(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53 مما يساعد الإنسان، وهو في كبده للقيام بمهام الخلافة في الأرض لعمارتها وفق غايتي الاستقرار والمتعة، تذكر رحمة الله تعالى القريبةٌ من المؤمنين، حين بشَّر عباده الذين وقعوا في معصيته وأسرفوا في ارتكابها، ثمَّ أتَوْه تائبين، فقال تعالى: (قُل يا عبادي الَّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنَّ الله يغفر الذنوب جَميعًا إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ). فيا أيها العاصي لا تستسلم لعقدة الإحساس بالذنب، فالله تعالى (هو الغفور الرَّحيمُ). فإن قلت: إنني مسرف على نفسي كثيراً. فالدعوة للمسرفين! (قُل يا عبادي الَّذين أسرفوا...). وإن قلت: ذنبي عظيم لا يغفر. فالدعوة تقول (يغفر الذنوب جميعاً)! فمتى ستعد طاعتك ... وتسترد بها بسمتك ... وتعلو بها في واحة المطمئنين همتك ... لُذ إلى الله ... ولا تتأخر عن الدعوة ... فتحرم خيرها ... والإسلام عندما يحرم على الناس اليأس إنما يريد استنهاضهم كلما ضعفت قواهم ونزلت بساحتهم الكوارث والمصائب. رجاء يعم المؤمنين والعصاة والكفرة يقول العلماء هذه أرجأ آية في كتاب الله! فقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله). وقال عبد الله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن. فهذه الآية قد أشرعت أبواب الأمل في وجوه اليائسين وضمنت خط العودة للتائهين. قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. ويؤكد القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، بذكره لمجموعة من أسباب نزول الآية تجمع على أنها تعم المؤمنين والكفار، فروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) ذكره البخاري بمعناه. شرط التوبة في مغفرة جميع الذنوب وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16 / 18 22): والمقصود هنا أن قوله (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) فيه نهي عن القنوط من رحمة الله تعالى وإن عظمت الذنوب وكثرت، فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه ولا أن يقنط الناس من رحمة الله. قال بعض السلف: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجريهم على معاصي الله. فإن قيل : قوله (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) معه عموم على وجه الإخبار فدل أن الله يغفر كل ذنب، ومعلوم أنه لم يرد أن من أذنب من كافرٍ وغيره فإنه يغفر له ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذ كان الله أهلك أمماً كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمَّة مَن عُذِّب بذنوبه إما قدراً وإما شرعاً في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال تعالى (من يعمل سوءاً يجز به) وقال (فمن يعمل مثقال ذرَّةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرّاً يره)، فهذا يقتضي أن هذه الآية ليست على ظاهرها، بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعا أي: ذلك مما قد يفعله، أو أنه يغفره لكل تائب. وقال ابن القيم: فإن الشرك داخل في هذه الآية، فإنه رأس الذنوب وأساسها، ولا خلاف ! أن هذه الآية في حق التائبين فإنه يغفر ذنب كلِّ تائبٍ أي ذنب كان. وقال ابن كثير: وهذه الآية التي في سورة تنزيل أي : الزمر مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أيِّ ذنب! وقد تكرر منه: تاب الله عليه، ولهذا قال (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) أي: بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك : لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك !! لأنه تعالى قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك! وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء! بين اليأس والأمل فأن تكون الإنسان الذي يعيش الأمل في عقلك وقلبك يساوي أن تكون مؤمناً، وأن تكون الإنسان اليائس يساوي أن تكون كافراً، وليس من الضروري أن يكون الإيمان والكفر بشكل مباشر فقد يكون بشكل غير مباشر، ولذلك فلا بد للإنسان المؤمن، حتى لو تجاوز الحدود المعقولة في الذنب، لا بد أن يفكر أن الله قد فتح التوبة بأوسع مما بين السماء والأرض. واليأس والأمل قد ينطلقان بالنسبة للإنسان الذي عاش المعاصي وأحاطت به ذنوبه، وقد تحصل للإنسان الذي يعيش حركة حياته بكل طموحاته، وبكل حركتها وفي كل مشاكلها في المرحلة الأولى، والله يريد من الإنسان أن لا ييأس من رحمته. تدبر للآية (قل يا عبادي) في بعض الآيات تشعر بأن الكلمة الربانية مملوءة بالحنان (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، والإسراف على النفس هو تجاوز الحد، (لا تقنطوا من رحمة الله) لا تقولوا لقد قطعنا شوطاً كبيراً في المعصية ولن يرحمنا الله، لأن شأن ربكم الذي عصيتموه وأسرفتم في معصيته، شأنه المغفرة والرحمة (إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) وهكذا ينبغي للإنسان أن يعيش الأمل بعفو الله ومغفرته، ولكن لا بالمستوى الذي يستسلم فيه لأحلام العفو والرحمة بحيث يدفعه ذلك إلى استسهال المعصية كالكثيرين من الناس الذين يسوفون التوبة، ويستعجلون الذنب، ويقولون غداً نتوب، فالشاعر يقول: لا تقل في غد أتوب لعل الغد يأتي وأنت تحت التراب فمن يا ترى يضمن لك أن تتوب في الغد، فقد لا تحيا في الغد، أو إذا حييت فقد لا توفق، لذلك لا بد أن يعيش الإنسان بين نور خيفة ونور رجاء، هذا التوازن بين الخوف والرجاء هو الذي يدفعك إلى الطاعة ويمنعك عن المعصية ويمنعك عن اليأس، ولا سيما الشباب الذين يعجل اليأس إلى حياتهم عندما يواجهون مشكلة عاطفية أو مشكلة عائلية أو مادية أو ما إلى ذلك، فإنهم ييأسون لأن الحياة لم تكن قد اتسعت لهم ليعرفوا طبيعتها وقوانينها، وليعرفوا إن (مع العسر يسرا) وأن مع الشدة فرجاً، لذلك قد ييأسون وقد يدفعهم اليأس إلى الانتحار، كما نلاحظ ذلك لدى الكثير من الشباب. القرآن الكريم يريد بقاء الرجاء حيا في النفوس إن علينا كأمة مسلمة أن نعي واقعنا ونزداد معرفة بديننا العظيم، ونعمل بما علمنا بنفوس مملوءة بالأمل، وندعو له بالحكمة والموعظة الحسنة، معتمدين على الله متوكلين عليه حق التوكل. فعملنا الدائم، وسلوكنا الموافق لما ندعو الناس إليه عون لنا ولمن نلقى على أن يطردوا شبح اليأس من أمام أعينهم. وللقضاء على الشعور باليأس والقنوط من غفران الذنوب يبقي القرآن الكريم الباب مفتوحاً أمام العاصين لكي يعالجوا ما صدر عنهم وهدايتهم إلى الحق والنهج القويم وهكذا يعمر قلب العاصي الأمل بالمغفرة الإلهية حينما يسمع قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم). في ضوء ما ذكر يعيش المذنب حالتي الخوف والرجاء بصورة متوازنة، فهو خائف من ذنوبه واحتمال العقاب والعذاب من جهة، ويأمل أملاً كبيراً برحمة الله ومغفرته وعفوه من جهة أخرى. والقرآن الكريم يريد بقاء هذا الشعور حيا في نفس الإنسان إذ إنه المنهج التربوي الناجح لهداية الإنسان وتربيته في سيرته الذاتية والاجتماعية، ونجد ذلك من خلال الآيات التي تذكر رحمة الله إلى جانب عذابه وعقابه. إعداد خ. ب