ليس المرء هو الذي يختار مكانه ومكانته في عيون الناس وقلوبهم واهتمامهم.. ولكن بإمكانه أن يختار الطريق للوصول إلى قناعاتهم، فالحكمة أن لا تعلو تكبرا فوق أحد، ولا تهبط ذلا عند أقدام أحد، والحكماء يقولون: كلما ازداد الإنسان حكمة ازداد تواضعا..لأن حكمة التواضع يقينا ترفع من شأن صاحبها عند العقلاء.. والتواضع مع الناس ينطلق من حقيقة أنك لست أفضل منهم مهما كانت رتبتك أو علمك أو عبادتك.. ولا يضيرك إطلاقا أن يتساوى رأسك مع كل الرؤوس الحكيمة والمتواضعة..لكن ذلك يرفعك في عيون الناس أكثر...قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد". والناس يجدون في واقعهم أنه كلما تواضع الانسان وذل لإخوانه من غير خضوع، أنه يرتفع شأنه بينهم ويكرمونه ويكون مقدما بينهم، بل حتى عبر التاريخ، لا توجد شخصية عظيمة قيادية أحبها الناس والتفوا حولها إلا وتلحظ أنها شخصية متواضعة لا تعرف الكبر ولا التعالي على الخلق.. كثيرون يعتقدون أن التواضع فضيلة أخلاقية، وهو كذلك بالفعل، لكن المؤكد أنه ضرورة حياة، لأنه في غياب التواضع تغيب الرؤية الصحيحة، ولذلك فالتواضع فن، تمارسه الشخصية في تواصلها مع غيرها، عن طريق وجهها، وفي مصافحتها، وفي سلامها، وفي جلستها، وفي ابتسامتها، وفي مقابلتها، وفي ركوبها، وفي خدماتها، وفي ملابسها..مع كل الأعمار، ومع كل الأحوال ... في مفهوم التواضع ليس هناك مفهوم محدد ينفتح على ما يسمح به مفهوم التواضع من مقاربات ومعالجات، لأن "التواضع" بكل بساطة مفهوم جوهري لا يعرفه ويقربه إلا من بلغ درجات عليا من الحكمة والتبصر والمعرفة بحقائق الكون والانسان والمجتمع والحضارة. حيث ينطلق المتواضع عبر سلوكاته التي تتجسد في مستوايات عديدة ومتنوعة من تجذر الانسانية بكل معانيها الراقية. عالجت حكمة لقمان موضوع التواضع من زاوية الحق الشامل الذي يحيل على القول والفعل والوجود، حين يقول :يابني تواضع للحق تكن أعقل الناس. بينما نعثر عند الإمام الشافعي على مقاربة أخرى للتواضع إذ يقول :"لا ترفع سعرك فيردك الله إلى قيمتك. ألم تر أن من طأطأ رأسه للسقف أظله وأكنه، وأن من تمادى برأسه شجه السقف". في تقريب بليغ لإحدى أهم خصائص التواضع، حيث يجعل صاحبه دائما سالما معافى ، لأنه يختزل في ذاته جُنة الوقاية ووشاح السلامة. وفي قولة منسوبة لعروة بن الورد نلمح البعد الذكي الذي استرخجه هذا الشاعر الجاهلي من سلوك التواضع، وهو يقول فيها :"التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها إلا التواضع". وعموما فالتواضع من أخص خصال المؤمنين المتّقي، هو هدوء وسكينة ووقار واتزان، ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة...، هو بالنهاية قدرة الفرد على إذابة الفوارق بينه وبين الآخرين. من صور التواضع مع الناس: – خدمة أهل البيت:كان صلى الله عليه وسلم في بيته في مهنة أهله، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقُمُّ البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق. – الجلوس مع المساكين ومآكلتهم وخدمتهم: كان دواد – عليه السلام – يدخل المسجد فينظر أغمط حلقة من بني إسرائيل يجلس إليهم، ثم يقول: مسكين بين ظهراني مساكين، وكذلك كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيئ إلى المساكين فيقعد معهم ويقول: يارب مسكين مع المساكين. – عدم التميز بالخدمة من أجل رتبتك بين الناس:لقد كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ينقل التراب مع أصحابه عند حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك. فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين. قال: لا اركب وأركب خلفك.. تريد أن تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن؟! فركب خلف الغلام. وكان عمر بن عبد العزيز يكتب ذات ليلة شيئًا وعنده ضيف، فماد السراج ينطفئ، فقال الضيف: هل أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: لا، ليس من الكرم استخدام الضيف، قال: هل أنبه الغلام؟ قال: لا، هي أول نومة نامها، فقام وجعل الدهن في المصباح، فقال الضيف: كيف قمت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر. – خفض الجناح للمؤمنين:عن أبى رفاعة تميم بن أٍسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت يا رسول الله: رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسي، فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.وعن أنس: إن كانت الأَمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها. – إجابة دعوة الفقراء والضعفاء:ولو على أقل شيء وإظهار السرور، وعدم التأفف من ذلك.عن أنس رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار. – السعي في قضاء حوائج الناس، ومساعدتهم:مر عمر بن الخطاب على امرأة وهي تعصد العصيدة، فقال: ليس هكذا يعصد، ثم أخذ المسوط، فقال هكذا، فأراها. – عدم الجلوس في الصدارة بين الناس:بل بين عامتهم، وحيث ينتهي بك المكان.. قال عمر بن الخطاب: رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت من المسلمين، وأن ترضى بالدون من المجلس، وأن تكره أن تُذكَر بالبر والتقوى. – لا تخبر أحدًا بحقيقتك وبخاصة إذا ما كنت صاحب منصب أو شهرة، واترك الناس يعاملونك حسب ما يرون:كان سلمان الفارسي أميرًا بالمدائن، ومر برجل من عظمائها قد اشترى شيئًا، فحسب سلمان حمالًا، فقال: تعالى فاحمل هذا، فحمله سلمان، فجعل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح الله الأمير، نحن نحمل عنك، فأبى أن يدفع إليهم، فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أسخر إلا الأمير، فجعل يعتذر إليه ويقول: لم أعرفك أصلحك الله، فقال: انطلق، فذهب به إلى منزله، ثم قال: لا أسخر أحدًا أبدًا. – عدم الاستنكاف عن ذكر ما ينقصنا: من أخطاء وقعنا فيها، أو فشل صادفنا، والتعود على التلقي من الجميع، وسؤال الآخرين عما نجهل أيًا كان وضعهم، كالأبناء في البيت، والمرؤوسين في العمل .. والتعود كذلك على قول: لا أدري، لما يخفى علينا من الأمور. قال زاذان: خرج علينا علي بن أبى طالب رضي الله عنه يومًا وهو يمسح بطنه وهو ويقول: يا بردها على الكبد، سئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم، والله أعلم. –تقدير الآخرين وإشعارهم بقيمتهم:وإبراز أعمالهم ونجاحاتهم، وبخاصة في غيابهم، وحسن الإنصات وعدم مقاطعة المتحدث، ولو كان حديثه معروفًا لدينا:حدث رجل بحديث، فاعترضه رجل، فغضب عطاء بن أبى رباح وقال: ما هذه الأخلاق، ما هذه الطباع؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه، ولعسى أن يكون سمعه مني، فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك. – مؤاخاة المؤمنين أيا كانت رتبتهم وقبول أعذار المعتذرين وإن كانت واهية، وحسن الاستماع إلى نصيحة الناصحين وعدم ردها. سر التواضع التواضع عند كثير من الناس هو الطريق الذي يدل على السعادة الحقيقية لأن من يعرف نفسه، ويقدر الآخرين لن يتكبر عليهم، وقال علماء الاجتماع بأن أقصر الطرق للتواضع هو معرفة الشخص لنفسه وحدود إمكانياته وعدم تجاوز الخطوط الحمراء الإجتماعية. وأضافوا بأن اجتماع هذه الأمور في الشخصية تجعلها محبوبة لأن فيها تواضعا ومتى شعر الشخص بأنه محبوب فإنه سيشعر حتما بسعادة حقيقية ليس فيها شوائب.كما أن محاولة معرفة الآخرين يعطيهم الانطباع بأنهم على قدر من الأهمية، وإذا أشعرت الآخرين بأنك مهتم بهم فإنهم سيحبونك ويعتبرونك شخصا متواضعا غير متكبر أو ناكرا لأهمية الناس في المجتمع... الدكتور أحمد كافي (أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية): التواضع مقام من مقامات الإيمان وشعبة من شعبه التواضع مقام من مقامات الإيمان وشعبة من شعبه، يعرف الإيمان بعلاماته وشعبه ومنها التواضع. وبإمكاننا أن نقول: إن التواضع أدب وخلق من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي دعت لها النصوص الشرعية سواء من خلال الحث عليه، أو من خلال نماذج الشخصيات الكبيرة من الأنبياء والرسل والصالحين الذين تحلوا به في حياتهم. وأما عن كيفية إتقانه واكتسابه، فذلك في نظرنا يتوقف على الآتي: 1 فقه النصوص الشرعية التي تدعو إليه، وتظهر فضائله وحسناته. 2 مرافقة المتواضعين من أهل العلم والصالحين. 3 قراءة قصص المتكبرين وما كان من مرارة كبرهم، ووخيم عواقبها عليهم. 4 مراقبة النفس بتدريبها على خلق التواضع حتى يعود شيئا عاديا في حياتها. لمن نتواضع؟ 1 نتواضع لدين الله عز وجل، وذلك بعدم الاعتراض على أحكامه، أو رفض شريعته، أو معاكستها ومحاربتها. فذلك كله ينم عن الكبر. ويظهر أن العبد متكبر على ربه، غير راض على أحكامه، متهم إياها بالتقصير. قال صلى الله عليه وسلم:" وما تواضع أحد لله إلاَّ رفعهُ الله"(رواه مسلم). 2 التواضع للحق: لا يجوز أن يتكبر الإنسان على الحق إذا أظهر الله تعالى على لسان بعض عباده. كثيرون يردون الحق عنادا وكبرا أن كان من جهة فلان أو فلان، والمسلم هو الذي يذعن للحق ويقبله، ولا يعاديه لأنه لم يكن من جهته. وكان لقمان يوصي ابنه بالتواضع كما في القرآن الكريم، وكان مما أثر عنه أنه قال له: يا بني، تواضع للحقّّ تكن أعقل الناس. 3 التواضع للخلق: إذ البشر جميعا يستوون في العبودية لله، فالخلق كلهم عباد الله. فلا يجوز أن يتكبر على أحد من عباد الله بمال أو نسب أو خِلقة أو علم أو فضل .. ومن التواضع للخلق التواضع لكبار السن ومساعدتهم والتذلل لهم، قال صلى الله عليه وسلم:" إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم". متى يكون التواضع عزا ومتى يكون ذلا وصغارا؟ كل شيء يوضع في غير محله لا يؤدي الغرض منه، ولا يبقي على حقيقته. فالتواضع يكون عزا إذا كان لدين الله عز وجل أو للحق أو للخلق. أما إذا لم يكن لهذه الثلاثة فإنما هو تصنع له، وتظاهر به، لا يرتفع به الإنسان عند ربه أو عند الناس. لأنه ذلا ومسكنة. ويكون التواضع ذلا في المواقف الآتية: 1 عند التذلل والانكسار لأهل الظلم، أو لأهل المال، بتصويب أفعالهم وأقوالهم التي تخالف الشريعة أو العقل والمنطق. فليس مثل هذا من التواضع في شيء. وإنما هو ذل السطوة والمال التي يحرص البعض عليهما ويطمع فيهما وفي منافعهما باحتقار نفسه. 2 قبول الإهانة من الناس ليس من التواضع في شيء بل هو ذل يقبله البعض. إذ متى دعت الشريعة الناس أن يهانوا ويقبلوا الإهانة ويحتقروا أنفسهم؟! إن من حق النفس على المسلم إكرامها من غير ظلم أو اعتداء. وقديما قال القاضي الجرجاني: أرى الناس مَن دَاناهم هَان عندهم ومَن أكْرَمَتْه عِزّة النَّفْسِ أُكْرِمَا وقال المتنبي: من يَهُن يَسْهُل الهوان عليه ما لِجُرْح بِمَيّتٍ إيلامُ