إن رحمة الله تغريك أخي الحبيب لترحم نفسك وتأخذ بناصيتها إلى الله... اسمع إليه وهو يقول سبحانه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سورة الحجر، الآية .49 وتأمل قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سورة الزمر، الآية .53 نعم هذه رحمته سبحانه، وإنه لا نيل لرحمته التي خص بها عباده إلا بالاتصاف بالرحمة. أخرج الترمذي في جامعه وصححه عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. إرْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماءِ.... وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قَبَّلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن عليّ رضي اللّه عنهما وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي. فقال الأقرعُ: إن لي عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً، فنظرَ إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). وقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أرحم بالخلق من الخلق جميعهم. فهذا وصف علام الغيوب له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء، الآية .107 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّاناً، وَإِنّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. ورحمته عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين أعظم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) سورة التوبة، الآية .128 فلا عجب من ثَمَّ أن تتكرر الرحمات عليه من قبل ربه والملائكة والمؤمنين إلى يوم القيامة، فاللهم صل وسلم وبارك عليه. وعليه لا أخالك أخي الكريم أختي الكريمة إلا والرحمة قد نفذت إلى سويداء قلبك... وإلا فاسمع إلى نبيك عليه السلام يدلنا على حال المحروم منها. ففي جامع الترمذي وحسنه عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: لا تُنْزَعُ الرّحْمَةُ إِلاّ مِنْ شَقِيّ، فالرحمة الرحمة بالوالدين. تجليات الرحمة هذا وإن من أحق الناس برحمتك أخي الكريم والديك. قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) سورة البقرة، الآية .83 والنساء الآية .36 والأنعام، الآية ,151 والإسراء، الآية .23 وقال سبحانه: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّيَاني صَغِيراً) سورة الإِسراء، الآية .25 وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَحَقّ النّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمّكَ قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمّ أُمّكَ قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمّ أُمّكَ قَالَ: ثُمّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمّ أَبُوكَ. إن الذي يبخل عن الإنفاق على والديه ويُسْلِمهما للحاجة والخصاص وذل الفقر، ما عرف الرحمة ولا الشفقة. والذي يصل بوالديه إلى حالة البكاء والتوتر قاسي القلب لا يعرف معنى للرحمة! والذي يتهاون في دراسته وواجباته ويسبب بذلك قلقا لوالديه وتكسرا وحزنا ما عرف بعد معنى للرحمة! والذي يفضل عليهما صديقا أو ولدا أو زوجة، ما رحمهما وما أحسن إليهما! والذي يخاطبهما بجفاء وقسوة وقلة أدب وقلة حياء وكأنهم أقرانه أو أعداؤه، هذا شقي على حافة الهلاك! اسمع معي أخي الحبيب إلى هذا الرجل من الصحابة، وقد جاء متطوعا للجهاد في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ عِبْدِ اللهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي جِئْتُ أَرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَلَقَدْ أَتَيْتُ وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكيَانِ: قَالَ: فَارْجِعْ إِليْهما، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا. نعم إن دين الله تعالى لا ينصر بقساة القلوب وغلاظ الأكباد. وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهما ويبين ما للبر بهما ورحمتهما من الفضل العميم. ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا. قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْن. قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وروى الطبراني في الصغير والأوسط وحسنه الحافظ العراقي من حديث أنس: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: هل بَقِيَ مِنْ والِدَيْكَ أَحَدٌ؟ قال: أمي. قال: فاتَّقِ اللهَ فِي بِرِّهَا. فإذا فَعَلْتَ ذلِكَ فأنْتَ حاجٌّ ومُعْتَمِر ومُجَاهِد. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من مسلم له والدان يصبح إليهما محسنا إلا فتح الله له بابين يعني من الجنة وإن كان واحد فواحد، وإن أغضب أحدهما، لم يرض الله عنه، حتى يرضى عنه. قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. كما أن الذي يعصيهما ويخرج في معصية الله رغم أنفهما، ويظل مترددا بين الخمر والزنى، وإتلاف المال في الحرام، ما رحمهما، وما اتقى الله فيهما! فالله وحده يعلم ما يسببه لهما من القلق والحزن أحياء وأمواتا. إن الرحمة بهم ،أخي الكريم، شفقة عليهم ورقة لهم وكلمة طيبة... (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سورة الإسراء، الآيتين: 23 و.24 فالآية الكريمة تفيض بالرحمة بهم في الدنيا والآخرة إحسانا وعدم تأفف واستمطار الرحمات عليهم بعد وفاتهما. وهاك جملة من الكلمات العطرة التي قيلت في تفسير قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنهما قال: لا ترفع يديك عليهما إذا كلمتهما. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عروة رضي الله عنه قال: إن أغضباك، فلا تنظر إليهما شزرا، فإنه أول ما يعرف غضب المرء بشدة نظره إلى من غضب عليه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن زهير بن محمد رضي الله عنه قال: إن سباك أو لعناك، فقل رحمكما الله غفر الله لكما. نماذج الرحمة للوالدين صاحب الغار: تأمل أخي الحبيب كيف كانت الرحمة بالوالدين والبر بهما سببا للنجاة من مأزق خطير. ففي الصحيحين أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ. فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلَا مَالاً. فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا. فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ. فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا...) فانظر كيف رحم الله تعالى الرحيم بوالديه. الحاج بأمه يحملها: قد يظن البعض أنه وفى لوالديه حقهما ورد عليهما جميلهما! إلى هؤلاء أقدم ما أخرج أبو عبد الله المروزي في كتابه البر والصلة بسند رجاله ثقات أن ابن عمر رأى رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه وهو يقول لها: أتريني جزيتك يا أمه. فقال ابن عمر: أي لُكَع لا والله ولا طلقة واحدة. قال ابن الأثير: الطَّلْق: وجَعُ الوِلاَدة. والطَّلْقة: المرَّة الواحدة. أبو هريرة: أخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي مرة مولى عقيل: أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت أمه في بيت وهو في آخر، فكان يقف على بابها ويقول: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته فتقول: وعليك يا بني، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. يا له من أدب جم من قلب صقلته معرفة الله وغمرته رحمته سبحانه. فما أحوجنا أيها الإخوة الكرام أن نتأدب بآداب الإسلام وأن نهتدي برحماته.