عند انتهاء " درس الأنشطة " مع تلامذة الثانوي التأهيلي، سواء الجذع المشترك أم الثانية باكلوريا، تراودني فكرة الكتابة عن الجو العام، الذي يخلقه التلاميذ فيما بينهم على المستويات الآتية: - الأفكار التي يطرحونها. - المهارات التي يتعلمونها. - القيم التي يستنبتونها. فقررت على مقربة من انتهاء الموسم الدراسي، أن استجيب لهذه المراودة الفكرية، إثر نشاط تربوي انعقد مؤخرا، كانت نتائجه تستحق التفكيروالتأمل،عن طريق إشراك المهتمين بمجال التربية و التكوين، بغية تقريبهم من واقع ذهنية تلمذية، خاضعة لسياقات معينة. درس الأنشطة بالنسبة لتلاميذ الثانوي التأهيلي – أتحدث عن مادة التربية الإسلامية التي أدرسها- يشتاقون له كلما تأخر عنهم، ومرد ذلك، حسب التلاميذ أنهم يقولون" كنحسو بريوسنا أحرارا ومنتجين"، وهذا هو الهدف "إشراك التلميذ في العملية التعليمية-التعلمية"، فهو يختار موضوع النشاط الذي ينسجم مع عنوان الدرس، و يختار أي نوع من أنواع الأنشطة " عرض، مائدة مستديرة، مجلة حائطية، صياغة مطوية، مسرحية، مناظرة ، حوار مع ضيف.."، فيسهم التلميذ في إبداع مادة تعليمية- تعلمية، تكسر الروتين الدراسي ، و تكشف عن طاقاته الإبداعية ..، ولذلك فدرس الأنشطة إن أعد بطريقة جيدة، صار محبوب التلاميذ . آخر درس أنشطة، كان مع تلاميذ الجذع المشترك علمي، موضوعه فقه الصلاة، و نوعه صياغة "مطوية تواصلية". في حصة الإعداد تعلموا خطوات إنجاز مطوية، وطلب من كل تلميذ أن ينجز مطوية في بيته مراعيا الجودة في المضمون، و الجمالية في الشكل. و بعد أسبوع في حصة إنجاز درس الأنشطة، كان النشاط على الطريقة الآتية: - تمت المناداة على كل تلميذ باسمه، ليسلم المطوية، ثم اتضح أن جل التلاميذ أنجزوا "المشروع". - أحسست بجدية التلاميذ في إنجاز " مشروع المطوية"، فاقترحت عليهم أن ننظم مسابقة، لأحسن مشروع، و نمنح الثلاثة الفائزين جوائز. - وافقوا على الفكرة. - اقترحت على التلاميذ أن يأخذ كل واحد منهم ورقة، يخصصها " للتصويت بنعم أو لا" على المشاريع التي تعرض أمامه، فيكتب اسم المشارك، فإن أقنعه المشروع، يضع نعم و العكس. وبهذا انتقل التلاميذ إلى جو تنافسي حماسي مشاهده كما يلي: - خمسة تلاميذ ينسحبون من المسابقة، لخوفهم من المثول أمام التلاميذ لشرح مشروعهم. - بعض التلميذات، يمسكن بالمطوية لشرح مضمونها و شكلها، فيداهم "الاهتزاز" أيديهن، و منهن من يقاومن، و منهن من يغادرن. - يعض التلاميذ يتحدث و هو مطأطئ الرأس، لا يستطيع النظر في وجه زملائه. - تلميذة تفاجئ الجميع بقوتها و صلابة كلمتها. - تلاميذ يتحايلون على عقول المصوتين، بقولهم إن الأهم هو المضمون و ليس الشكل، لأن مشاريعهم ضعيفة من جهة الشكل. - تلميذ شجاع، و في نظر زملائه "كسول"، من إن قام حتى أطلقوا قهقهاتهم.. بعد الانتهاء من عملية التصويت على كل المشاريع، طلبت من كل تلميذ أن يختار من بين الفئة التي صوت لها بنعم، أن ينتخب ثلاثة أسماء، وكانت عملية فرز الأصوات كالآتي: - تسليم جميع أوراق التصويت. - تعيين ثلاثة تلاميذ، لكتابة أسماء المختارين على السبورة. ساد جو من الترقب و ضبط الأنفاس، ومراقبة المتقدم في الصف الأول، و الذي في الصف الثاني ، و من كان في الصف الثاني و أصبح في الصف الأول، و انتظار بعض الأسماء التي ينبغي أن تتقدم اللائحة،إلا أنها متأخرة، و إطلاق بعض القهقهات على اسم تلميذ، لم يخطر ببالهم أنه سيدخل غمار المنافسة النهائية..الصمت و الترقب ..ثم تصفيق حار على الفائزين الثلاثة .. و يا لها من مفاجأة! مفاجأة عرس ديمقراطي مصغر، يحمل بين طياته الكثير من الدلالات التي تتجاوز جدران القسم الأربعة. الفائز هو أصحاب المشاريع الضعيفة، وخصوصا صاحب الصف الأول، و صاحب الصف الثاني. أرى في أعين التلاميذ المجتهدين، و خصوصا أصحاب المشاريع القوية، الحزن و الحسرة، وضياع الجوائز المزينة التي يرونها أمامهم.. نتيجة قاسية، يفوز الضعيف و يكرم بجائزة! . شعور بعدم الرضى، وكأنهم يقولون هل هذه هي الديمقراطية؟! لكي أنطق دلالات هذه النتيجة المفاجأة، فتحت المجال لخمس مداخلات، جلها اتفقت على أن النتيجة غير مرضية و أن الفائز الحقيقي، التلميذة الفلانية، لأنها قدمت أحسن مشروع. فسألتهم: لماذا لم تصوتوا على مشروعها؟! فقالوا: كل صديق يصوت لصديقه. غريب و عجيب عرس ديمقراطي نتيجته غير مرضية، و السبب " قيم القبيلة و الصداقة"، بدل قيم القوة و الأمانة. قلت لهم: لن نلغي النتيجة ..و لن ننقلب على الديمقراطية. و الآن مع توزيع الجوائز جو من الحزن يخيم بظلاله على المجتهدين لأن الجوائز ستذهب لمن هو دونهم. فكانت المفاجأة السارة لأصحاب الحق المهضوم، وانقلب الفائزون إلى أضحوكة. الجائزة الأولى: تفاحة و موزة. الجائزة الثانية: دانون. الجائزة الثالثة: اثنان كوجاك. فانفجر القسم ضحكا و تصفيقا... إن هذا الحدث التربوي يجعلنا نستخلص ثلاثة خلاصات أساسية: - إن الديمقراطية بدون قيم، إطار شكلي لا معنى لها. - إن ثقافة " الصداقات و العلاقات" البرغماتية حاجز حقيقي أمام كل كفاءة تريد التقدم. - إن أهم محضن لاستنبات قيم الديمقراطية هي المدرسة. *أستاذ الثانوي التأهيلي مادة التربية الإسلامية [email protected]