لقد أصبح مفهوم تخليق الحياة العامة خاضعا لإكراهات التنافسية العالمية من جهة، وكذا لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية من جهة أخرى، مما دفع مختلف الفاعلين في الحقل الاداري المغربي الى التفكير في الآليات الكفيلة بضمان تحقيق مسلسل تنموي وطني أفضل عبر التأسيس لميلاد قيم جديدة في تدبير الشأن العام والتي تتجلى في محاولة تطبيق مبادئ الحكامة الجيدة عن طريق المراقبة والافتحاص الخاص بأنشطة المرافق العمومية في علاقتها مع ميزانية الدولة. لقد شكلت منظومة الإصلاح الإداري، ورشا من الأوراش الكبرى التي تسعى من خلالها بلادنا إلى محاولة التوفيق بين الحقوق والواجبات المواطنة عبر تفعيل مسلسل الديمقراطية، ومن هذا المنطلق لا بد من التذكير بما ورد في الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في فعاليات الملتقى الوطني حول الإصلاح الإداري يومي 29/30 أكتوبر1999 والتي شدد من خلالها جلالته على ضرورة وضع استراتيجية مندمجة لدعم الأخلاقيات بالمرفق العام وترشيد التدبير العمومي، هذا بالإضافة إلى صدور قانون 03.01 بشأن إلزام الإدارات بتعليل قراراتها في إطار مسلسل الإصلاح الإداري الرامي إلى تعزيز الاخلاقيات بالمرفق العام وتعميم الإصلاح الإداري والمالي بالمغرب في أفق تحقيق مقاربة نموذجية فاعلة، هذا دون أن ننسى التذكير بأن دستور 2011 وبحكم قيامه على مبدأي المساءلة والمحاسبة ليمكن اعتباره اللبنة الأساسية لمواصلة بناء صرح الديمقراطية المرفقية ببلادنا. إن مسلسل الاصلاح الاداري، لازالت تعترضه بعض المعيقات التي تجهز على جودة نتائجه، والتي نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: -استمرار التعامل بالزبونية، واستغلال السلطة التقديرية بشكل تعسفي، بالإضافة إلى الشطط في استعمال السلطة والنفوذ. -غياب التطبيق السليم لمبدأي المساءلة والمحاسبة الدستوريين، مما يكرس لاستمرار حالات: «الرشوة باعتبارها أحد أخطر الظواهر التي لازالت تؤثر على الاقتصاد الوطني، إذ أظهرت بعض الدراسات أن المقاولات الصغرى والكبرى تخصص على التوالي 4.46% و2.96% من رقم معاملاتها لمصاريف الإكراميات بمناسبة مزاولة الوظيفة، كما أن أكثر من 43 رب مقاولة مغربية من أصل 166مقاولة يضطرون بين الفينة والأخرى إلى تقديم رشاوى، هذه الدراسة الميدانية أظهرت كذلك أن 29.5 % من المقاولات المغربية تعاني من تبعات ظاهرة الفساد الإداري والرشوة وعلى وجه التحديد اختلاس ونهب المال العام، خيانة الأمانة...» - مركزية القرار الإداري وعدم تفويض الاختصاصات والوسائل - تعقد المساطر الإدارية والنصوص القانونية التي تحكم علاقة المرتفق بالإدارة. - استمرار التعامل بمنطق سرية المعلومات الإدارية، الأمر الذي يجهز على حق المواطن الدستوري في الحصول على المعلومة، مما يعزز لديه عدم الثقة بالإدارة. - إشكالية عقلنة تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية. - ضعف تطبيق نظام التدقيق الإداري المالي واللوجستي في الإدارة المغربية. -انتشار ثقافة وقيم الاتكالية والانتهازية والوصولية، دون مراعاة قيم العمل الجاد والقناعة. -ضعف الإحساس بالمواطنة لدى بعض موظفي الإدارات العمومية، مما يكرس لتعاظم ثقافة الوصولية والنفعية. -استفحال آفة الجهل والأمية لدى شريحة عريضة من المجتمع المغربي. -عدم تضمين المناهج الدراسية لقيم المواطنة المقرونة بتحديد الحقوق والواجبات. - تعاظم ظاهرة التهرب الضريبيي - غياب إطار قانوني لمتابعة الأرصدة البنكية في حالة الإثراء غير المشروع. - انتشار منطق إهمال الواجبات المهنية. - انحراف المرتفق الذي يلج الإدارة ويسعى إلى توجيه نشاطها بشكل يخدم أغراضه النفعية دون مراعاة مبدأ الشرعية من قبيل الخداع، الرشوة ،الغش، التزوير، الوصولية.... إن هدف التخليق المرفقي، هو التصدي لجميع أشكال الانحراف ومظاهر الفساد الإداري وكل السلوكيات المرتبطة بهده الظاهرة التي تستدعي مساءلة جميع المتدخلين ومكونات المجتمع، لا لشيء إلا لأنها تبرز بأبعاد إدارية، سياسية، اجتماعية، وثقافية بشكل يغذي استمراريتها وتغلغلها داخل الأوساط المجتمعية، ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن الرسالة الملكية السامية الموجهة للمشاركين في الملتقى الوطني حول تخليق المرفق العام ليمكننا اعتبارها بمثابة الموجه الحقيقي لفلسفة الإصلاح المرفقي في هذا الصدد، إذ حثت على ضرورة وضع قواعد تشريعية ونصوص قانونية تؤطر التخليق وفلسفة الإصلاح الشامل للمرفق العمومي، كما أظهرت أهمية التربية على المواطنة الحقة والتواصل الفعال لوضع حد للبيروقراطية الإدارية وسوء تفسير واستخدام السلطة التقديرية من قبل الإدارة. وبالتالي، ولضمان تحقيق مبدأ الاستمرارية الدستوري الخاص بخدمات المرفق العمومي، فإن مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لن يتم تحقيقه إلا بوضع رزنامة جديدة تنهج الإصلاح الإداري في عمقه، الأمر الذي لن يتم الوصول إليه إلا بوضع تصور استراتيجي واقعي يضع نصب عينيه التطورات الاقتصادية والاجتماعية والجمعوية الآنية والمستقبلية، هذا دون أن ننسى ما للمحاكم الإدارية والمالية من دور فعال في تثبيت معالم المراقبة المالية القبلية المصاحبة والبعدية، والتي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى خدمة مصلحة المواطن من جهة، وكذا المحافظة على المال العام من كل ما من شأنه أن يؤدي به الى الاختلاس من جهة أخرى. إن التخليق الأمثل للمرفق العمومي، لا يمكن أن يتم في معزل عن إشراك حقيقي للرأي العام والمجتمع المدني، الأمر الذي وإن تحقق سيساهم بصورة مباشرة في تيسير علاقة المواطنين بالإدارة وخدمة مصالحهم المشروعة ودراسة شكاياتهم بما يلزم من العناية وحمايتهم من كل ما من شأنه الإضرار بحقوقهم . إن الإصلاح الإداري الجيد، يلزم الإدارة بإعادة الاعتبار للأخلاقيات والعمل على مراعاة ضوابط حسن التدبير يقتضي ضرورة الاندماج التام للجهاز الرقابي في هذا المسلسل والتأكيد على أهمية حضوره الفعلي في تهذيب الحياة العامة بما يلزم من الشفافية مما يتطلب معه ضرورة: مراجعة قانون الوظيفة العمومية مراجعة القوانين التي تساعد على الانحراف لما فيها من ثغرات مثل: قانون الصفقات العمومية وقوانين الضرائب ... توفير الظروف الكفيلة بتمكين التنظيمات الجمعوية من القيام بالمهام الدستورية الجديدة الموكولة إليها. القيام بحملات تحسيسية في أوساط الساكنة فيما يتعلق بالمظاهر المنافية للأخلاق داخل الإدارة وخارجها. تلقين الأفراد والجماعات القيم الأخلاقية في أفق تثبيت حس المواطنة المسؤولة لديهم، الأمر الذي يمكن أن تضطلع به منظمات المجتمع المدني باعتبارها وحدات للقرب من المواطن. -نشر الوعي بين أفراد المجتمع عن طريق تعميم التعليم والتوعية العامة، من خلال نهج سياسة الانفتاح على مختلف مكونات المجتمع المغربي من أحزاب سياسية و نقابات ومنظمات مجتمع مدني. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نخلص إلى فكرة أساسية مفادها أن تخليق المرفق العام، مقترن بنهج مقاربة تشاركية وشمولية، مما يتطلب معه ضرورة: -إعداد ميثاق للتخليق وحسن التدبير داخل كل قطاع، تحدد من خلاله القواعد السلوكية والمسؤوليات. -إعداد ميثاق يضع قيم حقوق الإنسان والمواطنة في علاقة المرتفق بالمرفق العام وبالدولة ككل. -إحداث مجلس وطني لتقييم السياسات العامة والبرامج الحكومية. -إلزام الإدارات بتقديم تقرير سنوي عن حصيلة عملها في مجال دعم الأخلاقيات في قطاعها الخ... إن مواصلة تدعيم وتعزيز الأخلاقيات بالمرفق العام متمم لمسار الإصلاح والتحديث الشمولي، ذلك أن الممارسات المنحرفة والمخالفة للقيم الأخلاقية لازالت تشكل عائقا في وجه استكمال بناء معالم دولة الحق والقانون، وبالتالي وإذا كانت هذه الأوراش الإصلاحية قد تم تصورها والإسراع فيها بشكل شمولي مساهماتي دعما للمجهود الوطني في تخليق المرفق العام، يمكننا القول بأن التطبيق الأمثل لمسلسل الاصلاح المرفقي لا يمكن أن يتم في معزل عن تثبيت مبادئ الحكامة المرفقية الجيدة والمتجلية أساسا في مبدأ النزاهة المقترن بعنصري التحفيز والزجر، في أفق ترسيخ القيم الأخلاقية بالإدارات العمومية والذي لا يمكن أن يتحقق في معزل عن اعتماد المقاربة التشاركية في تصور مسلسل الإصلاح، ومن هذا المنطلق نتمنى بأن تكون الإستراتيجية الوطنية لتحديث الإدارة التي أعلنت عن انطلاقها الوزارة المكلفة بتحديث القطاعات العامة بتاريخ05 أبريل2013، بمثابة أرضية خصبة للتفاعل بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين السياسيين والاجتماعيين في أفق التدشين لمواصلة بناء إدارة رائدة في مجال الخدمة العمومية المواطنة.