(1) إشاعة الفخر إن وصف المؤامرة بأنها نظرية جزءٌ لا يتجزأ من المؤامرة. والمؤامرة الكبرى، الحقيقية والشاملة، هي مؤامرة الشيطان على كل إنسانٍ فردٍ وعلى البشر أجمعين. ولكي يضمن الشيطان نجاح خطته يعمد إلى إلهاء الناس بالمؤامرات الصغيرة، حتى لا يركزوا على المؤامرة الأم، المتمثلة في إضلال البشر وسَوقهم إلى الجحيم . وما مؤامرات الماسونية والصهيونية والقوى الشريرة الأخرى، الدولية والإقليمية والمحلية، إلا حلقات صغيرة تخدم الخطة الكبرى. يعلم الشيطان تمام العلم أن التكبر هو أعظم الذنوب، وأول معصية، وأول أنواع الشرك. كان إبليس اللعين أول مَن افتخر وتكبر، وبالتالي كان أول من أشرك - وشركه تكبره - وأول من كفر وفسق، وأول من أغوى، وهو المسؤول – بالإغواء - عن كل ما يقع على ظهر الأرض من شرك وكبر وكفر وفسوق وعصيان إلى يوم يبعثون لذلك يفضل الشيطان أن يتاجر في سلعة قل مثقالها وفدح وزنها: ذرة من الكبر كفيلة بإدخال صاحبها النار. ويريد الشيطان، بإشاعة الفخر، أن يصبح الفرد وعاء واسعاً فارغاً لا شيء يملؤه. بالفخر سيصطرع الجميع، أفراداً وجماعات، وتضيع الحقوق والواجبات. وتغدو الفضائل والمبادئ مظهراً، لا جوهرا، وتصبح الغلبة لأعيان الأشخاص، و لن يعود الناس يحبون الرجل لأخلاقه أو علمه، بل لسلطانه وماله وشهرته. مَن منا لا يظن أنه يملك شيئاً يجعله "أفضل" من غيره، أو "مميزا"؟ ألم يغدو الأمر اعتيادياً أن يقول الشخص: "أنا كذا وافتخر"؟ ومع هذا الفخر، والشعور الطاغي بالتميز، يعتقد الواحد أنه متواضع! تقوم خطة الشيطان – ضمن ما تقوم عليه - على إلهائنا عن معرفة فداحة الكبر وصرفنا عن إدراك أهمية التواضع. ونجحت الخطة نجاحاً منقطع النظير، فنرى الناس وقد زهدوا في التواضع جهلاً بمعناه وبأهميته. تكمن أهمية التواضع في كونه الأداة الأساسية لتقويض خطة الشيطان. لكن لكن نتواضع علينا أولاً أن نعرف ما هو التواضع. الكثيرون يخلطون ما بين التواضع وبين الطيبة والبساطة؛ وما بين التواضع والخنوع، وما بين التواضع والفقر ودناءة المنزلة وعدم الاتقان. فإذا رأى الناس شخصاً رث الهيئة قالوا إنه متواضع؛ وإذا رؤوا منزلا عارياً من الجمال قالوا منزلٌ متواضع؛ وإذا لعب فريق رياضي بمستوى ضعيف، قالوا عن مستواه متواضع...الخ. المستفيد الأول من هذا الخلط هو الشيطان، الذي يقف وراء مؤامرة خلط التواضع بما ليس فيه بغرض التشويش، وسوق الناس إلى النار وقلوبهم مليئة بذرات الكبر. نعرف كلنا تقريباً معنى الكرم والشجاعة والصدق والوفاء وغيرها من مكارم الأخلاق. لكننا نجهل معنى التواضع. التواضع، ببساطة، ألا ترى نفسك أفضل من أحد. يتألف الكِبْر من أمرين حددهما رسولنا الكريم (ص)، هما: بطر الحق (عدم قبوله)، وغمط الناس (احتقارهم). والتواضع هو قبول الحق، مهما كان، وأيا كان قائله، وعدم احتقار أي أحد من الناس. وكل ذي بصر وبصيرة سيعلم أن جميع مشاكلنا تقريباً مصدرها بطر الحق وغمط الناس. يعتقد الناس أن التواضع مجردُ فضيلة من الفضائل، كالصدق والكرم والشجاعة. وهذا سوء فهم خطير. جميع هذه الفضائل إنما هي ركائز وقوائم، مسارها رأسي، لا أفقي. أما التواضع فهو القاعدة، التي تمتد أفقياً، لترتكز عليها جميع الفضائل لتكون لها قيمتها وجدواها. التواضع هو الجدول الرقراق الذي يسقي جميع الفضائل، وبدونه تغدو الفضائل مجرد رياء مجدباً وسمعة قاحلة. جاء الرسول الكريم (ص) ليتمم مكارم الأخلاق، فأي شيء كان ينقصها؟ ألم يكن الكرم موجوداً،والشجاعة موجودة، والشهامة والنجدة موجدوتين؟ بلى، كانت جميع تلك الفضائل موجودة، إلا التواضع لم يكن موجوداً فجاء به الرسول (ص) فتمت به مكارم الأخلاق. كانت أكبر سمات الجاهلية هي التكبر؛ ولذلك عندما قال الرسول الكريم (ص) لأحد صحابته "أنت أمرؤ فيك جاهلية" ما كان من ذلك الصحابي إلا أن مرّغ رأسه بالتراب تواضعاً. التواضع هو معنى العبودية المطلوبة في قوله تعالي: "وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون"، أي ليعبدوني عبوديةً قبل أن يعبدوني عبادةً بالصلوات والزكوات. التواضع هو الإسلام نفسه، الإسلام لله، والإقرار بأنْ لا حول للإنسان ولا قوة. وما منع كلمة "تواضع" من أن ترد في القرآن الكريم إلا ورود كلمة فيه أحسن منها، وأفصح، تستغرقها وتزيد عليها، إلا وهي كلمة "إسلام". جاءت كلمة "تواضع" على وزن "تفاعل"، مثل "تنازل"، ومن معاني تلك الصيغة الافتعال، بيد أن تواضع الإنسان، في حقيقة الأمر، ليس افتعالاً ولا تنازلاً، بل إقرار وإرغام، لذا كانت كلمة إسلام أجدر بالورود في القرآن من كلمة تواضع. لكننا الآن أفقدنا كلمة "إسلام" معناها الذي كانت تُفهم عليه، وأصبح الكثير من الناس يفهمون منها نقيض معناها الحقيقي: التكبر على الناس بحجة أنهم غير مسلمين، والتكبر على المسلمين، بحجة أن إسلامهم غير صحيح. ولم يعد ثمّ من كلمة تقنية نشرح بها معنى الإسلام إلا كلمة "تواضع". ليس التواضع، إذن، هو الخنوع، ولا السذاجة، ولا الطيبة العمياء، ولا القبح، فالله جميل يحب الجمال؛ وإنما التواضع هو العبودية المتدثرة بجمال الله. ومن أراد أبهى صور التواضع فسيجدها في الرسول (ص)، وهو يطلب منا، نحن، أن نسأل له الرحمة من ربه، أي أن نصلي عليه، فصلاتنا عليه قمة تواضعه (ص)؛ وفي أبي بكر الصديق، الذي يتصدى للمرتدين بصلابة السيف ولكنه يخشى على نفسه من نفسه فيقول: ليت أمي لم تلدني؛ وفي الفاروق، الذي كان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع، ولكنه ينقاد للحق حتى حينما تنطق به امرأة من غمار الناس؛ وفي صورة عثمان ذي النورين وهو يتأنق في ملبسه ويجهز الجيوش ويحفظ القرآن؛ وفي علي بن أبي طالب وهو ينال جميع أنواع التشريف ولكنه لا ينسى في أي لحظة أنه خلق من تراب وإليه يعود. صلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. وفي مقابل جهلنا بالتواضع وأهميته، أصبحنا نتعامل مع الفخر وكأنه فضيلة من الفضائل، وكأنه ليس تكبراً محضاً. ويكفي الفخر وضاعةً أن صاحبه لا يحبه الله تعالى: "إن الله لا يحب كل مختال فخور"، بلا استثناء. وأوحى الله إلى نبيه (ص)، أنْ "تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد"، وكان النبي (ص) إذا ذكر عن نفسه شيئاً أردف بقوله: "ولا فخر". ومن حيل إبليس أن دسَّ لنا، في ديوان الشعر العربي، غرضاً كاملاً اسمه "الفخر"، ويكاد العرب يجمعون على الإعجاب بأحد شعرائهم، هو أبو الطيب المتنبئ، الذي أشاع بفخرياته الاستعلاء، كما أشاع الاحتقار والبغضاء بهجائه، لا سيما هجاؤه كافوراً الأخشيدي بسواده ورقِّه. إن الشيطان ليكمن لنا في شعرنا وفي لغتنا ونحن عنه لاهون. وأنت، أيها الفخور، بماذا تفتخر؟ ببلدك؟ لم تختره بل وجدت نفسك مولوداً فيه؛ بأبويك؟ ما زدت على أن خرجت من سبيليهما بلا حول منك ولا قوة؛ بمالك؟ الله هو الذي يسر لك الكد والجهد أو الميراث؛ بعلمك؟ الله علمك ووهبك العقل؛ بدينك؟ الله هداك وما كان لك أن تهتدي لولا أن هداك الله. فاشكر ولا تفتخر. يعرف الشيطان أن التواضع هو السبيل الوحيد لخلاص البشرية. يأتينا الشيطان عن اليمين والشمال ومن الأمام والخلف: "ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" (الأعراف/17). لكنه لا يأتينا من فوقنا ولا من تحتنا. فهو وإن أحاط بنا من جهات أربع، فقد ترك لنا، مضطرا، جهتين للنجاة: هما الأسفل والأعلى. وهذا بالضبط هو الضعف المراد في قوله تعالى "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء/76). ضعف الشيطان ليس أمامك أنت أيها الإنسان، مثل كيد النساء، وإنما هو ضعفٌ أمام كيد الله المتين. فلو كان الشيطان يأتينا كذلك من فوقنا ومن تحتنا لكان كيده قوياً حقا، ولما وجدنا سبيلاً للهروب منه. ورحم الله الشيخ الشعراوي لإشارته لهذا المعنى في أحد دروسه. لا يستطيع الشيطان أن يأتي من أعلى، لأن هناك يد الله ترفع من تواضع لله ولخلقه؛ ولا يستطيع الشيطان أن يأتي إلينا من أسفل، لأن هذا موضع السجود، موضع العبودية، موضع التواضع؛ والشيطان لم يسجد، ولم يتواضع. إنْ أردنا النجاة فعلينا أن نظل دائماً في هذا الموضع: موضع السجود والتواضع. مِمَّنْ الفرار في قوله تعالى: "ففروا إلى الله" (الذاريات/50)؟ من الشيطان الرجيم. وما مِن وسيلة للفرار من الشيطان إلا التواضع. إنه مركبة النجاة الوحيدة التي لا يلتقطها رادار الشيطان.