الإعلان عن ميلاد دولة جنوب السودان بموجب قرار أممي يعيد إلى الواجهة الحديث عن استفتاء آخر جنوب المغرب دعا إليه مجلس الأمن قبل عقدين من الزمن ولم يتم العمل به، على خلاف نجاح الاستفتاء الأول. مجلس الأمن الذي قرر الاستفتاء في السودان، قرر يوم 29 أبريل 1991، في قراره 690 (1991) إجراء استفتاء مماثل جنوب المغرب. وكان مقررا أيضا أن يجري في يناير من عام 1992، أربعة عشر سنة قبل إصدار قرار الاستفتاء في السودان. فلماذا تم تطبيق الاستفتاء اللاحق في السودان وتم تجاوز العمل بالاستفتاء السابق في المغرب. السبب أنه لا وجود إطلاقا لأي وجه من أوجه الشبه بين الحالتين موضوع الاستفتاءين إذا استثنينا كون الاستعمار هو من خلق المشكلتين، لكن بشكل مختلف أيضا. الاستعمار الاسباني حاول بتر جنوب المغرب من شماله والاستعمار البريطاني على خلاف ذلك قرر ضم الجنوب لشمال السودان. هذا الإلصاق لم يرغب به الجنوبيون ولم يلق الترحيب كذلك من كل الشماليين لوجود أوجه اختلاف وتنافر بين الطرفين وصلت حد حمل السلاح بسبب الاسترقاق ومختلف أنواع الإقصاء والتهميش من طرف الشماليين للجنوبيين. بمناسبة اجراء الاستفتاء الذي انفصل بموجبه الشمال عن الجنوب أقام الطيب مصطفى رئيس منبر السلام العادل الاحتفالات في اليوم الأول ( 11 يناير) من التصويت وذبح الثيران. وقال بهذه المناسبة “كان خطأ كبيراً أن يضم البريطانيون الشمال والجنوب، ما كان مثل زواج بين القط والفأر". وتابع "إن على هؤلاء أن يذهبوا حتى يستطيع الشماليون تنظيف المنزل" في إشارة إلى الجنوبيين. إذا كانت مثل هذه العبارات تضمر النظرة الدونية لأهل الجنوب، فإنها لا تخفي ما يشعر به شماليون آخرون يعتبرن عاطفيا انفصال الجنوب بمثابة قطع جزء من الجسد الواحد. من منظور موضوعي، يرى عقلاء في شمال السودان كما في الجنوب بضرورة هذا الانفصال الذي لم يفرضه سوى الاستعمار. شمال مسلم غالبيته من العرب وجنوب افريقي غالبيته من المسيحيين والارواحيين. الاختلافات الدينية، العرقية، اللغوية والثقافية، ليست عوامل بناء وحدة الوطن في أي بلد. الاختلال كان ظاهرا وجليا بين الشمال والجنوب، في شكل قوانين تمنع الجنوبي من تولي مناصب مدنية أوعسكرية في هرم الدولة. كما لم يكن مسموحا للإطار الجنوبي تولي أي منصب دبلوماسي. اندلعت حرب أهلية بين شمال وجنوب السودان من 1953 إلى 2005 تاريخ إقرار الاستفتاء وخلف التطاحن الأهلي ثلاثة ملايين قتيل، أي نصف ضحايا الحرب العالمية الثانية. حجم الكارثة الإنسانية يكبر إذا أضفنا إلى هذا العدد من القتلى عددا مماثلا من الأرامل والأمهات الثكلى والأيتام ومعوقي الحرب. ألم يكن الانفصال أرحم، بغض النظر عن خلفياته السياسية الاقليمية والدولية. ربما لهذه الأسباب نجح مجلس الأمن الدولي في إقرار الاستفتاء في جنوب السودان. على نقيض الحالة السودانية، كان تقرر اجراء الاستفتاء في المغرب، وتم تجاوز العمل به لعدة صعوبات تقنية واجهت عمل اللجنة الأممية الخاصة بالاستفتاء، منها ما يتعلق بصعوبة تحديد الناخبين المؤهلين للمشاركة فيه. أبدى المغرب قبوله رسميا بإجراء هذا الاستفتاء، وهناك من يعتقد أنه أخطاء في ذلك القرار، لأن الاستفتاءات لا تقود إلا للانفصال. لكن دوائر القرار ترد ذلك القبول بكونها تعرف أن النتيجة الطبيعية لهذا الاستفتاء لن تكون إلا لفائدة القضية المغربية: "تأكيد مغربية الصحراء". ماتت فكرة الاستفتاء هذه، لأنها لم تقم على نفس الأسس الموضوعية التي قام عليها الاستفتاء بجنوب السودان. الأوضاع مختلفة تماما ولا قياس مع وجود الفارق. يتعلق الأمر في المغرب بوحدة وطنية يطبعا التنوع وليس الاختلاف الحاد. تتعايش اللغة العربية واللغة الأمازيغية بالمغرب منذ قرون، وتمتزج العربية بكلماتها مع الأمازيغية بتركيبتها لتعطينا اللسان الحساني في الجنوب بنطق عربي مخالف. الكل يدين بالإسلام وهو الدين الرسمي للمملكة المغربية. ليست بالمغرب عنصرية تفصل بين الشمالي والجنوبي، أو تحدد نظرة هذا إلى ذاك. الدستور أوالقانون الأسمى للدولة يساوي على حد سواء بين جميع المواطنين، في الحقوق والواجبات. إجمالا، يمكن القول إن المؤهلات والكفاءات هي ما يحدد تولي المسؤوليات وليس الانتماء الجغرافي. ولو كان الأمر كذلك لما تم تعيين "احميدو ولد سويلم" القيادي السابق في البوليساريو سفيرا للمملكة المغربية باسبانيا أخيرا. تاريخيا، يمكن القول أيضا إن كل السلالات التي حكمت المغرب إلى اليوم قدمت من جنوبه. الملك محمد السادس بدوره يعتبر سليل الأسرة العلوية التي جاءت من تخوم جنوب شرق المغرب، بالراشيدية حاليا. جغرافيا، يعتبر جنوب المغرب امتدادا طبيعيا لأرض المغرب وتحت حكم ملوك المغرب، والمغاربة لا يعدمون الأدلة والبراهين التي وحدت وطنهم تحت راية واحدة وهي الحجج التي اعتمدتها محكمة العدل الدولية ب"لاهاي" لتقديم رأيها الاستشاري عام 1974 حول مغربية الصحراء بعد عقد 27 جلسة علنية من 16 اكتوبر إلى حدود 30 يوليوز 1975. ليست هناك مقومات شعب وخصوصيات منطقة ترسم فاصلا تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وبشريا وإثنيا ودينيا عقائديا كما هي الحالة بين شمال السودان وجنوبه. كل ما في الأمر، هناك أطماع سياسية تسخر لها الدولة الجارة شرذمة ثبتت على رأسها المدعو عبد العزيز المراكشي رئيسا، ووضعت رهن إشارته أموال البترول والإعلام وقنواتها الدبلوماسية والسياسية على مدى عقود من الزمن، دون أن تقنع هذه المسرحية المطولة أعضاء المجتمع الدولي الذي يجمع على جدية الطرح المغربي في معالجة المشكلة.