[هذه قصة صاغها الكاتب تحكي واقع امرئ تردت حياته بين الصغر والكبر، مع بيان منحى الاتجاه الصائب في التعامل مع مناحي الحياة ودروبها] أحلام نفكر فيها ونحن صغار، ونعمل لتحقيقها ونحن كبار، لكن هناك مصير آخر مصير الأقدار، يغير المنحى والاتجاه والوجهة ويجرها نحو وجهتها المعلومة كسيلان الأنهار، ليس دائما هذا التغيير يحدث، بل أحيانا توافق بمقدار، وأحيانا أخرى تخالف على مضض وإن كنت من الأخيار. لكن التوكل على الواحد القهار، هو النور الذي يشع في درب المواصلة مع تلك الأقدار، في جميع الأعصار والأمصار، ما دام الليل والنهار(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور، 35]. فليس هناك مخرج إلا اتباع هداية صاحب هذا النور، إذ تلك تجارة لن تخور ولن تبور، ولا يقدم عليها عصر ولا تنقطع بانقطاع النور، مستمرة بين خلق الله دائما وأبدا في كل العصور. والحياة ليست الطريق فيها سليمة من الأشواك، وليست خالية من المحن؛ كل المحن، ولم يخلق الإنسان في هذا الكون الفسيح الأطراف ببره وبحره، وسمائه وأرضه، ونجومه وكواكبه، من أجل أن ينال الراحة، أو تكون الراحة من نصيبه (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق، 6] فالكدح مشقة وعناء، إلى الخروج من دار الفناء، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد، 4]، والكبد التعب والمشقة لنيل ذخر العلاء... مخطئ تمام الخطأ من لديه هذا التفكير الساذج المتواضع في نظرته إلى الحياة التي تستلزم عدة وعتادا، وقوة وأداة؛ لمواجهاتها ونيل قسط من بركاتها وخيراتها في التردد بين ظل ظلام دامس ونهار بشمسه متحمس. (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [يونس، 67]. لقد عشنا صغارا محتضنين وتربينا مع أبناء الحي الواحد لاعبين فرحين غير مبالين ولا مدركين بما في هذه الحياة من عتبات وعقبات تنتظرنا؛ ... فترتسم على وجوهنا براءة الطفولة معبرة بصدق عن ملامح خلو من تلك المشاكل والتفكير في ضروريات البيت ومصاريف الدراسة وتبعات النقل اليومي ... تلك عتبات كان يحس بها آباؤنا ونحن حينها في غفلة ساهون نطلب ونلح إن لم توفر لنا الدراهم ... نبكي إذا لم نحصل عليها ونصارع الأرض بأرجلنا حتى نحفرها احتكاكا للحصول على درهم لشراء حلوة يعاني الأب في درهم شرائها عرقا ، يشتغل بالنهار ويفكر بالليل؛ لا ينسدل جفينه على عينيه إلا وهو يعاني مرارة التفكير في لقمة عيشك، ومصاريف تنقلك، وأغراض ملابسك،... وجميع تبعات احتضانك ... دام الأمر على ذلك لسنوات وفي يوم من الأيام وبعد بلوغنا إلى مستوى الإحساس والرشد والنضج بدأنا ندرك أن الأمور ليست كما كانت في ضمائرنا أيام الطفولة تلك؛ بحلوها ومرها، بفرحها وسرورها، بجلائها وغموضها ، لكننا ودعناها الآن على أنغام من قول الشاعر: دع عنك ما قد فات في زمن الصبا ** واذكر ذنوبك وابكها يامذنب1 لكن صرنا الآن نفقه أن الحياة ذات أودية كثيرة، وذات مسالك عديدة، فلا يمكنك التخلص منها أو التغلب على تبعاتها ومقتضياتها إلا إذا واجهتها بكل ما أوتيت من قوة، وأن تكون قاسيا بما يكفي لتقف في وجه رياحها العاتية ولكي تكون رجلا فيها يجب أن تزيح عن كاهلك التفكير في الراحة، لأن الحياة تعب .كما قال الشاعر: تعب كلها الحياة فما** أعجب إلا من راغب في ازدياد هكذا التحقنا بأيام الجامعة ونحن مدركون أن الأمور بدأت تأخذ مسارها نحو التفكير الجدي الخالي من العبث المرسل في دنيا الناس هذه، حتى وإن ارتسمت على وجهك ابتسامة فأنت في قلبك تحمل ألف هم وحزن، مثل الأسد الذي يكشر عن أنيابه فلا تظنن أن الليث يبتسم كما قال الشاعر: إذا رأيت نيوب الليث بارزة ** فلا تظنن أن الليث يبتسم أو على غرار قول شاعر آخر: لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ** فالطير يرقص مذبوحا من الألم هنا بدأ القمر يفقد ضوأه وبراءة ابتسامة الطفولة المكسوة بالنور تلك بدأت تخفت قليلا قليلا ... وتحس وأنت تسير في الطريق بعثرات تعرقل رجليك، وتحاول أن تمنعك من المضي قدما، ويتمثل لك الكسل رجلا يقول لك لا تفعل، ... ويناديك الشيطان أن ارقد في مكانك ماذا سيفيدك ذلك، ... وتناديك نفسك يا هذا إلى أين تسير، مالك في درب التعب نجاح ... وينصحك الناس بنصائح كل يبدي لك وجهة نظره، فمنهم الناصح المحب، ومنهم المرغب الصدوق، ومنهم الجاهل العنود، ومنهم قليل الخبرة ... ومنهم ... ومنهم ... وبعدها تسمع متطلبات الحياة تناديك من هنا وهناك كل منها يقول لك أنا أريد كذا !...أنا أريد كذا ! ... وأنت تقف في هيام تام ودوار يزيغ بصرك ويبلغ قلبك حنجرتك وكأنك من الحاضرين في عزوة الأحزاب، رغم ذلك تقف مستمعا في وسطها كمثل مجموعة من الذئاب تريد أن تمتص دمك لتأكل بعدها لحمك، وتخرجك من بطنها وقد حولتك إلى روث تستفيد منه الأرض لإنبات الربيع... لم تعد الحياة مدينة فاضلة تلك التي عشنا إحساسها أيام الصبا بين دروب الحي وأزقته بين أحضان الأم ورفقها، وبين احتضان الأب ورقته. لا،... لا، بل صار العيش سعيا وراء الرزق، وكسب القوت، والعمل بجد حتى تدخر قوتك وتقتاته ... وعلمنا أن للحياة دروبا وأزقة لا يسلكها المرء إلا إذا كان على دراية بما تؤدي إليه تلك الدروب، وبما تنتهي عنده، ... وإلا رضخ لها وجعلها تمتص منه حيويته ونشاطه وجعلته كئيبا جرينا لا يدري أي المسالك يسلك؟ وأي الأبواب يطرق ؟ فهو عمي بكم صم ، أو بالأحرى استوت في عينيه الأنوار والظلم كما قال الشاعر وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ** إذا استوت عنده الأنوار والظلم. أجل؛ بتنا الآن لا تستطيع أحيانا أن نقدم أو نأخر، أو نفكر أو نقدر ... تبدأ الحياة تتسلل منك خفية شيئا فشيئا قليلا قليلا، يلتقي بك الذين ليسوا على دراية بنفسيتك وجاهلين لبواطنك فيعبرون لك عن شعورهم الظاهري نحوك قائلين: لقد صرت نحيفا يا هذا .. ثم يتبعون ذلك بسؤال بات من الطبيعي ترداده ما الذي حدث لك؟ سؤال أشبه ما يكون بترداد الببغاوات التي لا تعي ما تقول، ولا تشعر بأفعالها إلى أين تؤول، وهل يستطيعون أن يغيروا قدرك؟ أو أن يفعلوا شيئا لك وأنا غائب في أحشاء مشاكل الحياة الغائبة عن العقول؛ كل العقول التي لا تعلم ما تقول؟ المهم على الأقل تحس منهم أنهم يشاركونك مشاكل حياتك، رغم أنهم لن يقوموا بشيء ذي بال في حقك، فدعك من الخلق، واجعل الخالق معينك في همك، واقتسم معه كل لحظة في حياتك، الناس يعدون فيخلفون، ووعده لا يخلف، الناس يضمنون فيفرطون وضمانه لا يضيع، الخلق يتبدل عليك ويخونك، وهو يكون معك رحيما حليما .... فأين تجد مثله ... سبحانه ... سبحانه ... فكيف لا وهو القائل (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة، 186]وهو القائل (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر، 53] إذ نحن في النهاية نعتمد على مسبب الأسباب، وخالق الخلق وأولي الألباب، ولولا اعتمادنا عليه لكفرنا بالكثير من الخلق ولاعتبرناهم يستغلوننا (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق،3]. ولن نكون كما قال زهير بن أبي سلمى: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش** ثمانين حولا لا أبا لك يسأم فلم نيأس ولم نقنط ما زال أملنا كبير في الكبير، ورجاؤنا قدير في القدير، ولولا الأمل لمتنا أحياء ولعشنا أمواتا. ونختم القصة بقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وتيهاً ** وكدتُ بأخمصي أطأ الثريّا دخولي تحت قولك يا عبادي ** وأن صيَّرت أحمد لي نبياً ...انتهت القصة... 1-مجموعة القصائد الزهديات لأبي محمد السلمان ج:2، ص:479، مطابع الخالد للأوفسيت – الرياض 1409ه.