عيادات الطب النفسي قد تكون مسرحا لحوادث لا يمكن وقوعها داخل باقي العيادات الطبية، خاصة إذا عادها مريض ذُهاني عدواني و هو ما يحتم على الطبيب المعالج و أفراد أسرة المريض العمل من أجل التخفيف من حدة أزمته المرضية في أفق تهدئته وإحالته على المستشفى على اعتبار أنه يصبح مصدر خطورة على حياته و حياة المحيطين به. حركاتهم، ملامحهم، جلوسهم على كراسي قاعة الانتظار.. كلها إشارات توحي بما لا يدع مجالا للشك بأن الأمر يتعلق بعيادة للأمراض النفسية والعصبية. بعضهم يكاد لا يستوي فوق الكراسي التي يقتعدونها، والبعض الآخر يصر على وضع رؤوسهم بين أيديهم بعد أن يطلقوا العنان لعقولهم كي تسبح في التفكير بعيدا عما يروج حولهم. قلة منهم متجمدون في أماكنهم يبدو عليهم الهدوء والسكينة. وآخرون لم يستبد بهم المرض كثيرا يجعلون الحركة عادية بين أركان القاعة، يتجاذبون أطراف الحديث حول الأسباب التي اضطرتهم إلى زيارة الطبيب. صعوبة إقناع المصاب بالأمراض الذهانية بمرضه رغم الاختلاف الحاصل بين أجواء الانتظار داخل عيادة الطبيب النفساني وعيادات باقي الأطباء سواء منهم الاختصاصيون أو أطباء الطب العام، فقد كانت الأمور تسير عادية داخل إحدى عيادات الطب النفسي بمدينة الجديدة صباح يوم الثلاثاء الماضي، إذ كانت مساعدة الطبيب تشرف على عملية تنظيم مقابلة الطبيب وفق نظام ترتيبي يحترم مبدأ أسبقية الحضور إلى العيادة. بينما يقوم الطبيب داخل مكتبه باستقبال مرضاه حيث يشرع في تشخيص مرضه عبر حوار يستخلص منه أجوبة عن أسئلة محددة تساعده على تشخيص فعّال و إيجابي للمرض. فجأة سُمع صراخ وسط قاعة الانتظار التي كانت حينها تغص بالمرضى وذويهم، صراخ صادر عن إحدى المريضات التي تمسكت بمريض آخر ينتظر دوره لمقابلة الطبيب. لم يدرك أحد سبب التغيير المفاجئ الذي طال هدوء فتاة في مقتبل العمر، فبادر الطبيب إلى التعجيل بفحصها اعتبارا منه بأنها أضحت تتطلب تدخلا طبيا مستعجلا، وما إن استحثت خطاها نحو قاعة الفحص حتى أطلق الفتى (22 سنة) العنان للسانه فشرع يتحدث بلغة عربية فصيحة حول جمالية المغرب وكرم المغاربة وعظمة الدين الإسلامي، قبل أن ينسج حوارا مع مريضة أخرى وكشف لها عن أشياء خاصة بها يعود تاريخها إلى عقود ماضية من حياتها، ما أثار استغراب الحاضرين سيما وأنه لم يجمعهما سابق معرفة. وبينما هو يواصل كلامه الموجه إليها والذي تضمن مقارنة حول المغرب وبلدان الخليج العربي (بعدما كشف لها بأنها زارت سلفا إحدى هذه البلدان)، إذا بالمريضة التي تخضع لعلاج الطبيب تغادر قاعة الفحص باندفاع كبير نحو الفتى ذاته وهي تواصل صرخاتها معتبرة إياه “الوحيد الذي تجاوب مع حالتها المرضية”!!! تعدد الجالسون وأغلبهم من الشبان بقاعة انتظار هذه العيادة و تعددت حالاتهم المرضية، و لعل ذلك راجع إلى تنوع الأمراض النفسية و العصبية كما يقول الدكتور بوشنتوف منها –على سبيل المثال- الاكتئاب والقلق والأمراض الذُهانية والعُصابية... والتي تختلف حدتها باختلاف الظروف الاجتماعية و الطبيعية التي تحيط بالمريض. ويبقى الاكتئاب حسب الدكتور بوشنتوف من أكثر الأمراض النفسية شيوعا بين صفوف المرضى النفسانيين، سيما و أنه يتوزع على أنواع عديدة منها الداخلي الذي يعود في الغالب إلى أسباب وراثية، والمقنع الناتج عن اضطرابات في الأكل والنوم، والاكتئاب الناجم عن سبب محدد (سهل العلاج بالمقارنة مع باقي الأنواع الأخرى) فضلا عن الاكتئاب الحاد و الذي تصبح معه أفكار المريض سوداوية بشكل قد تدفعه إلى الانتحار... ويرى الدكتور بوشنتوف أن الطبيب النفساني قد تعترضه بعض الصعوبات في علاج الأمراض الذهانية، إذ غالبا ما يجد نفسه أمام مريض يرفض الاقتناع بمرضه، وهو أمر لا يمكن تجاوزه إلا بمشاركة أفراد عائلته في مسيرة العلاج حيث يجب عليهم أن يتولوا أمر تزويده بالدواء وفق نظام محكم ومضبوط يحدده الطبيب سلفا. المرأة هي سند المريض النفسي سكون وهدوء يعم العيادة المطلية بألوان متناغمة ومتناسقة تبعث الراحة في النفس، قسم كبير من فضائها الداخلي خصص لاستقبال المرضى وعائلاتهم، فيما الباقي يستغله الطبيب الذي يحتل مكتبه قاعة واسعة فيها كل وسائل الراحة التي تساعد المريض على التكلم بأريحية كبيرة. الفضاء بأكمله يعطي للمريض فرصة للتعبير عن مشاعره ومعاناته وأعراضه دون قيد أو شرط سواء قدم بمفرده باحثا عن العلاج أو جاء بإيعاز من أحد أفراد أسرته أو اثنين أو أكثر. والأمر هنا يختلف كثيرا حسب الدكتور أحمد السايح الذي يقول إن «المريض الذي يأتي بمفرده يكون مقتنعا بمرضه، وهو الذي يطالب بالعلاج مما يسهل عمل الطبيب، لكن في الحالة الثانية يكون المريض مدفوعا وهنا تكمن المشكلة لأنه يكون مؤمنا بكونه غير مريض وأنه لا يعرف السبب الذي جعل أسرته ترافقه إلى الطبيب وفي هذه الحالة أنا أتجاوز هذيانه وأكلمه في الأشياء التي يعاني منها كقلة النوم والخوف، لأنني لا يمكن أن أقنعه بأن ما يقوله مجرد هذيان نتيجة مرضه وهنا سأصطدم معه إن حاولت». لا يصطدم الطبيب مع المريض الذي يطالب بالعلاج لإيمانه بالمشاكل التي يعاني منها، لكن المشكل يطرح حينما يكون المريض مدفوعا إلى العلاج رغما عنه، فيتحول إلى شخص عنيف. وفي هذه الحالة لا يمكن للطبيب، غالبا، أن يتابع علاج المرضى في العيادة لغياب آليات السيطرة على هيجان المريض. لذلك يضطر إلى إحالتها على المستعجلات أو المستشفيات المتخصصة لمتابعة العلاج « لا يمكن أن أحتفظ بمثل هذه الحالات لأن العيادة بها ناس أخاف على سلامتهم من أي تصرف متهور للمرضى العنيفين الفاقدين لوعيهم، والذين لا يمكن توقع تصرفاتهم، وهذا المريض يمكن أن يكون خطيرا حتى على نفسه»، يشرح الدكتور السايح. أول شيء يقوم به الطبيب هو الجلوس مع المريض بمفرده، ومنحه الفرصة للتعبير عن نفسه، فالمريض النفسي نادرا ما تعطى له الفرصة للحديث، ودائما يغتصب الآخرون حقه في الكلام ويتحدثون نيابة عنه. بعد ذلك يدخل الطبيب مع مريضه في نقاش حول الأعراض التي يعاني منها، وهي الطريقة يستعملها أغلب الأطباء النفسيين. داخل عيادات الطب النفسي يبحث بعض المرضى عن أذن تسمعهم وتخفف عنهم معاناتهم، مثل حالة ذلك الجد ستيني الذي يعاني من مثليته الجنسية، فرغم أنه يجد متعته في ممارسة الجنس عليه إلا أنه لا يتقبل وضعه خصوصا أنه متزوج وله أبناء وأحفاد. افتضح أمر الرجل في وسطه العائلي ومحيطه الاجتماعي، وأصبح الناس يتفادون التعامل معه، الشيء الذي جعله يحس بالتهميش والإقصاء ولم يجد من ينصت إليه ويتكلم إليه ويتفهم معاناته، فكانت خطوة لجوئه للطبيب النفسي خطوة ناجحة خففت عنه وجعلته يتقبل وضعه ويتعايش معه. هذه الفرصة التي يمنحها الطبيب للمريض للحديث عن نفسه، تخلق نوعا من الثقة بين الطبيب ومريضه وتجعله يحكي عن أشياء خاصة قد يتحرج من الحديث عنها أمام عائلته، لأن المريض في مثل هذه اللحظات يحتاج إلى أذن تقنية تسمعه وتتفهم كلامه. فكلام المريض في بعض الأحيان يزعج العائلة ويدخل الخوف إليها، لأنهم يرون فيه شخصا آخر يتعرفون عليه لأول مرة، ويرفضون سماعه حتى وإن أراد الجهر لهم بما يدور في خلده، وفي مثل هذه الجلسات يكون الطبيب محايدا لمعرفة طريقة العلاج المناسبة له. في ميدان الطب النفسي، حسب الدكتور السايح، لا يمكن للطبيب وضع أسئلة خاصة، فهيئة المريض وطريقة لباسه وطريقة كلامه وملامحه، وموافقته على القيام بالمقابلة أو رفضها، كيف يحاول فرض نفسه على الطبيب، نظراته وهروبه من النقاش وغيرها من الأشياء، كلها أمور تساعد الطبيب فالتشخيص يبدأ من دخول المريض من الباب ومن هذه الملاحظة الأولية يمكن للطبيب معرفة نوعية الأسئلة التي يمكن أن يطرحها على المريض. فمثلا إذا رافقت الأم ابنها المريض نفسيا إلى العيادة، قد تسر للطبيب بكون ابنها يرفض الأكل في المنزل، ويصر على تناول طعامه خارج البيت كما يرفض الحديث إلى بعض أفراد أسرته، مثل هذه الأشياء يفهم منها الطبيب المعالج أن الابن فاقد الثقة فيمن حوله ويتهيأ له أن أحدهم يريد تسميمه وقتله فمن البديهي أن يكون السؤال هو « فيمن كتشك؟» كي يفهم أن الطبيب يعرف ما يدور في خلده. لا يأتي جميع المرضى بإرادتهم إلي العيادات بل يرافقهم أهاليهم. والفئة الكبرى التي ترافق المريض النفسي للعلاج غالبا ما تكون الأم التي تعد السند الأول للمريض، وفي بعض الحالات القليلة تكون الأخت أو غيرها، وفي الحالات النادرة التي يرافق فيها الرجل المريض ينتظر النسوة خارج العيادة أو المستشفى، وما يمكن قوله أن ثلثي المرضى ترافقهم النساء. وتختلف طرق العلاج حسب نوعية المرض. وينطلق العلاج منذ دخول المريض من باب العيادة، أي إما أنه لديه اقتناع ورغبة في علاج نفسه، أو مذبذب ويتساءل إن كان مريضا ويحتاج لعلاج، والعلاج قد يضم الجلسات والأدوية التي عرفت تطورا كبيرا. الإمكانيات المادية عائق أساسي لم تكن قاعة الانتظار داخل عيادة الطبيب النفسي بوشعيب كرومي تضج بالكثير من المرضى النفسيين، لكن الموجودين كانت تبدو حالتهم عادية يجلسون في هدوء. باستثناء امرأة عجوز كانت برفقة رجل وامرأة يبدو أنهما أبناؤها. كانت المرأة تتصرف بشكل غريب وتزيغ نظراتها بين الأشياء التي تؤثت القاعة، والناس المحيطين بها، وبين الفينة والأخرى تقفز من مكانها وكأنها تهم بالوقوف إلا أن ابنتها كانت تمنعها من القيام، وتمسك من يديها لتهدأ من روعها وتعيدها إلى حالة سكونها. حالات كثيرة لمرضى نفسيين تتقاطر على عيادة الدكتور كرومي كل يوم، وهو ما يجعله يرى أنه لولا اقتناع المريض بمرضه وطلبه للعلاج ما كان ليزور عيادة الطبيب، كما يرى أن نظرة الناس للمرض النفسي اختلفت كثيرا عن الماضي والدليل هو نسبة المرضى الذين يطلبون العلاج لدى الطبيب. ينطلق الطبيب المعالج من القيام بتشخيص أولي للحالة النفسية للمريض حتى يتمكن من معرفة نوعية العلاج التي يجب أن يتبعها والمراحل الكبرى التي سيمر منها المريض. فمثلا إذا كان المريض يعاني من الفصام أو حالات الخوف الشديد أو تراوده بعض التهيئات ويرى الأشباح فهنا من الضروري وصف بعض الأدوية التي تجعله يحس بالراحة بالموازاة مع الجلسات. تختلف الحالات التي ترد على العيادة، فهناك من جاء لطلب العلاج بمفرده، لكن الغالبية العظمى يكونون مرفوقين بأمهاتهم، فمن خلال الملاحظة يتبين أن النساء هي الفئة الكبرى التي ترافق المريض في جميع الفئات العمرية. ومن بين الحالات التي علقت بذهن الدكتور كرومي حالة سيدة كانت تعاني بسبب مشكل عائلي من الوسواس القهري وتسيطر عليها حالة من الخوف من كل شيء على نفسها وعلى أبنائها، هذه الحالة جعلتها تتوقف عن العمل وحولت حياة المحيطين بها إلى جحيم. ولكن بعد متابعتها العلاج الذي لم تتجاوز مدته ستة أشهر تمكنت من العودة لممارسة حياتها بشكل عادي، دون أية مشاكل بعد أن تماثلت للشفاء. وإذا كانت الإمكانيات المادية لهذه السيدة ساعدتها على الشفاء من المرض الذي كانت تعاني منه والعودة إلى حياتها الطبيعية، فإن الطبيب يؤكد أن ضعف هذه الإمكانيات وغياب التغطية الصحية عند الكثير من المرضى هي التي تمنعهم من متابعة العلاج والتماثل للشفاء والبحث عن أماكن أخرى بعيدة عن العلاج الطبي. مجيدة أبوالخيرات/ عبد الفتاح الزغادي