تعاني المنظومة الصحية في بلادنا من العديد من مشاكل واختلالات، سواء كانت هيكلية أو تنظيمية، ويضيق المجال هنا لذكرها وتحليلها كلها، حيث تتداخل مجموعة عوامل سياسية واقتصادية وديموغرافية مع أخرى تقنية وثقافية... إلخ. والصحافة بشتى أشكالها وتلاوينها حبلى بالآراء والتقارير والأخبار حول معظم المشاكل والإكراهات التي يعرفها القطاع، لكن بعضا منها لم يتم التطرق إليها بالشكل الكافي، ولم تأخذ حقها من اهتمام الصحافة وحتى أهل الاختصاص...ونعني العلاقة الضبابية التي غالبا ما تربط المريض بالطبيب، إذ يشتكي العديد من مرتادي المستشفيات والعيادات الطبية من كون الأطباء لا يتواصلون معهم بالشكل الكافي، وخصوصا في مرحلتي ما بعد الفحص وكتابة الوصفة الطبية، إذ ينتظر المريض شرحا مستفيضا لحالته الصحية وتفسيرا دقيقا للفحوصات التي تم إجراؤها أو الوصفة الطبية التي تم تحريرها... لكن بتعبير البعض "يصبح دخول الحمام بحال خروجو"، ويخرج المريض بخفي حنين؛ اللهم "وريقة مسكينة" يتم صرف قيمتها أدوية عند الصيدلاني، ربما لن يعرف المريض أبدا المغزى من تناولها، وقد يرهق الصيدلاني بأسئلة حولها وحول مرضه المحتمل الذي لم يعرف إليه سبيلا بعد استشارة الحكيم..وربما قد تجده أيضا–وهذا من حقه – يضرب أخماسا في أسداس لمعرفة سبب إقدام الطبيب على فعلته تلك، وقد يخمن أن المسألة لا تحتمل إلا إحدى الفرضيتين: إما أن الطبيب "ما في يديهش" بمعنى أنه لا يملك ما يقدم أو ما يؤخر، أو أن لا رغبة له في الحديث مطولا لسبب أو لآخر... التواصل في صلب العمل الطبي: غياب التواصل بين طرفي الاستشارة الطبية يهدد بنسف الأخيرة من أساسها، والأمر بالطبع غير مقبول مطلقا لسبب مبدئي، كون الطب مهنة تواصل بامتياز، وبدون هذا التواصل الذي لا يقتصر على مرحلة ما بعد الفحص -إذ يتخلل جميع مراحل الاستشارة الطبية، ابتداء بمرحلة جمع المعلومات الشخصية للمريض، ومرورا بمرحلتي المقابلة والفحص، وانتهاء، بطبيعة الحال، بمرحلة تحرير الوصفة -لن يتحقق المأمول من الاستشارة، وهو الوصول إلى تحديد المشكل الصحي الذي يعاني منه المريض كهدف رئيسي، ومن ثم محاولة إيجاد حل له كهدف ثان. إن الاختلال الذي تعرفه عملية التواصل بين الطبيب والمريض لا يمكن تبسيطها أو اختزالها فقط في كون الطبيب غير كفء أو مشغول حد التخمة، بل يمكن جرد عدة أسباب تندرج من جهة في خانة عدم معرفة الناس بطريقة اشتغال مهنيي الصحة، وبالتالي جهلهم بما لهم وما عليهم، وأن هناك تبادلا للأدوار بين الطرفين خلال فترة الاستشارة...ومن جهة ثانية جهلهم أو تجاهلهم لعدد من الإكراهات التي تواجه الطبيب، وتحول دون قيامه بعمله على أكمل وجه. وتلكم أدناه أفكار نحاول عبرها تقريب عامة الناس من المطبخ الداخلي لمهنة الطب، حتى تتضح أمور ومفاهيم وإكراهات يجب أن تكون معلومة لديكم بالضرورة. معيقات العمل الطبي: خلافا لما يعتقده الناس، فالطبيب لا يعتبر في المقام الأول مقدم علاج (prescripteur)، بل هو أولا وقبل كل شيء خبير في تشخيص الأمراض (diagnosticien)، إذ عليه مهمة ترجمة المعاناة الإنسانية الذاتية الشخصانية (subjective) إلى مجموعة معطيات تقنية موضوعية (objectives) ومتلازمات (syndromes)تؤدي إلى تأكيد الإصابة بمرض ما أو نفيها.. وهذه حقيقة لا يأخذها المريض في الحسبان خلال تعامله مع الطبيب، إذ لا يهمه – وهذا مفهوم - إلا السبل العلاجية التي تكفل له التخلص من معاناته والشفاء من مرضه؛ وهذا عند الطبيب لا يمثل إلا تحصيل حاصل، وغالبا لا يأخذ من وقته وجهده الشيء الكثير، بالطبع إذا كان العلاج أيا كانت طبيعته متوفرا. معضلة أخرى قد يواجهها الطبيب، وهي غياب التعاون من طرف المريض أو أقربائه في حالة العجز مثلا. ونعني بذلك على وجه الخصوص الصعوبة في التواصل وعدم القدرة على ترجمة المعاناة أو الدواعي التي تضطر المريض إلى الاستشارة؛ فمصطلحات مثل الألم والحمى والإرهاق والدوخة... لا تعني في ذهن المريض بالضرورة ما تعنيه حقا، بل قد يراد منها أشياء أخرى، والطبيب المتمرس هو الذي يستطيع فهم ما يقصده المريض عبر حوار يكون مفتوحا ابتداء قبل أن يصبح موجها. ثم إن الوصول إلى أصل الداء ليس بالأمر اليسير دائما، لذلك قد يضطر الطبيب إلى طلب إجراء فحوصات تكميلية (المعروفة بالتحاليل)، هذه الأخيرة أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى لتنوع الحالات وتشابهها، وارتفاع معدلات الاستشارة المبكرة، إذ تكون الأعراض عامة ولا يمكن ربطها بمرض بعينه بصورة مباشرة وسريعة. لكن الملاحظ أن التجهيزات اللوجستية التي توفرها المستشفيات على العموم، ومستشفيات القرب على وجه الخصوص، لا تتناسب والتطور الذي تعرفه مهنة الطب؛ وبالتالي يكتفي الطبيب بما توفر أو يضطر إلى إرسال المريض إلى مؤسسة استشفائية أخرى. الشيء نفسه يمكن إسقاطه على عيادات الطب العام على وجه الخصوص، حيث تختلف دواعي الاستشارة باختلاف المرضى، ولا تكاد تجد الأعراض نفسها بالخصائص نفسها، كما أنه من المستحيل توفير جميع الأجهزة الخاصة بالتشخيص، والتي غالبا ما "تقتصر" على جهاز الفحص بالصدى، وبعض من أجهزة بسيطة أخرى؛ وبالتالي يصعب معها التشخيص المباشر في حالات ليست بالقليلة. وبغض النظر عن تفضيل التوجه نحو القطاع الخاص أو العام، فالتطبيب يفترض أيضا قدرة شرائية مريحة نسبيا للمريض حتى تتاح له الاستفادة من الفحوصات اللازمة لتشخيص المرض؛ لكن الواقع يؤكد أن نسبة عريضة من الناس لا يمكنهم الوفاء بهذه المستلزمات، لانخفاض الدخل وارتفاع تكلفة المعيشة... ورغم تواجد نظم للمساعدة الطبية، كنظام "راميد"، الخاص بالفئات المعوزة، الذي أثبت عدم نجاعته حتى لا نقول فشله. الأمور تزداد تعقيدا عندما نعلم أن الحالة النفسية المتردية للمريض واستعداده الذهني المتدني لا يجعله يتقبل إلا الحلول الفورية التي لا تحتاج إلى عناء الذهاب مثلا إلى طبيب ثان أو إلى مختبر أو مؤسسة استشفائية، إلخ. لكل هذه العوامل وغيرها يصعب على الطبيب الوفاء بكل التزامات الاستشارة الطبية المثالية، ويصبح همه الأساسي هو التكيف مع كل حالة معروضة عليه، مع تقييم للظروف والملابسات الذاتية والموضوعية، سواء المعيقة منها أو المساعدة، حتى يصل بالاستشارة إلى بر الأمان، بما يرضي التزامه المهني ويرضي المريض. الهدف: المريض وليس المرض رغم كل تلك المعيقات، لا يجب على الطبيب الاستسلام للأمر الواقع وإهمال مكاشفة المريض بحالته الصحية، والعمل بقاعدة "كم حاجة قضيناها بتركها"، لأنه بذلك يكون مقصرا جدا...فالطبيب ملزم مهنيا وأخلاقيا بتقديم الحصيلة- حتى وإن كانت أولية - للنتائج المتحصل عليها،...حتى وإن كانت الاستنتاجات التي توصلنا إليها غير نهائية أو تحتمل الشك، مع إبراز الطرق الممكنة للتعامل مع الحالة: بمعنى هل الاستشارة وصلت إلى نهايتها أم يلزم إجراء فحوصات إضافية؟ هل تم الكشف على المرض أم أن دائرة الأمراض المحتملة لازالت متسعة أو أصبحت ضيقة؟ وما العمل إذن؟ هل نستعين بفحوصات إضافية أم نذهب مباشرة إلى العلاج الذي يمكن أن يكون تجريبيا أو نهائيا... مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة الإكراهات سالفة الذكر، وغيرها... المهم أن يقتنع المريض بأن الطبيب يأخذ حالته الصحية على محل الجد، ومستعد للذهاب إلى أقصى حد لكشف الداء...ووصف الدواء. * طبيب عام بالقطاع الخاص