إن موضوع المشاركة السياسية أصبح موضوع اهتمامً متزايد من طرف علماء السياسة والاجتماع والمنظمات الدولية المهتمة بالتنمية البشرية في المجتمعات المتقدمة والنامية، ولا تزال المشاركة السياسية في كثير من المجتمعات النامية و من بينها المغرب ضعيفة ومتخلفة عن مستوى مشاركة المواطنين في البلدان الديمقراطية، وينظر علماء الاجتماع والسياسة إلى أن التنمية السياسية- المشاركة من أحد مظاهرها – هي شرط ضروري للتنمية الشاملة، وإذا كانت تعاني غالبية المجتمعات النامية من ضعف المشاركة السياسية لمواطنيها مقارنة مع المجتمعات المتقدمة، فإن مشاركة المرأة السياسية تكاد تكون أسوأ حالا مقارنة مع مشاركة الرجل. تواجه مجتمعات الدول النامية في سعيها نحو الأخذ بنمط أو بآخر في أنماط التنمية عددا من الأزمات من بينها أزمة المشاركة السياسية، فهذه الأزمة تتخذ أبعادا مختلفة سواء من حيث النطاق أو الصيغ المطروحة للمشاركة ومدي فاعليتها، وتعتبر ظاهرة العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية من أبرز القضايا التي شغلت بال المهتمين بمستقبل الديمقراطية بصفة عامة والانتخابات بصفة خاصة نظرا لخطورة آثارها ودلالات أسبابها. و في بلادنا بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية التي أجريت يوم الجمعة 7 أكتوبر 2016 43% على الصعيد الوطني ، و تدل هذه النتيجة الهزيلة على عزوف المواطنين و خاصة الشباب عن المشاركة السياسية و تردي وتدهور العمل السياسي في المغرب الذي وصل إلى مداه الشيء الذي بات ينذر بموت السياسة و بنهاية الأحزاب السياسية الوطنية بعدما تحولت معظمها إلى أحزاب تتسابق بكل الوسائل غير المشروعة على المناصب الحكومية للتقرب من المخزن ولقضاء مصالحها المادية و السياسية بدلا من خدمة المصلحة العامة للمواطنين . تتضمن التنمية السياسية في إحدى جوانبها، تنمية روح المواطنة والولاء والمشاركة السياسية، هذه الأخيرة التي تعد مؤشر قوي الدلالة على مدى تطور أو تخلف المجتمع ونظامه السياسي ، فالمشاركة هي أحد عناصر التنمية السياسية، واقترنت بالعلاقة بين المأسسة السياسية والمشاركة السياسية من ناحية أخرى، و تعد أزمة المشاركة السياسية من بين الأزمات المترابطة التي تواجه عملية التنمية السياسية، وتواجه النظام السياسي عند خروجه من المرحلة التقليدية. تعتبر أزمة المشاركة السياسية في المغرب من أهم المواضيع التي لها أثر في إرساء البناء المؤسسي للدولة، ومن مظاهر هذه الأزمة هو العزوف عن العمل السياسي والتغيب من العملية الانتخابية حيث شهدت الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر الكثير من الظواهر السياسية و طرحت العديد من التساؤلات المهمة. إن مفهوم المشاركة السياسية يندرج في إطار التعبير السياسي والشعبي وتسيير الشأن العام من قبل أطراف المجتمع سواء النساء أو الرجال، وهي أرقى تعبير للديمقراطية لأنها تقوم على مساهمة المواطنين والمواطنات في القضايا ذات الشأن العام ، إذ أن كل فرد من أفراد المجتمع يحق له المشاركة في العملية التنموية ، والاستفادة من ثمارها والحصول على فرص متساوية ومتكافئة ، وإن حق المشاركة السياسية للرجل و المرأة هو من أهم الحقوق لأنه يساهم في صنع القرار السياسي والاقتصادي و الاجتماعي و اتخاذه . إن مفهوم المشاركة يقوم على الاعتراف بالحقوق المتساوية للجماعات والأفراد على السواء، وعلى الاعتراف بالآخر واعتباره متكافئاً ومتساوياً مع جميع نظرائه بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو العرق أو النوع الاجتماعي ، كما أن المشاركة لا بد أن تساهم في استبعاد الصراع وتحل محله فكرة التعاون. أما في المجال السياسي فتعتبر المشاركة حجر الزاوية في إعادة تركيب نظم السلطة وإتاحة الفرصة للجماعات المختلفة للمشاركة عبر آليات الديمقراطية أي الانتخاب. ينظر علماء الاجتماع إلى أن اللامساوة في توزيع القوة والسلطة في المجمتع كأحد أشكال اللامساواة الاجتماعية فيه مسألة بالغة الأهمية حيث تتمتع بعض الفئات في المجتمع بالقدرة في المشاركة في الحكومة أكثر من غيرها و ذلك عن طريق شراء أصوات الناخبين و تقديم الهدايا و الوعود ، ولا توزع المشاركة في المراكز السياسية العليا أو مراكز صناعة القرار بشكل متساو على مختلف فئات المجتمع فالأحزاب السياسية القريبة من مركز صنع القرار السياسي هي التي تحظى بالدعم المعنوي و المادي يتبعها مواطنون فقراء و محتاجين تعودوا على الصدقات و تحمل الظلم و الإقصاء و التهميش. من يتتبع مواقف بعض أحزاب وشخصيات المعارضة الصورية في المغرب يكتشف أن هذه الأحزاب التي قفزت على قطار الربيع العربي و تظاهرات الشباب في الشارع ، تبنت موقف الإصلاح، وشعاره مؤقتاً، ثم دخلت بعد ذلك في الانتخابات التشريعية باسم الإصلاح و باسم الشباب وحقوق المرأة دون أن تفوضها الجماهير ذلك ، لتحقق مكاسب مادية و سياسية تحت غطاء التغيير . لقد ارتدت الأحزاب الانتهازية لباس الإصلاح ، فهي من ناحية، ترسل بعض قياداتها لميدان الاحتجاج ، لتظهر في صف دعاة الإصلاح وترفع شعارات التغيير، و من جهة أخرى إذا ما حققت نتائج في الانتخابات تحجز لنفسها مقاعد في البرلمان و مناصب حكومية وتزعم أن النظام لبى مطالب المتظاهرين . وها هي الأحزاب الانتهازية تسير اليوم في الاتجاه المعاكس لطموحات و آمال أغلبية الشعب المغربي الذي قاطع الانتخابات ، فلقد فوتت الحكومة السابقة علي الشعب المغربي فرصة الإصلاح و التغيير والتنمية و أوجعت رؤوس المواطنين بشعارات ومهاترات سياسية شعبوية وجعلت بلادنا تعيش مرحلة أزمة سياسية حقيقية ، وقد بالغ المواطنون في تفاؤلهم بالحكومة الائتلافية التي ضمت أحزابا تختلف ظاهريا في البرامج لكنها تتفق سريا على اقتسام كعكة الانتخابات التي لا تعبر نتيجتها عن أغلبية الشعب المغربي ، وكان ذلك خطأ لأنهم اعتقدوا أن الشعارات و الوعود بغد أفضل ستنقلهم من دائرة الفقر و الحرمان إلى جنة النعيم التي كان ( الحزب الإسلامي ) يعد بها المواطنين في حملاته الانتخابية. اذا كان تأهيل المؤسسة الحزبية ضرورة موضوعية فانه لا يمكن تصوره إلا متداخلا جدليا بضرورة التعديل الدستوري للسلطة السياسية وانفتاحها على التطورات الاجتماعية في اتجاه إعادة توزيع الأدوار والوظائف السياسية للمؤسسات الدستورية تسمح بتوسيع قاعدة المشاركة والحرية السياسية في تدبير الشأن العام وسلطة اتخاذ القرار بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... فالانتقال الديمقراطي يعتبر مسلسلا حقيقيا للتغيير يتم بواسطته الانتقال من وضع سياسي متدهور إلى وضع سياسي جيد يدخل تغييرات على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية وعلى المؤسسات القائمة والفاعلين السياسيين. ويعتبر الانتقال الديمقراطي عملية معقدة وصعبة كشفت التجارب أنها تتطلب تضحيات كبيرة، وتسببت في صراعات و معارك بين القوى المحافظة القديمة و التقدمية الجديدة، وبين مراكز النفوذ وشبكات المصالح و الفساد السياسي و المالي. في الدول الديمقراطية يقوم الشرف السياسي على الانفتاح على الشعب ويقوم العمل السياسي كله من أجل خدمة أفراد الشعب المستضعفين قبل خدمة الأغنياء و أصحاب النفوذ ، ويقوم أيضا بالتحقيق في كل اتهام يوجه لأي مسؤول في الدولة مهما كان وزنه أو حجمه أو منصبه، وهو الأمر الذي لم يتحقق عندنا في المغرب لأسباب كثيرة لا يمكن عدها وحصرها ، فالجميع يعلم الاختلاسات و السرقات و النهب و السلب الذي تعرضت له الصناديق ، و الأموال الطائلة التي تم تهريبها إلى الخارج و لم يتم استرجاعها إلى يومنا هذا و المحاكمات الصورية أمام محكمة جرائم الأموال التي كان أبطالها رؤساء جماعات و مسؤولين لإيهام المواطنين بأن هناك جدية و حرص في المحاسبة و المراقبة ، لكن لا زال هؤلاء المسؤولين يمارسون مهامهم بل أكثر من ذلك عادوا من جديد فرشحوا أنفسهم للانتخابات في الوقت الذي نشاهد فيه مسؤولين في الدول الديمقراطية يقدمون استقالتهم من مناصبهم لمجرد شبهة غير صحيحة ، لا نتحدث هنا عن الأخلاق السياسية فهي لم تعد موجودة لدى الأحزاب السياسية الانتهازية التي جمعت حولها من يعتبرون أن الأخلاق في السياسة مجرد مكيافيلية ، يؤمن بها بعض فقهاء الدين وأساتذة الجامعات و الطلبة المبتدئين ! ولكننا نتحدث عن القانون في دولة الحق والقانون ! الدليل الآخر على انعدام الشرف السياسي ، هو انه إذا كانت الفكرة فيما مضى هي الثورة على ظلم الاحتلال الأجنبي و على استغلال الإنسان واستغلال ثروات البلاد والعمل على تحرير الوطن والانتقال إلى الجهاد الأكبر لبناء البلاد والإنسان ، فإن الفكرة بعد الاستقلال لدى أغلب الأحزاب الكارتونية المبللة بالماء صارت مع النهب والسلب و الفساد و الرشوة والإستوزار والخيانة و الانتهازية واستبدال السيارات الفارهة، و تعدد الزوجات ، وامتلاك المزارع و العقارات و المصانع والاشتراك في المؤسسات التجارية التي تعيد رأس المال لأصحاب الايدولوجيا الاستعمارية، والإفتاء بما هو في صالح الحزب أو الجماعة وليس لمصلحة الوطن ، وهكذا وجدنا أنفسنا مع هذا العمل الدنيء أمام أكبر عملية احتيال ونصب سياسي ضد الشعب المغربي بعد الاستقلال . ولا غرابة أن يمضي على هذا الاستقلال ستين سنة ومازلنا نشاهد الاتجار في أصوات الناخبين و نرى عصابات و مافيا المضاربات العقارية تتاجر في أراضي الدولة أمام أنظار السلطات العمومية في الوقت الذي نشاهد فيه شباب مغاربة يهاجرون من المناطق المهملة والمنسية إلى وطن آخر أرحب وأوسع . في الظروف الصعبة والحرجة التي تصاب فيها البلاد بالأزمات والمتاعب والمشاكل تظهر الأحزاب السياسية الوطنية الكبيرة يقودها زعماء تاريخيين اقترنت أسماؤهم بالحرية و النضال والكفاح الوطني ضد الاستعمار الأجنبي أمثال مهتما غاندي زعيم حزب المؤتمر الهندي الذي قاوم الاستعمار الانجليزي بجميع الوسائل كالإضراب عن الطعام ومقاطعة السلع البريطانية وتنظيم الاحتجاجات والتظاهرات والمسيرات للضغط على الحكومة البريطانية ، وسعد زغلول زعيم حزب الوفد المصري الذي ناضل من أجل استقلال مصر حيث شارك في مؤتمر فرساي للمطالبة برحيل الإنجليز عن بلاده و وقف في وجه الخديوي اسماعبل من اجل المطالبة بتحقيق العدالة و الديمقراطية، ولا ننسى الزعيم الإفريقي المناضل الكبير نلسون مانديلا محامي شعب جنوب إفريقيا وهو أقدم معتقل سياسي في العالم الذي قضى ما يقرب من 27 سنة في سجون نظام ( الابارتايد) في جنوب إفريقيا العنصرية سابقا و صبر و لم يستعجل الوصول إلى السلطة وبعد إطلاق سراحه فاز حزبه في الانتخابات الرئاسية بعد الانتصار على نظام التمييز العنصري و القهر الذي خلف آلاف الضحايا من السود. وفي فترات الراحة والهدوء حيث يبدو الناس أحياء يتنفسون ينعمون بالهدوء والاستقرار تظهر أحزاب الانتهازيين و الطامعين في السلطة و في دريهمات الدعم المالي يتصورون أنهم وصلوا إلى غاية المطاف دون أن يقوموا بأية تضحيات أو جهود تذكر، منهم من ينسلخون عن أحزابهم الأصلية عندما يفشلون في الوصول إلى تحقيق مصالحهم فتتوالد الأحزاب الصغيرة بسبب الصراع على كراسي الحكم ومقاعد البرلمان لأن الأشخاص الذين تزعموا هذه الأحزاب الانتهازية استعجلوا الوصول إلى السلطة دون عناء و مشقة ، في حين يشهد التاريخ على أن زعماء الأحزاب الكبيرة الجماهيرية لم يصلوا إلى السلطة إلا بعد عقود من النضال أمثال فراسوا متران في فرنسا والشاعر الكبير الفرانكفوني ليوبولد سدار سنغور في السنغال الذي قدم استقالته من رئاسة الجمهورية وتفرغ للكتابة والآداب، ومن المستحيلات أن نجد في الدول الديمقراطية الغربية رئيس حزب ظل مسيطرا و جاثما على صدر حزبه أكثر من 40 أو 50 سنة دون منافس ولا معارض كما يقع في بلادنا ، ومع توالد الأحزاب وتكاثرها( 35 حزبا) تشتتت القوى و كثر النقاش والجدل التافه وانقسم الرأي إلى آلاف من الأقسام وتفرقت الجهود وضعفت المواقف وصار المواطن لا يستطيع وضع ثقته قي الأحزاب السياسية من شدة تشابه برامجها الفضفاضة وشعاراتها الخادعة التي تصور للناخبين المستقبل وكأنه جنة النعيم في حين أنهم لم يروا سوى الجحيم . إن لم تكن الشعوب في الدول الديمقراطية الراقية قد اعتادت شيئا فشيئا أن تحكم نفسها بنفسها، وإن لم تكن تعتبر الديمقراطية مثل الماء والهواء تتنفس به في حياتها اليومية لما أفادها تعليمها القائم على الكتب وحدها و التنظير و الخطابات الحماسية ، فالديمقراطية ليست تهريجا سياسيا أو خطبا نارية على المنصات في الأماكن العمومية وليست مجرد شعارات ودعاية ووعود بالغد السعيد وقطع الطرقات بالرقص والزمامير والهتافات والزغاريد إلى غير ذلك من المظاهر الفولكلورية المصحوبة بموائد الأكل والشراب وتوزيع المال الحرام على الناخبين الفقراء التي نشاهدها أثناء الحملات الانتخابية ، فعندما تصبح الأحزاب السياسية مجرد "ماكينات" تعمل من أجل استلام السلطة و ليس من أجل نشر الثقافة و تكوين و تأطير المنخرطين ، و يتحول الزعماء و القياديين إلى انتهازيين يسعون إلى المناصب الحكومية عن طريق انتخابات قائمة على تضليل الرأي العام، وتقديم الوعود إلى المساكين و الفقراء و الضعفاء ، و يتضح من هذا كله أن الانتخابات وحدها لا تمثل في الحقيقة جانبا من الديمقراطية لأن الانتخابات في بلادنا لا زالت تخفي ورائها المصالح الذاتية والمؤامرات والدسائس الخبيثة وسوء النية و الإطماع وانعدام الأخلاق السياسية و احتقار النخبة السياسية المثقفة المناضلة و تفضيل أصحاب تبييض الأموال لإغراء المواطنين بالمال الحرام .