترق المذهب على ثلاث فرق، ليس في ذلك خلاف بين كتاب المقالات. 1 - الجارودية: قال إمام أهل السنة: «الجارودية أصحاب أبي الجارود. وإنما سموا جارودية لأنهم قالوا بقول أبي الجارود، يزعمون أن النبي (ص) نص على علي بن أبي طالب بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول (ص)». وعلق عليه الشهرستاني بقوله: «خالف أبو الجارود في هذه المقالة إمامه: زيد بن علي، فإنه لم يعتقد هذا الاعتقاد». وقد تأثر أبو الجارود بصلاته القديمة مع الإمامية. وكان يتصل بمحمد الباقر رحمه الله، فطرده، ولقبه سرحوبا، لذلك يقال لهم أيضا السرحوبية، وفسّره الباقر بأن السرحوب شيطان أعمى يسكن البحر، وكان أبو الجارود أعمى. 2 - السليمانية: يقول الأشعري: «السليمانية: أصحاب سليمان بن جرير الزيدي. يزعمون أن الإمامة شورى، وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول، وإن كان الفاضل أفضل في كل حال. ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر. وحكى زرقان عن سليمان بن جرير أنه كان يزعم أن بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل، وأن الأمة قد تركت الأصلح في بيعتهم إياهما. وكان سليمان بن جرير يقدِم على عثمان ويكفره عند الأحداث التي نقمت عليه.» 3 - البترية أو الصالحية: يقول الإمام الأشعري: «البترية: أصحاب الحسن بن صالح بن حي، وأصحاب كُثيّر النواء. وإنما سموا بترية لأن كثيّرا كان يلقب بالأبتر. يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله (ص) وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لأن عليا ترك ذلك لهما. ويقفون في عثمان، وفي قتلته، ولا يقدمون عليه بإكفار. وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا. ولا يرون لعلي إمامة إلا حين بويع. وقد حُكي أن الحسن بن صالح بن حي كان يتبرأ من عثمان رضوان الله عليه بعد الأحداث التي نقمت عليه». وقد ذكر الشهرستاني أن الصالحية والبترية متفقتان في المذهب، وقد «توقفوا في أمر عثمان: أهو مؤمن أم كافر؟ قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة، قلنا: يجب أن نحكم بصحة إسلامه وإيمانه وكونه من أهل الجنة، وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها: من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان، واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة.. قلنا: يجب أن نحكم بكفره، فتحيرنا في أمره، وتوقفنا في حاله، ووكلناه إلى أحكم الحاكمين. وأما علي، فهو أفضل الناس بعد رسول الله (ص) وأولاهم بالإمامة. لكنه سلّم الأمر لهم راضيا، وفوض الأمر إليهم طائعا، وترك حقه راغبا، فنحن راضون بما رضي، مُسلّمون لما سلّم، لا يحل لنا غير ذلك، ولو لم يرض عليّ بذلك لكان أبو بكر هالكا. وهم الذين جوزوا: إمامة المفضول، وتأخير الفاضل والأفضل: إذا كان الأفضل راضيا بذلك». قال عبد القاهر: «هؤلاء أحسن حالا عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير. وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في مسنده الصحيح». لذلك قال النوبختي عنهم: «هم الذين دعوا الناس إلى ولاية علي عليه السلام، ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر. فهم عند العامة أفضل هذه الأصناف، وذلك أنهم يفضلون عليا، ويثبتون إمامة أبي بكر وعمر». ولا بد في نهاية هذا المقال أن أنقل في هذا المقام كلمة للأستاذ صبحي، وهو دارس خبير بالمذهب. قال بعد كلام: «غير أن هذه الفرق الثلاث لم تصمد خلال عصور التاريخ الزيدي، إذ لا نكاد نجد من بين علماء الزيدية اللاحقين منتسبا إلى فرقة من هذه الفرق. ويبدو أنه لا بد من إمام حتى يستجيب لدعوته المتشيعون، ولم يكن أحد مؤسسي هذه الفرق من بين الأئمة، أيا ما كانت درجتهم في العلم والفضل والجهاد»، يعني بذلك أن المذهب قائم على اتباع إمام فاطمي مجتهد، وليس لأصحاب الفرق نسب علوي، لذلك فعوام الزيدية لا ينقادون إلا لعالم يمثل بشخصه الإمامة. لكن هذا لا يعني انقراض أفكار هذه الفرق، فهي حاضرة في المذهب، لذلك تجد مثلا أن الزيود إلى اليوم يختلفون في الموقف من الصحابة كما اختلفت الفرق الثلاثة.. وقِس على ذلك الأصول الأخرى. كأن الذي جرى هو زوال الحدود بين هذه الفرق، ثم اختلاطها بعضها ببعض، فقد يكون الزيدي بتريا في مسألة، جاروديا في أخرى، سليمانيا في ثالثة.. يتبع...