أخي الكريم.. أختي الكريمة.. أوشك شهر مبارك كريم، يحل ضيفا عزيزا بين أظهرنا، ضيف ليس ككل الضيوف، ضيف كريم غاية في الكرم، محمل بهدايا وعطايا ربانية، أفضل من الأرض وما فيها.. ولقد وددت أن يكون حديثنا خاصا في وقت خاص، حديثنا عن هذا الشهر الفضيل قبل حلوله حتى يتسنى لنا الاستعداد المناسب، وتسطير البرنامج القمين بأن يجعلنا نفوز برضى الرحمن والجنة، وسعادتي الدنيا والآخرة. فمن هو هذا الزائر الكريم الذي يزورنا مرة في السنة؟ وكيف نستعد لاستقباله استقبالا يليق بجلال قدره، وعظيم مكانته؟ شهر رمضان الأبرك هو الشهر التاسع في ترتيب الشهور التي هي عند الله اثني عشر شهرا من يوم أن خلق الله السموات والأرض، وعلى الترتيب الذي أنشأه عمر رضي الله عنه.. وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185). وهو الشهر الذي ابتعث الله فيه نبيه وخليله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم . وهو الشهر الذي جعل الله منه إلى رمضان ما بعده كفارة لما بينهما لقوله:الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وهو الشهر الذي إذا جاء فتحت أبواب الجنة ، وأبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين. وهو شهر من صامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وهو شهر فيه ليلة القدر، ليلة خير من ألف شهر في دين وعمل العبد المؤمن، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرمها فقد حرم. وهو شهر جعل الله فيه العمرة كحجة مع رسول صلى الله عليه وسلم . وهو خير الشهور على المؤمنين وشر الشهور على المنافقين، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله ما مر على المسلمين شهر هو خير لهم منه ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه إن الله يكتب أجره وثوابه من قبل أن يدخل ويكتب وزره وشقاءه من قبل أن يدخل ذلك أن المؤمن يعد فيه النفقة للقوة في العبادة ويعد فيه المنافق اغتياب المؤمنين واتباع عوراتهم فهو غنمٌ للمؤمن ونقمةٌ على الفاجر رواه أحمد والبيهقي و ابن أبي شيبة وابن خزيمة في صحيحه، وحسنه الألبانى أخي الكريم: أهنئك بقدوم هذا الشهر المبارك ، شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار .. شهر الخير والبركة .. شهر الجود والإحسان، شهر الصلاة والذكر والقرآن.. إياك ونفسي أعني.. أقول لنفسي أولا ولك أخي الحبيب، ولكل مذنب مقصِّر مع ربِّه : يا باغي الخير عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِى مُنَادٍ يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ. رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن وإني لأراك باغي خير، وطالب رحمة وراجي مغفرة، يمنعك من البوح والاعتراف، شيطان يمنيك ويعدك، وشهوة تأسرك، وهوى تمكن منك فأضعفك.. فتحرر وأعلنها مدوية أنك مقبل على ربك، طامع في رحمته، وما اعد لعباده الصالحين في جنته.. أخي الكريم: وأنت تقرأ هذه الكلمات التي تنبع من قلب محب لك ولكل عبد مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قلت وأنت تقرأ هذه الكلمات اعلم رحمك الله أنه قد آن الأوان أن تتحرر من كل ما يحول بينك وبين ربك، وأن تعود إليه تائبا طائعا قبل فوات الأوان.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال آمين ، آمين، آمين فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقل : آمين، آمين، آمين؟ فقال: إن جبرائيل عليه السلام أتاني فقال: من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت آمين.. رواه أحمد وهو صحيح. نعم .. أقبل رمضان ، فأقبل على ربك الذي عصيته فأمهلك أقبل متضرعاً خاشعاً نادماً باكياً وقل : يا رب، يا رحمن، يا رحيم، يا من تقبل توبة التائبين، إني إليك راجع فلا تجعلني من الخائبين.. أخي الكريم: تجرد من منصبك، تجرد من سلطانك، تجرد من مالك في لحظة تامل ، في لحظة الحقيقة والمصارحة مع النفس، اسأل نفسك بكل صدق وأمانة: إنْ لم يُغفر لك ، وتذرف عيناك ، وينكسر قلبك أمام ربك في هذا الشهر .. فمتى إذن؟ تفكر ولو لحظة واحدة.. أنك واقف بين يدي ربك ..حافيا عاريا..مجردا من مالك و ولدك وجاهك وسلطانك.. ألا ترجو أن تكون يومئذ من الناجين..ألا ترجو أن تكون من الفائزين.. والآن، وأنت تقرأ هذه الكلمات.. وتفكر في حقيقة أمرك.. ألا ذرفت عينك من خشية ربك ولو مرة واحدة؟ ألا تشعر أن قلبك قريب من ربك؟ ألا تظن أن رمضان فرصة لك لتزداد قرباً وخشوعاً .. وإنابة وخضوعاً؟ وتكون بداية صادقة في الرجوع إلى الله تزداد بها صلتك بالله؟ دعك من سوف فإنها من جنود إبليس، ولا تأخذك العزة بالإثم، فأنت تعلم أنك رجل طيب، تستحيي من ربك..تريد أن تتوب.. ولكن يمنعك منصبك ومسؤوليتك وجاهك وسلطانك، أو كبرياؤك وعزة نفسك، إنك لا ترضى أن يقول عنك أقرانك وأصحابك وزملاؤك .. إنه قد تحول .. وفي حقيقة الأمر عليك أن تتحول.. عليك منذ اللحظة أن تكون حازما وحاسما.. لا تنظر إلى صغر الخطيئة.. ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.. ألا تجعل الله أهون الناظرين إليك . يا مقبلا على الله .. لك البشرى واسمح لي أخي الحبيب أن أقترب منك.. وأهمس في أذنك.. وأزف لك بشرى من ربك الكريم سبحانه عز وجل ورسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر53 وقال سبحانه:(..إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان:70 يا له من فضل عظيم ، ويا له من مكسب كبير ، يبدل الله جميع سيئاتك حسنات .. الله أكبر ! يا له من رب رحمن رحيم..إنه لا يفرط في هذا المكسب إلا جاهل أو معاند مكابر.. إذن أخي الحبيب، ما ذا تنتظر؟ أسرع.. تب إلى الله إن أردت هذا المكسب العظيم (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) ثم استمع رحمك الله إلى ما قاله حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم بشرى للتائبين، وتشجيعاً للتوبة لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ في أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مكاني الذي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ. متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو بَلَغَت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي.. وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.. وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربه.. ما الذي يمنعك من التوبة وسلوك طريق الصلاح؟ كأني بك تقول : الأهل والمجتمع والأصدقاء والمنصب والعمل.. ! ! أخشى أن أتوب ثم أعود! ذنوبي كثيرة فكيف يغفر لي ! أخاف على أهلي ومالي ومنصبي وعملي.. بالله عليك يا أخي: هل تظن أنك تقول ذلك عند ربك يوم تلقاه؟ لا والله .. بل هي عوائق وهمية وحواجز مصطنعة لا يحطمها إلا من خشي ربَّه . فكن ذا عزةٍ بدينك وعزيمة صادقة على الخير والاستمرار عليه ، متوكلاً عليه سبحانه ، ثم تذكر رحمة ربك وسعة مغفرته أخي لو أتاك في هذه اللحظة ملك الموت فهل ترضى أن تقابل ربَّك على هذه الحال؟ أخي، عفواً، لا تتهرب من نفسك ومحاسبتها ، فإن لم تحاسبها الآن فغداً في قبرك تندم ، وحينها لا ينفع الندم . نقطة تحول وميلاد جديد أخي الكريم..اعلم رحمك الله أن التوبة ليست فقط مختصة بهذا الشهر ، بل فيه وفي غيره من الشهور، ولكن ما يدريك فقد يكون رمضان نقطة تحول حقيقة في حياتك، تحول من المعصية إلى الطاعة، ومن البعد من الله، إلى القرب منه، والحياة في كنف عفوه وسعة رحمته.. اجتهد رحمك على أن يكون ميلادك الجديد في شهر الخير والبركة، وقد يولد الإنسان مرتين : يوم يخرج من ظلمة رحم أمه إلى نور الدنيا ، ويوم يخرج من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، فكن هو أنت. وأوصيك يا صاحبي أن تلحق بالأخيار الذين ينفعونك حتى بعدم موتك بإذن الله بدعائهم لك .. الحَقْ بهم وصاحِبهم في ذهابهم وإيابهم ، اصبر معهم حتى تلاقي ربك ، فحينها يقال لك ولهم : (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار) الرعد:.42 وأخيرا.. وقبل أن يُغلق الباب أخي الحبيب قبل أن يُغلق الباب حدِّد الطريق الذي تسير عليه ويكون منهجاً لك في الدنيا والآخرة ويا لها من سعادة ، ويا لها من فرحة يفرح القلب بها ويسعد حينما يرجع إلى ربِّه نادماً ويلحق بركب الصالحين ووالله إنها السعادة التي لم يذقها إلا من جربها أخي في الله .. إن كنت عزمت على التوبة والرجوع .. والإنابة والخضوع .. فاعلم أن لهذه التوبة شروطاً لا بد من وجودها هي الندم على ما فات والإقلاع الفوري عن الذنب والعزم على عدم الرجوع ، فإن عدت إليه فكرر التوبة إلى الله .. ولكن ليكن عزمك صادقاً .وأن تكون التوبة قبل الغرغرة وقبل خروج الشمس من مغربها والتحلل ورد المظالم فيما بينك وبين الخلق.. عبد الله بوغوتة