مع بداية يوليو الجاري، حسم أزيد من 90% من المنتخبين المغاربة نتيجة الاستفتاء العام حول الدستور السادس في عهد العاهل المغربي محمد السادس، ليكون المغرب قد خطا الخطوة الأولى من ألف ميل نحو التعاقد السياسي الجديد لضمان الاستقرار، وسط تأييد دولي لنتيجة الاستفتاء باعتبارها "خطوة مهمة" في طريق الديمقراطية. الأرقام المعلنة رسميا لم ترق طبعا نشطاء حركة 20 فبراير، التي تضم اليسار الجذري والعدل والإحسان والحركة من أجل الأمة وباقي الفعاليات المقاطعة، مقدمة تفسيرات جديدة لنتيجة الاستفتاء، ترى أن 49% فقط هم من صوتوا ب"نعم" على الدستور. وسط هذا التباين في الموقف من نتيجة الاستفتاء، وقراءة نتائجه وآفاقه، تبقى الحركة الإسلامية بمختلف أطيافها مدعوة اليوم لتحديد مسارها المستقبلي مع الدستور الجديد، وتبني مهام واضحة ومستعجلة للانتقال من موقع الضحية المدافع عن الوجود نتيجة المضايقات، إلى موقع المبادر المنتج، لتمرين رؤاها الاجتماعية والسياسية واقعيا، وتقديمها التزامات وبرامج واضحة للمجتمع. قراءة في لعبة الأرقام بعيدا عن لعبة الأرقام، التي طالما كانت لعبة الأذكياء وبعض المشعوذين، فإن نتيجة الاستفتاء أكدت شبه إجماع حول ضمان الوحدة والمشاركة كأساس لتصريف تدافع القيم والمشاريع الفكرية والتوافق النسبي والسعي للإصلاح التدريجي لتفادي "الخريف الديمقراطي"، الذي مس بلدانا عربية لم تقف سفنها بعد على شاطئ الديمقراطية والحرية والكرامة المرجوة. فقد كان من المقبول والمعقول أن يشارك الرافضون للدستور أو المقاطعون للاستفتاء بالتصويت ب"لا" لإبراز حجمهم الحقيقي داخل الشارع المغربي، أما وأن يتم الاتكاء على كون نسبة مهمة لم تشارك فيه لإبراز حجم المقاطعة، فهذا مما لا يثق به عاقل. فإنجاز الاستفتاء في ظروف غير عادية كفيل بجعلها ضعيفة، إذ صادفت العملية انتهاء الموسم الدراسي وانشغال الأسر المغربية بالسفر لقضاء عطلهم قبل حلول شهر رمضان، وزهد أغلب المواطنين عن الذهاب لمكاتب التصويت لأسباب ذاتية، مما أعطى للمصوتين بنعم "نكهة" الفوز السياسي الكاسح. أما على الجانب الرسمي، فيلاحظ أغلب المتتبعين، أن التصويت حقق نجاحا سياسيا للنظام السياسي القائم، إذ لم يخضع لأسلوب الإكراه، كما كان الشأن في عهد الراحل الحسن الثاني ووزير داخليته القوي إدريس البصري، حيث كان المواطنون يُحملون طوعا أو كرها لصناديق الاقتراع عبر الشاحنات والسيارات والجرارات. وتفيد المتابعة الإعلامية للإعلان عن النتائج، أن وزارة الداخلية حرصت على تجنيد أعوانها عشية الاستفتاء لتشجيع نسبة المشاركة مراعاة لهذه الظروف، ومراعاة لكون الاستفتاء يجري بدون "مغانم". فالسباق كان بين اختيارين: اختيار يراهن على أن تؤجج المقاطعة لهيب الاحتجاج الاجتماعي للوصول إلى مرحلة تفجير الوضع بالمغرب أسوة بما حصل في باقي البلدان العربية.. وخيار ثان يرى أن الحفاظ على استقرار الوضع والتدافع من داخل المؤسسات يبقى الخيار الأرجح للإصلاح والتغيير. وعليه، فكل من شارك في الاقتراع، وبعيدا عن لغة الأرقام واختلاف قراءتها، ذهب باقتناع أن مرحلة الاستفتاء هي فقط مجرد قنطرة عبور لما بعدها انسجاما مع قناعاته السياسية والثقافية أو "الترغيبية"، حسب مستوى النضج الفكري للمصوتين. فمهندسو الوثيقة الدستورية الجديدة استمعوا لتطلعات ورؤى مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المشاركين في المؤسسات، كما استمعوا لنبض المعارضة وسقف مطالبها، مما جعل الوثيقة تعدل وتغير في آخر اللحظات بما يضمن التنوع من أجل وحدة الرأي والمصير. ولكن، وكما هو الشأن في كل الأوراق المؤسسة للمشاريع والبرامج، تبقى آليات التأويل والتفعيل هي الحاسمة في مسار الفعل السياسي. وهذا الرأي هو الذي تفطن إليه، المحامي مصطفى الرميد، الحقوقي والقيادي بحزب العدالة والتنمية، والمدعم سابقا لحركة 20 فبراير، بتأكيده على أن "دستورا جيدا وحده غير كاف، بل لا بد من تدابير وإجراءات داعمة لتتجه البلاد نحو الديمقراطية الحقيقية التي تؤسس لدولة الحق والقانون"، مشددا على أن "أي دستور لا بد وأن تنفخ فيه روح ديمقراطية، وأن يتم تأويله تأويلا ديمقراطيا"، داعيا الديمقراطيين إلى "العمل على تفعيله بمعان ديمقراطية، وإلا فإن إمكانية التأويل اللاديمقراطي واردة". الدروس المستفادة وبعد أن أسدل الستار عن الحلقة الأولى من الإصلاح الدستوري بالمغرب، تبقى الحركة الإسلامية بأطيافها (الحركية، السلفية، الصوفية..) مطالبة أكثر من غيرها بالتفطن للمهام المستعجلة بما يضمن لها حضورا مجتمعيا وشعبيا مؤثرا في مستقبل المراجعات الدستورية. فهذه المكونات كثيرا ما انشغلت بحروب خفية وظاهرة تهتم بقشور التدين ومخالفاته العقدية، دون أن تبلور هذا النقاش لبناء حوار يحترم اختلاف مناهل التدين، يقرب المختلف فيه ويرسخ التعاون حول المتفق عليه. فالمحطة الدستورية منحت هذه المكونات درسين بالغين: يكمن الأول في إتقان آليات التدافع بين المشاريع الفكرية داخل المغرب، والتأسيس عليها لصياغة حوار "بيني" بين مكوناتها، ثم بينها وبين باقي المكونات المخالفة. فمحطة صياغة الإصلاح الدستوري والتصويت عليه، أظهرت جليا احتدام النقاش بين توجهين: إسلامي: يرى ضرورة التعاقد السياسي على احترام المرجعية الإسلامية للمغرب وصيانة هويته وقيمه الحضارية، وبرز هذا الخطاب جليا في تحركات أحزاب وجمعيات ذات مرجعية إسلامية مثل: حزب العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح والنهضة والفضيلة وباقي الطرق الصوفية والأجنحة الإصلاحية داخل بعض الأحزاب السياسية الأخرى. علماني: والمتستر تحت غطاء الدفاع عن "التوجه الحداثي" في الدستور الجديد بالدفاع عن حرية "المعتقد" والمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، والقطع مع كل ما هو ديني، وإن توهم بإسقاط بعض الطقوس المخزنية مثل البيعة وإمارة المؤمنين والجهر بأن نجاح الانتقال الديمقراطي يمر عبر استعارة الدساتير الغربية بحذافيرها. ويكشف الثاني تحديد مواطن الاشتغال المجتمعي بإصلاح الإنسان المسؤول، خاصة وأن الحركة الإسلامية هي المؤهل لهذه المهمة دون غيرها بما تمتلكه من محاضن تربوية. فمنذ نشأة هذه الحركات، أو استعادة دورها الحيوي داخل المجتمع، لم تقنع برؤاها الإسلامية إلا فئة المنضوين تحت لوائها، ولم تستطع، رغم عطاءاتها، التوسع والانفتاح لإقناع غيرها بما تريده من إصلاح، فظل العمل لديها منصبا نحو الاستقطاب لمظلة التنظيم أكثر عندها من صياغة الغاية الرئيسة للوجود. بعيدا عن الأبراج العاجية وبعد الوعي العميق بما ربحته هذه المكونات من خلال المحطة الدستورية من دروس، تبقى أمامها مهام مستعجلة إن هي أرادت أن تقنع المجتمع بغاية وجودها وبرامج عملها بعد أزيد من ثلاثة عقود من نشأتها. أول هذه المهمات هو إعادة سؤال الغاية من الوجود وطبيعة الاشتغال إلى الواجهة: هل وجود هذه المكونات جاء من أجل صياغة الإنسان الصالح المصلح، الذي يرشد المال العام، ويصلح الفساد في الإدارة والتعليم والصحة والأمن، ويعمل وفق توجيهات الشريعة، أم تخريج إنسان منشغل بفتات المعارك السياسية والإعلامية بما تحققه من اصطفافات مؤقتة تترك الآخر يخطط للمستقبل بما له من حنكة؟ فالاختلاف البين أو الخلاف حول هذه الغاية فوت على هذه المكونات فرصا كبيرة لمعرفة منطلق البدء، مما ترك دهاقنة "الحداثة" يصنعون الحاضر الدستوري للمغرب، وترسيم ما تعتبره هذه المكونات مسا بالإسلام في الوثيقة الدستورية الحالية. وثاني هذه المهام: التفكير في "حلف فضول جديد" ينصف مئات الآلاف من المظلومين والمعتقلين بتهم واهية، فالحركة الإسلامية مطالبة شرعا وعقلا وواقعا بتكوين جبهة ضد الظلم والفساد، ليس بإسقاط القوانين الهاضمة للحريات، ولكن بالتواصل مع مراكز الضغط الحقوقي، واستثمار ما جاء في الدستور الجديد من تعزيز مؤسسات حقوق الإنسان وضمان العمل الجمعوي. فإذا كانت تجربة "الإنصاف والمصالحة" قد أعادت الاعتبار المادي والمعنوي للمكون اليساري المتضرر مما يسمى بسنوات الجمر والرصاص في الستينيات من القرن الماضي، فأمام هذه المكونات فرص للضغط لإنصاف ومصالحة جديدة لضحايا ملفات الإرهاب والاحتجاجات الاجتماعية. والمهمة الثالثة: وهي مهمة داخلية أكثر منها خارجية، وتخص ممارسة ما تدعيه أو تطالب به من حرية في الرأي والتعبير والديمقراطية، حتى لا تكرس أساليب اتجاهات رفعت هذه الشعارات في أول ظهورها وسحقتها عند أول امتحان لها... فليس معقولا أن تطالب هذه الحركات بالديقراطية أو الشورى، حسب اختلاف المسميات، وهي تقمع الآراء المخالفة لما يراه الزعيم الملهم أو المرشد الأمين أو الشيخ الوقور، فتكاد بعد مرور 30 عاما، لا ترى في المراكز القائدة أو الموجهة لهذه المكونات، إلا من استطاع الدوران في هذا الفلك، ومن تمرد على هذا الخير كان مصيره الإقصاء والتشويه. أما رابع المهمات: فتتجلى في تطوير آلية التغيير من داخل المؤسسات، فالمؤسسات تبقى مجرد هياكل تحتاج لمن يبث فيها روح الإيجابية، أما الانصراف عنها بحجة فسادها، فهو يؤشر على أمرين لا ثالث لهما: إما الثقة الزائدة في الذات بكون أن مشروعي هو الأصلح ودونه هراء، والثاني العجز عن انفضاح الفشل في التدبير والتسيير لهذه المؤسسات والاستعاضة عنها بمضمون المثل المغربي: "الفم المضي والجهد القضي" (أي كثر الكلام بدون فعل). فكثيرا ما تكون للإنسان رؤى حالمة في التغيير والإصلاح، لكن ممارسته لهذه الرؤى والطروحات تتدحرج نحو النسبية تبعا لاختلاف الطبائع والعقليات، التي قضت مشيئة الخالق سبحانه أن تكون مختلفة. فالممارسة هي التي تولد الملكة، والممارسة هي التي تمحص الصالح من الطالح، أما وأن يقف المرء فوق برجه العاجي يوزع صكوك الصلاح، فهذا مآله الفشل. أما المهمة الخامسة، فهي العمل على صيانة وتفعيل مقتضيات الدستور الجديد بما يرسخه من إسلامية الدولة، وكون الدين الإسلامي والملكية من الأمور التي لا تخضع للمراجعة، وهذه التفاتة سياسية من النظام القائم بالمغرب لهذه المكونات، تبدو أكثر "تقدمية" بالمقارنة مع وضعية الحركات الإسلامية بباقي البلدان العربية، التي تعتبر وجود الإسلاميين أو ما يدعون إليه بعبعا يجب استئصاله أو اجتثاثه. كما أن من شأن الارتكاز على هذه الأسس وغيرها المضمنة في الدستور الجديد أن يكون صمام أمان للوقوف أمام كل تجرؤ على الدين والأخلاق. أما المهمة السادسة: فهي ملقاة على النظام السياسي القائم، الممسك بزمام المبادرة حاليا، فهو مطالب بالتوفيق بين المنجز والمأمول من الوثيقة الدستورية والوفاء بما جاء فيها من تعهدات، فما حصل من شبه إجماع على قبولها اليوم لن يكون مضمونا وشفيعا لقبولها غدا، في حالة ما إذا تكررت أساليب الماضي من ظلم وفساد ووعود كاذبة بالإصلاح. http://www.islamonline.net