المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأعطاب العميقة للإدارة العمومية بالمغرب
نشر في هسبريس يوم 09 - 01 - 2017

يكاد يجمع مختلف الفاعلين والمهتمين بالشأن العام الوطني، داخليا ودوليا، على كون الإدارة العمومية المغربية تعتريها الكثير من الاختلالات والاشكالات التي توثر سلبا على أداء وظائفها الأساسية التي أحدثت من أجلها. وهي حقيقة ثابتة أقرتها العديد من التقارير الوطنية والدولية التي شخصت في أكثر من محطة تاريخية مكامن قصور وعجز التدبير الإداري بالمغرب.
وبالموازاة مع ذلك، فمختلف مظاهر الفساد الإداري، من رشوة وزبونية ومحاباة وسرقة للمال العام وتبذير لأموال المحاصيل الضريبية وتعقد المساطر وبطئها وضعف نجاعة التدخل الإداري ومحدودية المردودية وسوء استقبال وشطط في استعمال السلطة...، ظلت على مدى عقود من الزمن تمثل الانطباعات السائدة لدى الغالبية العظمى للمواطنين/المرتفقين بمختلف صفاتهم ومستوياتهم ومواقعهم داخل المجتمع.
وبالرغم من ذلك، ومن أجل الوقوف عند الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الواقع الإداري السلبي الذي لا يمكن تعميمه بأي شكل من الأشكال-ذلك أن للإدارة أوجها إيجابية بقدر ما لها جوانب سلبية- نعتقد بأن مظاهر الفساد الإداري بالمغرب ما هي إلا نتيجة لمجموعة من الإشكالات والأعطاب الهيكلية العميقة المتراكمة، التي غالبا ما يتم المرور عليها في بعض المقاربات السطحية التقليدية التي تحاول رصد واقع الإدارة العمومية المغربية، وهي أعطاب يتجاوز الأمر فيها الموظف البسيط، ليتداخل فيها السياسي بالثقافي والاجتماعي بالإداري والتدبيري.
وتأسيسا على ذلك، فإن أي تفكير جدي وعقلاني وشامل لإصلاح الإدارة العمومية يجب أن ينطلق من الرجوع إلى الأسباب التأسيسية التي أدت إلى إنتاج هذا الواقع المتسم بتفشي مظاهر الفساد الإداري، بعض هذه الأسباب مرتبط بهرم الدولة (العطب السياسي)، والبعض الآخر مرتبط بالقاعدة (العطب الاجتماعي والثقافي)، وبعضها يتخذ شكلا أفقيا (الأعطاب الإدارية والتدبيرية)، وهي الأعطاب التي سنحاول تبيان بعض معالمها من خلال المحاور التالية:
العطب السياسي: ضعف إرادة الإصلاح الإداري لدى متخذي القرار السياسي:
الإدارة العمومية هي امتداد للحقل السياسي، ولا يمكن فصلها عنه بأي صيغة من الصيغ، فالإدارة دستوريا هي وسيلة توضع رهن إشارة الحكومة. أما على المستوى الإداري، فإن التداخل بين الإدارة والحكومة يصل إلى حد التماهي؛ فالقطاع الوزاري ما هو في واقع الأمر إلا إدارة عمومية رئيسها التسلسلي هو وزير ينتمي إلى الحكومة، والأمر نفسه بالنسبة للمؤسسات العمومية التي يعيَّن مدراؤها من قبل الملك أو من طرف رئيس الحكومة، والجماعات الترابية تخضع للمنطق نفسه هي الأخرى؛ حيث تدار تسلسليا من قبل رؤساء الجماعات المنتخبين.
وبالتالي، فإن إخفاقات الإدارة العمومية هي إخفاقات للفاعلين السياسيين الساهرين على تدبير المصالح الإدارية بشتى أشكالها، ضمن جدلية ربط المسؤولية بالمحاسبة.
أعطاب سياسية/حكومية كثيرة تعكس عجز الفاعل السياسي عن وضعف إرادته على مستوى الاستجابة لمتطلبات الإصلاح الإداري؛ وذلك عبر مختلف محطات المسلسل الحكومي، انطلاقا من مرحة تشكيل الحكومة، مرورا بتحديد مهام القطاعات الوزارية، وانتهاء بأساليب تدبير المسؤولين الحكوميين للقطاعات الوزارية.
وعليه، فمنذ الوهلة الأولى لتشكيل الحكومة، يتضح أن الانتظارات المتوخاة منها لن تبلغ المستوى المطلوب خلال خمس سنوات من اشتغالها، فبغض النظر عن غياب رؤية استراتيجية منسجمة متوسطة وبعيدة المدى للإصلاح الإداري قابلة للتنزيل على نحو سليم، ودون إعارة أي اهتمام لمدى تحقق انسجام وتوافق رؤى وتوجهات الإصلاح الإداري بين مكونات التآلف الحكومي غير المنسجم، تتجلى بعض القرارات السياسية المتعلقة بتشكيل الحكومة، التي تتعارض في العمق مع المفهوم الحقيقي للإصلاح الإداري، وتجعل من فاقد الشيء يستعصي عليه أن يعطيه.
على رأس هذه القرارات، أو التوجهات، تشكيل الحكومة من ترسانة ضخمة من القطاعات الوزارية؛ حيث بلغت قائمة الحكومة السابقة على سبيل المثال ما قدره 39 وزارة، وهو توجه من المستحيل تفسيره بشكل عقلاني ومقنع خارج منطق إرضاء الخواطر الحزبية، بل والشخصية في بعض الأحيان، خاصة وأننا نعلم بأن دولا عملاقة لا يتجاوز عدد وزراء حكوماتها 15 وزيرا، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، أما الصين التي يفوق عدد سكانها مليارا ونصف المليار نسمة، فإن عدد وزرائها لا يتعدى 18 وزيرا فقط، فيما قلصت روسيا عدد وزرائها إلى 22 وزيرا.
كيف يعقل إذن بالمغرب لهذا الفسيفساء الحكومي أن يخدم مطلب الإصلاح الإداري؟ وهل توزيع الحقائب الوزارية، بل والانتخابات والعمل السياسي برمته، هو وسيلة أم غاية في حد ذاته؟ وهل هذا التوزيع يجب أن يخدم المصالح العامة للمواطنين أم يجب أن يرضي الغرائز الحزبية والشخصية؟
بناء على ذلك، فإلى جانب الانطباع السيئ الذي تولده هذه "الانطلاقة الغامضة" للموكب الحكومي لدى عامة المواطنين وخواصهم، فالأكيد أن هذه التركيبة المتناثرة تعرقل في حد ذاتها عملية الإصلاح الإداري وتجعله صعبا إلى درجة الاستحالة. فعوض التركيز على إحداث أقطاب وزارية كبرى منسجمة ومندمجة لا يتعدى عددها 16 قطاعا وزاريا على أبعد تقدير، يتم تقسيم القطاع الوزاري الواحد إلى وزارتين أو ثلاثة أو حتى أربع وزارات، فيصبح القطاع الحكومي الواحد مسير برؤوس عدة، ما يتسبب في اختلاف الرؤى بين المسؤولين الوزاريين المنحدرين من أكثر من حزب، وهدر وتشتيت للجهود والطاقات والموارد، إلى جانب تعدد البرامج والمخططات وعدم التقائيتها، خاصة وأن التنسيق ما بين القطاعات الوزارية ضعيف ومحدود أصلا.
معطى آخر يضعف من إمكانية تحقيق الإصلاح الإداري المنشود، هو غياب قطاع وزاري مستقل له صلاحيات وسلطات حقيقية لبلورة وتنزيل الإصلاح على المستوى الأفقي، فالوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية التي من المفترض أن تقوم بهذا الدور، يُسجل عليها أن لا سلطة لها في هذا المجال؛ حيث إنها عد من أضعف الوزارات، سواء على مستوى الاختصاصات أو على مستوى الموارد البشرية والمالية المخصصة لها، كما أنه لا سلطة لها في فرض توجهاتها على مستوى الإصلاح الإداري بباقي القطاعات العمومية، التي تبقى لها سلطة تقديرية واسعة في تدبير مواردها البشرية وأساليبها التدبيرية والإدارية بالكيفية التي تشاء.
وعليه، فإن التوفق في بلورة وتنفيذ أي إصلاح إداري يتطلب وجود قطاع وزاري قيادي، يمارس سلطة فعلية حقيقية على باقي القطاعات الحكومية حينما يتعلق الأمر بتقويم أو تصحيح اختلال إداري أو تدبيري معين؛ بحيث يتم التعامل مع مجموع مكونات القطاعات العمومية ككتلة واحدة مترابطة ومتداخلة فيما بينها، وليست مستقلة تماما عن بعضها البعض بشكل يجعل من الوزير أو المسؤول الإداري الأعلى له سلطة واسعة بشكل تتداخل فيه مصالحه الخاصة بالمصالح العامة، ما يمكنه من اتخاذ أي قرار وفق ما يتلاءم ومنظوره الشخصي للأمور، حتى ولو كان هذا القرار خاطئا أو جائرا، دون إمكانية إثارة مسؤوليته أو محاسبته.
ينضاف إلى كل هذه الإشكالات ذات الطبيعة السياسية إشكال آخر يندرج في الخانة نفسها يتعلق بمسألة تفشي منظومة الاستثناءات، التي تؤدي إلى تطبيق القانون على البعض واستثناء البعض الآخر من الخضوع له، أو تخويل بعض الامتيازات الخاصة لأشخاص أو فئة معينة خارج إطار ما ينص عليه القانون، أو أيضا نزع امتياز أو حق مواطن أو فئة من المواطنين بدون سند قانوني، وهي ممارسات سلبية تتم بالموازاة مع القانون، وتضرب في العمق ديمقراطية النظام الإداري برمته وتزيده ظلما وتعقيدا.
العطب الثقافي: تحلل منظومة القيم السائدة داخل المجتمع والإدارة:
الإدارة العمومية المغربية هي صورة مصغرة للمجتمع المغربي، كما أن معظم العائلات المغربية أحد أفرادها على الأقل موظف داخل الإدارة، وبالمقابل لكل موظف عائلة تتكون من مجموعة من المواطنين المتعاملين مع الإدارة. وبالتالي، فإنه من العبث فصل ما يقع داخل الإدارة العمومية عن واقع منظومة العادات والتقاليد والقيم والأخلاق المؤطرة للمجتمع المغربي، وهو واقع يؤكد أن هذه المنظومة تعيش حالة أزمة حادة تهدد وجودها وديمومتها وفعاليتها في أداء وظائفها التأطيرية داخل المجتمع.
تأسيسا على ذلك، فالممارسات غير الأخلاقية المنتشرة داخل المجمع من غش وكذب وخيانة وظلم ومحاباة وغيرها، تنتقل بنسبة معينة، وبشكل أو بآخر، إلى داخل دواليب الإدارة العمومية بصيغ مختلفة تتلاءم مع طبيعة الحقل الإداري.
واستدلالا على هذا المنطق، نجد أن "المجتمعات الأكثر تخلفا" إداراتها العمومية فاسدة، وفي مقابل ذلك، المجتمعات المتقدمة والواعية تتوفر على إدارات عمومية فعالة وديمقراطية.
وانطلاقا من ذلك، فإن الإصلاح الإداري العميق والشامل يتطلب إعادة هيكلة وترسيخ منظومة القيم الوطنية والكونية الإيجابية، كالصدق والإخلاص والتعاون والتضامن والتفاني والاحترام والعدل وتحمل المسؤولية ومحاسبة الذات، وغيرها.
إن النجاح في تحقيق هذا الهدف يرتبط بتغيير العقليات والثقافة والأعراف السلبية السائدة داخل المجتمع بما فيه الإدارة، وهو من أصعب الإكراهات التي تواجه تخلف الإدارة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام؛ إذ يمكن تغيير القوانين والأنظمة والبنيات الإدارية والمؤسساتية في ظرف وجيز. أما العقليات، فإن تغييرها قد يتطلب، بالإضافة إلى وضع استراتيجية محكمة لذلك وضمان تنزيلها، عقودا من الزمن.
ولا شك أن تغيير العقليات في اتجاه تكريس القيم الإيجابية والقطع مع الممارسات السلبية، هو أمر صعب يتطلب إصلاح ومراجعة اختلالات مؤسسات التنشئة الاجتماعية، خاصة العائلة والمدرسة وباقي المؤسسات التربوية، مما سينعكس بشكل مباشر على طبيعة الممارسات السائدة داخل الإدارة.
العطب الإداري: اختلال الآليات التدبيرية والممارسات السلوكية المعتمدة في التسيير الإداري:
مجموعة من الإكراهات القانونية والتنظيمية والإدارية والسلوكية التي تعيق فعالية التدبير الإداري وتكرس اختلال علاقة المواطن/المرتفق بالإدارة/الموظف، وتجعلها علاقة مبنية على الكراهية والنفور والعداء والأحكام المسبقة، خاصة من طرف المرتفق، عوض أن تتأسس هذه العلاقة على الثقة والتفاهم والتعاون. والواقع أن مختلف هذه الإكراهات ما هي إلا نتيجة تولدت عن الأعطاب الكبرى التي أوردناها في المحورين السابقين.
وبالنظر إلى كثرة وتنوع هذه الإكراهات، فإننا سنقتصر على بعض الأهم والأخطر منها في نظرنا:
في مقدمة هذه الإكراهات نجد تعقد وبطء المساطر الإدارية، سواء تعلق الأمر بتلك المتصلة بالإجراءات الإدارية اليومية البسيطة التي تمكن المواطنين من الاستفادة من حقوقهم العادية وأداء التزاماتهم القانونية، أو تلك المرتبطة بالمجالات الاقتصادية كتأسيس المقاولات وتدبير سيرورتها ضمن علاقتها مع أشخاص القانون العام، وأيضا تلك المتعلقة بممارسة الحقوق والحريات العامة والخاصة. فكثير من هذه الإجراءات لا يستسيغها ولا يفهمها كما لا يتقبلها المرتفق، ما يجعل النصوص والقرارات التي جاءت بهذه الإجراءات لا تعكس توجه وقناعات قاعدة المجتمع، فتصبح الإدارة عائقا أمام المواطن بدل أن تكون سندا وعونا له.
محدودية الشفافية واستشراء ظاهرة الرشوة داخل الإدارة العمومية، وهما أمران مرتبطان؛ حيث إن غياب الشفافية والتحفظ عن المعلومة بجميع أنواعها واحتكارها يغذي مناخ ممارسة الرشوة. غير أن ما تجب الإشارة إليه في هذا الإطار، هو أن الرشوة نوعان، "نوع بسيط" يمارس من طرف الموظف العادي والمرتفق العادي، ويسبب ضررا مباشرا للمرتفق الذي مارس الرشوة وضررا غير مباشر لباقي المرتفقين الذين لا يمارسون الرشوة وللدولة أيضا، في مقابل رشوة مسكوت عنها من نوع أخطر يصل قدرها إلى عشرات آلاف الدراهم، وتكون تكلفتها المالية والاقتصادية والاجتماعية باهظة جدا على الدولة وعلى المجتمع، وغالبا ما ترتبط بميادين الصفقات العمومية والجبايات والجمارك وصرف النفقات العمومية بشكل عام، والحصول على الرخص والامتيازات الاقتصادية والوصول إلى مواقع اتخاذ القرار. كل ذلك خارج إطار ما يسمح به القانون ودون وجه حق، ولو بدت المساطر الإدارية لمنح هذه الامتيازات قانونية ومحترمة شكلا وظاهرا.
أيضا اختلال آليات توزيع الثروة الوطنية بين أفراد وفئات المجتمع؛ حيث نجد أن الأغنياء يزدادون غنى وهم أقلية داخل المجتمع، والفقراء يستمرون في وضعهم أو يزدادون فقرا، في حين إن الطبقة المتوسطة تعاني من أزمة وجود بسبب استهدافها واستغلالها من أجل تحقيق التوازنات المالية الصرفة للدولة وتجاوز الأزمات الاقتصادية الظرفية. وبالتالي، فهي عاجزة عن تحقيق التوازن داخل المجتمع. ولا شك في أن هذا الاختلال هو نتيجة لانحصار ومحدودية آليات توزيع الدخل وعدم إيتائها لأثارها الطبيعية، خاصة أساليب صرف النفقات العمومية، ونظام الجبايات الذي يعاني إشكالات عدة، ثم عدم فعالية تدخلات الدولة عن طريق آليات الدعم والامتيازات الخاصة التي تزيد الأمر تعقيدا.
هناك أيضا استمرار لسرقة المال العام وتبذيره، فبالرغم من كل الجهود المبذولة من طرف السلطات العمومية ومؤسسات المجتمع المدني في هذا الميدان، تظل هذه الظاهرة قائمة؛ بحيث إن الآليات التي تم تأسيسها للقيام بهذا الدور ما زالت عاجزة عن رصد جميع حالات سرقة المال العام، أو غير قادرة على إثبات وإسناد مسؤولية اقتراف هذه الجريمة، أو عاجزة عن توقيع الجزاء. وبالتالي، فإن المجهود المبذول في هذا المجال يقتصر على بعض الحالات الخاصة والمنفردة، دون إمكانية الوصول إلى مستوى القطع النهائي مع هذه الممارسة. أما تبذير المال العام وسوء صرفه، فإنها إشكالية حكامة تحتاج إلى الكثير من التدابير والإجراءات من أجل مواجهتها والحد منها.
تفشي ظاهرة المحسوبية والزبونية إلى درجة أنها أضحت تشكل منظومة قائمة بذاتها. ودون التعمق كثيرا في هذا الإشكال، من الواضح أن هناك شبه إجماع على أن العديد من الأغراض أو الحقوق أو الامتيازات المستحقة أو غير المستحقة، من الصعب القيام بها أو الاستفادة منها من دون تدخل أحد أفراد السلطة التنفيذية أو أحد البرلمانيين أو المسؤولين الحزبيين أو المسؤولين الإداريين أو النافدين داخل المجتمع بمقابل أو بدون مقابل، وهي إشكالية خطيرة لها مجموعة من الانعكاسات السلبية. فالإضافة إلى الضرب في مبدأ المساواة داخل الإدارة العمومية وحرمان باقي المواطنين غير القادرين على الاستفادة من هذه المنظومة، تؤدي إلى وصول مجموعة من الأشخاص غير الأكفاء إلى مواقع التدبير والمسؤولية واتخاذ القرار داخل مؤسسات الدولة والإدارة بشتى أصنافها السياسية والاقتصادية والإدارية والتربوية والتعليمية وغيرها، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج منظومة الفساد في مختلف المجالات العمومية.
ممارسة الشطط في استعمال السلطة، وهو أمر لصيق بمختلف الإشكالات السابقة. فحينما لا يسود القانون نصا ولا يطبق روحا، يُفتح المجال أمام من يمتلك السلطة كيفما كان نوعها وشكلها من أجل ممارستها ظلما وعدوانا على المستضعفين. وأمام تعدد اختلالات المنظومة القضائية الوطنية، الإدارية والعادية، التي تظل عاجزة في كثير من الحالات عن إحقاق الحقوق المهضومة وحماية حريات الأفراد والجماعات المنتهكة، لا يجد المواطن البسيط، بمن فيه الموظف، أي سبيل آخر لرفع الشطط الممارس عليه، وحتى لو أقر القضاء حقوق المواطنين، فإن الإدارة في كثير من الحالات تمتنع عن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة ضدها، وهو أمر غير مفهوم وغير مقبول مطلقا.
العطب التدبيري: تمتع المسؤولين الإداريين بسلطة تقديرية فضفاضة:
لا ريب في كون المجال التدبيري داخل الإدارة العمومية تعتريه إشكالات عدة، إلا أننا اقتصرنا على مظهر واحد من هذه الإشكاليات؛ وذلك بالنظر إلى محوريته وأهميته في نظرنا، ويتعلق الأمر بتمتع المسؤولين الإداريين بسلطة تقديرية واسعة جدا إلى درجة أنها تصبح سلبية وضارة.
والمسؤول الإداري، في هذا السياق، يمكن أن يكون وزيرا أو مندوبا أو كاتبا عاما أو مديرا أو رجل سلطة أو رئيس جماعة ترابية...، فهذا النوع من المسؤولين، ومن خلال الصلاحيات الواسعة الممنوحة لهم، يصبحون "ملوكا" داخل القطاعات التي يديرونها، يتخذون من القرارات ما شاؤوا وفق منظورهم للأمور ضمن مجال اختصاصي واسع، وهو مناخ عام يساعد على تكوُّن شخصية الدكتاتور الإداري وممارسة الاستبداد والظلم وسوء التدبير داخل الإدارة وخارجها، دون إمكانية إثبات مسؤوليتهم أو محاسبتهم على المستوى الفعلي على ما اتخذوه من قرارات فاسدة أو غير حكيمة.
ومما يزيد من حدة هذه الظاهرة أن هؤلاء المسؤولين لا يخضعون لأي رقابة أو تدقيق مستمرين لمنهجية وأسلوب تدبيرهم؛ حيث تصبح الإدارات، وفق هذا المنظور، منغلقة على نفسها، محتكرة لمعلوماتها، لا يعلم ما يجري داخل دواليبها إلى البعض ممن يشتغل داخلها؛ لأن الصورة التي تقدمها على المستوى الرسمي لا تعكس بالضرورة ما يجري في كنهها وأعماق هياكلها الإدارية؛ حيث تُغلف القرارات الجائرة أو الرديئة بغطاء يضفي عليها الصبغة القانونية شكلا.
وبناء على ذلك، فمراقبة شرعية الأنشطة الإدارية بشكل عام، والتي تنحصر في التأكد من مدى احترام المقتضيات القانونية، لا تسعف في هذا المجال، بل تبدو عاجزة عن الوقوف عند حقيقة مدى فعالية ونجاعة القرارات والمخططات والبرامج المتخذة؛ لذلك فالمسؤول الإداري يجب أن تثار مسؤوليته ومحاسبته ليس فقط عند إخلاله بإحدى المقتضيات القانونية الجاري بها العمل، بل يجب أن تمتد هذه المسؤولية إلى مستوى نجاعة وفعالية القرارات التي اتخذها والاختيارات التي نهجها.
وكمثال على هذا الواقع، نجد أن قرارات مثل نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، ورفض أو تأخر تسليم التراخيص والتأشيرات للمواطنين من جهة، أو تنقيل موظف تعسفا أو تأديبه أو حرمانه من الترقية من جهة ثانية، تبدو قرارات قانونية ظاهريا لاستنادها إلى بعض المبادئ التقليدية للقانون الإداري من قبيل المصلحة العامة واستمرارية سير المرفق العمومي...، إلا أنها تكون في واقع الأمر قرارات تعسفية أو انتقامية أو تخدم المصلحة الخاصة للمسؤول الإداري وحاشيته أو جماعات الضغط، من دون استطاعة المتضرر، الطرف الضعيف في هذه المعادلة، إثبات ضرره قانونيا وقضائيا. وهذه كلها أمور تولد الحقد والتمرد الإداري داخل هياكل الإدارة العمومية، والنفور والكراهية في صفوف المواطنين في علاقتهم مع الإدارة.
وبالتالي، فإن القطع مع هذه الظاهرة يتطلب إبداع آليات جديدة تتجاوز الوسائل التقليدية للتدبير الإداري وتتلاءم مع التطور الذي عرفه العصر، من قبيل توفير آليات ملائمة لتقييد "الصلاحيات اللامحدودة" للمسؤول الإداري، والقطع مع استقلالية القطاعات الإدارية عن بعضها البعض، ومن المهم أيضا القطع مع أسلوب التدبير المركزي الهرمي الذي يخول للمسؤول الإداري الأعلى جميع الصلاحيات انطلاقا من القمة إلى القاعدة، والعمل بدل ذلك بالتدبير الأفقي الذي يوزع سلطات اتخاد القرارات الإدارية على المستوى الأفقي بين عدة مسؤولين، كما لا بد من خضوع المسؤول الإداري للمحاسبة المستمرة، ليس فقط على شرعية قراراته بل أيضا على جدواها وفعاليتها ونجاعتها، وأخيرا لا بد من إيجاد الصيغ الملائمة من أجل إشراك الموظفين والمرتفقين على حد السواء في اتخاذ القرارات الإدارية.
انطلاقا من كل ما سبق، نؤكد، في الختام، على أن إصلاح الإدارة العمومية مطلب صعب جدا، لا يرتبط باتخاذ بعض الإجراءات الإدارية التنظيمية الشكلية والسطحية التي تهرول إليها بعض الإدارات العمومية كلما تم توجيه تعليمات عليا في هذا الشأن، بل إن الأمر أكبر من ذلك بكثير، فالإشكالات العميقة التي تعيشها الإدارة هي إشكالات سياسية ومجتمعية وثقافية قبل أن تكون إدارية. وبالتالي، فإن أي إصلاح حقيقي لن يتحقق بأنصاف الحلول التي تغيب الأعطاب العميقة للإدارة العمومية المغربية..
*باحث في القانون العام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.