في هذا الحوار، تتحدث جميعة العروسي، زوجة الكاتب الفرنسي «جون ماري غوستاف لوكليزيو» الفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 2008، عن علاقتها باللغة العربية وعوائق تعلم اللغة الأم، وكذا عن اختياراتها الشخصية المتعلقة بالهجرة والدراسة والكتابة، الخ. فهذه المرأة ذات الأصول الصحراوية، التي هاجرت إلى فرنسا في بداية شبابها بغية متابعة الدراسة الثانوية، تعتبر الكتابة بمثابة تحليل نفسي كانت تلجأ إليه لمعالجة نفسها من جروح الهجرة الغائرة ومفارقة الأهل والأصدقاء. لكنها ترى في الهجرة انفتاحا على أفق كوني يسمح بمعرفة النقط المشتركة لدى البشرية والإحساس بنبض الإنسانية. كما تطلع قراء «الأحداث المغربية» عن خبايا علاقتها بزوجها وطيبعة نظرتها إلى كتاباته وشخصه ونظرته إلى الأشياء، الخ. لا شك أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن في هذا الحوار يتعلق بمسألة اللغة باعتبار أن الحوار سينشر باللغة العربية. لكنه سيجري، في أصله، بالفرنسية. ما السبب في عدم تعلمك اللغة العربية؟ في الواقع، لا أملك إلا أن أقول إنني لم أتعلم اللغة العربية كما تتعلمها بنتاي اليوم. لم أستطع أن أتعلمها عندما كنت تلميذة بثانوية للا عائشة في مدينة الرباط، التي كانت مخصصة للإناث فقط. إذ كان التعليم في رمته بالفرنسية، حيث لم يتمكن جيلي بكامله من تعلم العربية، باستثناء بعض التلميذات اللواتي تعلمنها عن طريق آبائهن في البيت. بالنسبة لي، لم يكن هناك من يساعدني على ذلك. وعندما غادرت المغرب، لم أكن مسلحة بمعرفة لغوية عميقة، لكن كنت أتدبر أمر التواصل كلما التقيت المغاربة في الشارع. كما كنت قادرة على القراءة وتحديد الأمكنة، إلخ. غير أني أدرك اليوم أن كثيرين من أبناء جيلي لم يكن بإمكانهم تعلم اللغة العربية. خلافا لما يقوله البعض، لا يتعلق الأمر هنا بالثقافة المغربية، وإنما يتصل فقط بعدم انكبابنا على تعلم اللغة، وهو الأمر الذي كان سيتيح لنا علاقات واسعة مع العالم العربي والاطلاع على ثقافته. قلت إنه لم يكن من بين أفراد العائلة من يساعدك على تعلم اللغة. هل هي مشكلة العائلة كلها؟ لا. كانت المشكلة تهمني، باعتباري أنا البكر، وأخي الذي يصغرني. كانت والدتي مقتنعة أننا لن نستطيع استكمال دراساتنا العليا ما لم ندرس اللغة الفرنسية. هكذا، أرى اليوم أن اختيار المنهج الدراسي كان يتسم بصعوبة بالغة بالنسبة للآباء آنذاك لأنهم لم يكونوا ذوي مستوى تعليمي عال. لا أعرف كيف صارت الأمور في المغرب اليوم. إذ كان هذا الاختيار يقوم على رغبة عميقة لدى الآباء بتعليم أبنائهم لغة أجنبية لأن الحصول على وظيفة كان يقتضي التمكن من ناصية الفرنسية. يتعلق الأمر، إذن، باختيار شخصي... (مقاطعة) نعم... إنه اختيار شخصي، لكنه مشروط بالمحيط الثقافي والوطني والاقتصادي. لم يكن اختيارا قائما على لعبة حظ؛ إما العربية أو الفرنسية، إونما كان اختيارا مفكرا فيه أخذ بعين الاعتبار كل الشروط التي يمليها المحيط آنذاك. هل يمكن القول إن الرغبة في الكتابة بدأت من مرحلة تعلم اللغة هذه؟ الحاجة إلى الكتابة نبعت في دواخلي نتيجة صعوبة التموقع داخل المجتمع المغربي باعتباري مغربية المولد ذات ثقافة فرنسية، وبوصفي كذلك امرأة. إذ أن موقع المرأة لم يكن آنذاك يسمح لي بالانفتاح على الثقافة المغربية، مع كل ما يرافق هذا الأمر من تهميش المرأة في مختلف المجالات. غير أني درست القانون. وشرعت في إعداد أطروحة دكتوراه في هذا المجال في فرنسا. لكني لم أستكمل البحث فيها، متسائلة عن جدوى هذه الدراسة بالنسبة للمغرب. كان لدي ميول بالعمل في الإذاعة. هل تولدت الرغبة في الكتابة من هموم المرأة التي كنتها من قبل؟ وكيف تبلورت قضايا الهوية والمهجر ضمن مجالات اهتمامك؟ نعم. كنت دائما مسكونة بهذه الحيرة رغم أني سافرت كثيرا، بحيث أصبحت أعتقد أنني مواطنة عالمية. لكن لا يشغلني اليوم التفكير في موضوع الهوية. ولم أعد أقول إنني مغربية أو موريسية أو فرنسية، وإنما أنصت إلى نبض القلب الذي يعلو على الجنسية، وينتصر للوعي الإنساني. عندما تتحدثين عن السفر، بماذا يتعلق الأمر في واقع الحال؟ في رأيك، هل هو قدر إنساني يجعل الهجرة متجاورة مع قلق الكتابة؟ أم هو إحساس بضرورة السفر في رحلة البحث عن إثبات الذات؟ ثمة شيء يسمى الجولة الخارجية. إذ نحتاج أحيانا إلى البحث عن النقط المشتركة بين ما نرغب فيه وما يجري في العالم. إذ نكون في حاجة إلى المرور عبر بوابة خارجية؛ أي عبر وسيط من الوسائط. حينما نغضب، كما الشأن بالنسبة لي، نلجأ إلى هذا الوسيط للاطلاع على ما يجري في العالم، ولتصحيح النظرة إليه. هل عثرت على هذا الوسيط في رحلاتك المتعددة؟ نعم. فقد اكتشفته خلال كل رحلاتي حول العالم، حيث أدركت أن البشرية كلها تمتلك نقطا مشتركة، وأن الصعوبة تكمن في تحقيق التواصل بينها. لكن عندما نكون مجبرين على التواصل رغم شح الوسائط، فإننا نتجه بشكل مباشر صوب الفكرة المرغوبة دون مداورة أو مناورة. كل ما أحبه في الترحال هو أن أتيه. أحب كذلك أن أتجول في مدينة ما، وأن أفهم منطقها الخاص من خلال شوارعها وسلوك سكانها وأشعة الشمس المسلطة عليها، إلخ. إنها طريقة لتحقيق التوازن. هل كانت والدتك وسيطك الأول؟ لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة. كانت والدتي موجهتي ووسيطي، حيث اقترحت علي أشياء كثيرة من خلال التربية التي اتسمت بالصرامة المعروفة عند الإنسان الصحراوي. كانت والدتي صارمة إلى حد القسوة. إذ وجدت نفسها، بعد وفاة والدي، أمام مسؤولية تربية الأطفال. أعتقد أن المرأة الصحراوية معروفة بقوتها. هل يمكن القول إن البحث عن أفق مغاير في حياتك تولد منذ الطفولة عن رغبة جامحة بالسفر، كما هي عند الإنسان الصحراوي المعروف بكثرة ترحاله وانتقاله؟ نعم. العائلة كلها معروفة بالترحال، حيث رحل والداي، وهما عروسيان، عن قبيلتهما مثلما أجبرت عائلتهما من قبل على الرحيل. كما هاجرت والدتي إلى فرنسا بعد ذلك. فالرحيل، إذن، عنصر أساسي كان ذا أثر عميق غذى ذاتي، أدركته واستبطنته. إذ يقول زوجي عندما نسافر معا إني أحمل حياتي في حقيبتي. غير أن والدتي علمتني أن أبقى وفية لذاتي حتى وإن عشت خارج الوطن. هل يعني هذا الرحيل الانطلاق من المحلي إلى الكوني؟ وكيف تنظرين إلى العلاقة بين الثقافة المغربية عموما، والصحراوية خصوصا، وهذا الرحيل نحو أفق عالمي؟ أعتقد أنه رصد ووعي بالبحث عن التوازن. إذ يكمن أساس هذا الانتقال، مثلما كان الأمر بالنسبة لعائلتي، في الثقافة الصحراوية والتربية التي رعتني بها والدتي. هذا معطى أساسي. غير أن هذا لا يمنع من الاحتكاك بنماذج تربوية مغايرة تتلاءم مع طبيعتنا حتى نندمج في محيط معين، ومن الانطلاق من الثقافة المحلية والتاريخية والبحث عن أفق مفتوح ومعانقة النزعة الإنسانية الكونية. لا شك أن لقاءك الأول مع الكاتب «جون ماري غوستاف لوكليزيو» تم في غمرة هذا السفر الطويل؟ كيف كان اللقاء؟ كنت أدرس في السنة النهائية من السلك الثانوي. كنت أقوم ببعض المحاولات الإبداعية. إذ كانت الكتابة عندي تشبه التحليل النفسي. كما كانت وسيلة أعالج بها نفسي لأنني عانيت كثيرا بعد مغادرة المغرب رغم أن الأمر يتعلق بقرار اتخذته، لكنه ترك في نفسي جرحا غائرا، حيث تركت ورائي عائلتي وأصدقائي، ولأن تاريخي المغربي توقف في هذه الفترة، ليبدأ تاريخ ثان. لهذا، كنت مهمومة بالكتابة والتعبير عن كل هذه التحولات الحياتية، حيث كنت أدون مذكراتي. ثم بدأت أكتب القصص القصيرة جدا. كنت، في الغالب، ألتقي «لوكليزيو»، الذي كان يسكن غير بعيد من بيتي. ذات يوم، قدمت له مخطوطاتي، وطلبت منه أن يقرأ ما كتبت. أخذ أوراقي وعنواني، ليبعث لي بعد ذلك برسالة يلح فيها على لقائه للحديث عن كتاباتي بدل أن يكتب لي رسالة مطولة. هكذا، بدأت علاقتنا؛ لم نتحدث كثيرا عما كتبت لأنه لم يكن ذا أهمية استثنائية. في المقابل، كنت مهتمة بما يكتبه. بعد ذلك، كانت لنا اهتمامات مشتركة كثيرة مثل اللغة. على سبيل المثال، أنا أحب الكلمات، حيث أني مهووسة بالقاموس. كما نتوفر في البيت على قاموس فريد هو «قاموس الحوار والقراءة» (Dictionnaire de la conversation et de la lecture). من هنا، تطورت علاقتنا إلى زواج وأبناء ورحلات وكتابات مشتركة مثل «سيراندان» (sirandanes) و»قوم السحاب» (Gens des nuages). ونحن الآن بصدد إعداد عمل مشترك حول أرخبيل الموريس. هل بدأ أثر «لوكليزيو» منذ هذه اللحظة؟ بدأ أثره قبل هذه المرحلة، قبل تعرفي عليه لأن عمي قرأ علي كتابه الأول «Procès-verbal»، الذي وجدته مثيرا جدا. بعد ذلك، قرأت كتاباته الأخرى، وانجذبت إلى هذا الأسلوب في الكتابة وهذه الروح الإبداعية. كما تأثرت، بالطبع، بشخصيته. يخلص المرء من خلال قراءة أعمال «لوكليزيو»، خاصة رواية «الصحراء» و»أونيتشا» وبعض الكتابات المشتركة والمقالات، إلى استنتاج فكرة أساسية مفادها أنكما سافرتما معا إلى الساقية الحمراء، بلدك الأصل، واشتغلتما على الذاكرة الجماعية لبعض الشعوب. إلى أي حد غير هذا السفر رؤيتك إلى هذه العوالم؟ في الواقع، لم تتغير رؤيتي إلى الأشياء. لكن رؤيتي وتمثلي لشعوب الصحراء صارت أكثر وضوحا، حيث لم تعد تقتصر على عناصر حكايات والدتي. وما اكتشفته في الصحراء كان فريدا. وجدت أن حكايات والدتي كانت صادقة ودقيقة. لم أكتشف أن النساء يشبهن والدتي فحسب، بل إن كل الصور والأفكار، التي وصفتها والدتي، كانت تطابق الواقع الصحراوي. لم أندهش لوحدي بهذا الأمر، حيث أصيب زوجي، هو الآخر، الاندهاش لأنه تحدث كثيرا مع والدتي، قبل أن يكتب روايته «الصحراء»، عن الصحراويين وثقافتهم. بالنسبة إلي، لم تعد تمثلاتي تتوقف على عناصر الحكاية في روايات والدتي الكثيرة عن سكان الصحراء، بل صارت مدعومة بالتفاصيل الواقعية الدقيقة، التي جمعتها خلال سفري إلى هناك. هكذا، صارت ذاكرتي غنية وقوية. أما بالنسبة لزوجي، فقد أغنى أبحاثه وتصوراته وذاكرته وحكايات والدتي له عن الصحراء بالمعرفة الميدانية. يكتشف القارئ لرواية «الصحراء» وبعض روايات الروائي الليبي إبراهيم الكوني أوجه تشابه كثيرة بين الروائيين: قوة الوصف، الذي يجعل من الصحراء فضاء ينبض بالحياة، وشخصنة كائناتها، ومعرفة عميقة بثقافة الصحراء. هل اطلع «لوكليزيو» على روايات هذه الكاتب الليبي؟ وما العلاقة التي ينسجها مع الأدب العربي بصفة عامة، والمغربي على الخصوص؟ لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال. ما أعرفه هو أن «لوكليزيو» جعل من الصحراء فضاءا روائيا ذا دلالة رمزية وقيمية. هل أثرت جائزة نوبل في شخصية «لوكليزيو»، وفي حياة الأسرة بكاملها؟ أعتقد أن شخصيته لم تتغير، كما لم تتغير نظرتي إليه. لكن ثمة شعاع ضوء سلط عليه في الآونة الأخيرة، لأن كثيرين لم يكونوا يعرفونه من قبل، حيث كانت هناك حركة كبيرة من حولنا لم نعهدها من قبل. أعترف أنه كان هناك اهتمام لا مثيل بما يكتبه. لكن كانت هناك كذلك جلبة من أجل لا شيء. بعد أن فاز بالجائزة، هل لا يزال «لوكليزيو» يحتفظ بعاداته المعروفة كالانعزال من أجل القراءة والكتابة؟ نعم. لكني أعتقد أنه مطمئن لهذا الاهتمام لأنه أدرك أخيرا أن كثيرين سيقرأون كتاباته. لم تكن الجائزة بالنسبة إليه تعبر عن ربح مادي، بل اعتبرها مبعث طمأنينة له. إذ شعر أنه كتب وأسمع صوته، وأن هناك من يقرأ إبداعاته. ربما يشكل مجيء الصحافيين الأجانب للقائه ومحاورته التغير الأكبر في حياتنا. لماذا أصبح «لوكليزيو» مأسورا بالثقافات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، بحيث نجد جل أعماله تنصب على الإنسان المستعمَر؟ ما السر في ذلك؟ كان «لوكليزيو» يعتقد دائما أن الاستعمار يعتبر عنفا ارتكبه الإنسان الأبيض في حق الإنسانية، وأن هذا الاستعمار لم يكن يستند إلى تبرير واضح. هل تصححين ما يكتبه؟ نعم لأني كنت قارئته الأولى، لكني لا أتدخل في كل شيء. إذ لا تتجاوز تصحيحاتي بعض الكلمات التي لا تناسب السياق الذي وردت فيه. في البداية، غيرت بعض الأشياء، التي رأيت أنها كانت جسيمة. لكني لم أوفق في ذلك. غير أني كنت مطالبة بقراءة كتاباته قبل أن أسلمها إلى الناشر. لم يكن «لوكليزيو» يبدي امتعاضه من ذلك، بل يكون في غاية السرور لأنه يجد في البيت من يقرأ نصوصه.