دخلت مرة قاعة (الوجع) في مستشفى ابن سينا بالرباط، فوجدت نساء حوامل يذرعن القاعة ذهابا وإيابا، يصدرن أصواتا كلها أنين خافت أحيانا ومسموع أحيانا أخرى، والكثيرات منهن يستغثن بالله تعالى: ياربي.. ياربي. وفي توجههن إليه سبحانه قمة التوكل عليه ومنتهى الافتقار إلى قوته، والطمع في فضله وكرمه ورحمته تعالى بأن تمر ظروف الولادة طبيعية، وفي أحسن الأحوال. تلك آلام الولادة، وتلك آمال الأمهات في منح حيوات جديدة لأجيال جديدة. وكلما فكرت في زخم لحظات هذه الولادة عند المرأة، إلا وداهمتني لحظات أخرى أكثر إشراقا، وأعظم عاقبة ومصيرا. إنها لحظات التوبة إلى الله جل وعلا والأوبة إليه، أوَليست التوبة من المعاصي والذنوب ولادة جديدة تحتاج من الإنسان جهدا وإرادة، ومخاضا كمخاض الولادة عند المرأة؟. التوبة ولادة جديدة حري بالإنسان أن يفرح بها، فهي نبراسه الذي ينير له في دياجير الحياة وميضَ أنوار يُشعِل في داخله جذوة الأمل بأنه لا بد من الانعتاق والخلاص من قيود الزلات وأغلال السيئات من أجل إدراك عفو الرحمان ورضاه. وما أرحب عفو الله وما أجل إحسانه وكرمه، مادام وحده سبحانه من يقبل التوبة ويعفو عن المعاصي، ومهما أسرف المسلم في الذنوب ثم تاب منها، فإنّه تعالى يغفرها جميعًا: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53 . وإذا كانت آلام مخاض الولادة عند المرأة لا توازيها آلام إنسانية أخرى، فإن للتوبة أيضا آلام من نوع مختلف، فالذي يعزم على التوبة النصوح من ذنب ارتكبه أو كبيرة اقترفها، يلزمه كشرط من شروط التوبة أن يُقوّم نفسه ويأخذ بزمامها بالمكابدة والجهد إلى ما فيه مرضاة الله تعالى ورسوله الكريم، وإن جنحتْ نفسه يومًا للوقوع في حمأة الرذيلة وشَرَك الفساد، ألجمها بتذكيرها بما ينتظره في دار الحق (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله)، ويلزمه أيضا الإقلاع عن معصيته إقلاعا حقيقيا لا مراء فيه ولا تسويف، وأن يعقد العزم على أن لا يعود لمثلها، ويكره ذلك تماما كما يكره أن يُقذَف في النار. وهذه آلام نفسية تصاحب التائب لحظة توبته الصادقة، لكنها آلام لذيذة لمن يسر الله تعالى له ذلك. وإذا كانت الأم تتحمل مشاق المخاض العسير للولادة من أجل أن تمنح الحياة للمولود القادم، فإن التائب يتحمل إغراءات الحياة وفتن المعاصي التي تاب منها، بغية هدف أساسي: الفوز بمغفرة الله ورضوانه، حيث لا يغضب عليه أبدا، وذلك هو الفوز الأبدي. والمرأة حين ولادتها لطفلها، تتعهده ولا شك بالرعاية والاهتمام الكبيرين. والأمر نفسه عند التائب؛ إذ عليه أن يتعهد توبته بأن يكثر من الطاعات والقربات، حتى تنشأ توبته في بيئة صالحة، ومع رفقة طيبة: رفقة الذكر والاستغفار. وكما أن الأم تحتضن مولودها بكامل الفرحة والغبطة، وبتمام التفاؤل في غد مشرق لطفلها، فإن التائب ينبغي عليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، بأن لا يقنط من رحمته، فقد وردت قصة عند مسلم مفادها أن رجلا من بني إسرائيل قتل مائة شخص، ثم سأل عالمًا: هل لي من توبة؟ قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، اذهب إلى أرض كذا فإن بها قومًا صالحين، يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك بصورة ءادمي فجعلوه بينهم. فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية في الصحيح: فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجُعِل من أهلها، وفي رواية أخرى: فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له.