تعيش الجامعة المغربية، منذ عقد ونيف، على وقع انحدار ملحوظ يمس مختلف بنياتها التكوينية والبحثية والتدبيرية. وهو الانحدار الذي يمكن تلمسه من خلال مؤشرات كثيرة أشدها بروزا وتأثيرا ارتفاع عطالة الخريجين، وتدني مستوى المخرجات العلمية والمعرفية والمهارية لطلبة المؤسسات الجامعية، فضلا عن مؤشرات أخرى يمكن قياسها بحسابات الجودة والملاءمة والتجديد والمساهمة في أوراش التنمية الترابية. بداية، لا بد من القول إن مشكلة الجامعة المغربية في صلبها تراكم إخفاقات واختلالات وسوء تدبير انطلقت منذ تأسيسها، واستمرت مع مسيرة اشتغالها ومأسستها أفقيا وعموديا، واشتدت مع إخفاق الإصلاحات التي باشرتها الوزارة الوصية، بسبب سوء التشخيص، والتسرع، واعتبارات التجاذبات الحزبية والسياسية المختلفة. لن نخوض عبر هذه الورقة في تفاصيل هذه الاختلالات من زاوية الجذور والامتدادات البنيوية المركبة، فهذا أمر يحتاج لدراسات ومناظرات، ولكن سنثير قضيتين مهمتين نرى أن لهما بالغ الأثر في ما يعرفه الأداء الجامعي من تراجع: أولاهما بيداغوجية وثانيهما سياسية. العرض الجامعي: اختلالات بيداغوجية وبحثية. يقتضي تقييم الأداء الجامعي المغربي عقد مقارنات مع جامعات إقليمية وعالمية، ولذلك يجب التنويه إلى أن أول جامعة مغربية برسم سنة 2015 (بحسب الترتيب الدوري الذي تجريه مؤسسات متخصصة) هي جامعة محمد الخامس (ترتيبها العالمي 3281). وأن سبع جامعات مغربية فقط هي التي ضمنت التواجد ضمن قائمة 100 أفضل جامعات إفريقيا (سنة 2014). وهذا مؤشر من ضمن مؤشرات كثيرة تزكي ما طرحناه أعلاه، وهو ما نرده إلى جملة اختلالات نوجزها في ما يلي: - غياب التخطيط الاستراتيجي، وانعدام الجرأة في ما يتعلق بالعرض التعليمي المدرسي والجامعي في شموليته، إذ ما يزال التصور العام لمخرجات الجامعية المغربية كلاسيكيا لا يستجيب لمستجدات الساحة السوسيومهنية. - اختلال العلاقة بين مكونات الحقل الجامعي وغياب العقد البيداغوجي الكفيل بتوضيح الحقوق والواجبات، وبوضع المؤشرات الإجرائية لتقييم النتائج التي تحققها وحدات البحث وهيئات التدبير الإداري والتقني. - استفحال الهدر الجامعي وسوء تدبير أزمنة التكوينات، وبخاصة في ظل النظام الجديد الذي تم بموجبه تقسيم الموسم الجامعي إلى دورتين (خريفية وربيعية) تتخللهما عطلة بينية. وهو ما أغرق الجامعة في زحمة من الامتحانات الإشهادية (دورتان عاديتان وأخريان استدراكيتان)، مع ما يستتبع ذلك من إشراطات لوجستيكية ومادية، ومجهودات إضافية تكبح الطواقم التعليمية والإدارية وتمنعها من تطوير أدائها المهني والبحثي. - الإصرار على اعتماد هندسة بيداغوجية كلاسيكية تضع الجدران بين الكليات والمعاهد، وبين الشعب والمسالك المختلفة أيضا. - التردد في مساءلة مخرجات الكليات ذات الاستقطاب المفتوح، وعدم استدعاء الحاجيات التنموية المحلية الحقيقية أثناء صياغة طلبات اعتماد الوحدات التكوينية المختلفة. - اعتماد ازدواجية عبثية على مستوى لغة التدريس، وإخضاع هذا الموضوع للتجاذبات الإيديولوجية عوض اللجوء إلى قياس الجدوى باستحضار كافة المتغيرات والمؤثرات الاقتصادية والهوياتية. - انغلاق الجامعة على نفسها وعدم انفتاحها على الفعاليات المؤسسية المختلفة، وهو ما يظهر من خلال ندرة طلبات تقديم خدمات بحثية للقطاعات الحية والمنتجة، وكذا من خلال تقليص هامش الحريات الأكاديمية. - هزالة الميزانية المخصصة للبحث العلمي، وعدم تحفيز المؤسسات الجامعية على البحث عن الممكنات الاقتصادية والتمويلية الموازية (غير الحكومية). هذا وتنضاف إلى هذه الأسباب أيضا جملة اختلالات أخرى ذات ارتباط بموضوع المدخلات الجامعية، وهذه مرتبطة كما هو معلوم بواقع التعليم المدرسي، الذي يعرف بدوره مشاكل كبرى لا يستشرف العارفون حلولا لها على المدى المنظور. اختلالات في التدبير السياسي لقطاع التعليم العالي. لن نثير هنا موضوع الاختلالات من زاوية العودة إلى جذورها التاريخية، ولا من زاوية مسببات فشل الإصلاحات التي تم اعتمادها منذ تأسيس الجامعة المغربية إلى اليوم. ولكن سنثير ملابسات التدبير السياسي لقطاع التعليم العالي من زاوية ما يرصده الناظر إلى واقع الجامعة المغربية خلال العقدين الأخيرين. إن الأسئلة الذي ظلت غائبة ومغيبة طيلة هذه المدة هي: أي جامعة نريد؟ وما هو سبيل بلوغها؟ وما الذي ينبغي مباشرته اليوم من الإجراءات كي نختصر الطريق إلى هذه الغايات ؟ وهذه أسئلة لم يبادر أي من الفاعلين السياسيين والمُؤسَّسِيين إلى طرحها أو حتى الاقتراب من شُرُكها الكثيفة، فبالأحرى الإجابة عنها ولو على سبيل التخمين والاستبصار. بل إن مجافاة هذه الأسئلة أصابت الباحثين الأكاديميين أيضا، إذ يندر أن تجد من الباحثين (أفرادا ومؤسسات) من يولي إشكالية تأهيل الجامعة المغربية عناية أو أولوية، والغالب في تقديرنا أن السبب في جوهره وجه من أوجه الاختلال موضوع الحديث، ونعني هنا غياب التواصل والحوار بين الهيئات الأكاديمية ونظيرتها السياسية. وهو ما يتضح من خلال استقالة المثقف الأكاديمي وعزوفه عن الفعل السياسي (مشاركةً وعرضا ومعارضة)، لا سيما وأن مسؤولية تضييق الهوة بين الدرس السوسيولوجي والبيداغوجي من جهة وبين التنظير السياسي من جهة ثانية، هي مسؤولية المثقف المسكون بانشغالات مجتمعه. أما أسباب سكوت الفاعل المؤسسي عن طرح هذا السؤال ذي البعد الغائي الاستراتيجي فيعود إلى جملة أسباب، منها شيوع ثقافة التدبير الآني والمرحلي لدى الهيئات التدبيرية الجامعية المغربية، واضطرارها إلى توجيه جُهدها كاملا صوب حل المشكلات وتصريف الأزمات المزمنة التي تتخبط فيها المؤسسة، عوض التفكير في مخططات استشرافية بعيدة المدى تتأسس على قاعدة التشخيص الدقيق لمكامن الخلل. ذلك أن المسؤول الجامعي (بيداغوجيا كان أم إداريا) يجد نفسه واقعا في ظل مشكلات لا حصر لها تفرض عليه التصرف الآني وإيجاد الحلول التي لا تقبل التأجيل (ضعف المدخلات، مقاطعة الامتحانات، إشكالية التمثيلية النقابية، مساطر المنح والإيواء الجامعي، ضغط الامتحانات...). ولذلك يندر أن تجد من بين المسؤولين الجامعيين من يستطيع مقاومة إكراهات التدبير اليومي واللحظي، ويبادر إلى تنزيل أحد مشاريع التأهيل كما صاغها أو تصورها قبل تقلده منصب المسؤولية. من أسباب انصراف الفاعل السياسي أيضا عن الخوض في هذا السؤال ميله إلى الاشتغال الاختزالي على قضايا المجتمع المختلفة، ونظرته القطاعية الضيقة. ذلك أن التمثل المغربي للفعل السياسي تمثل انتخابي محض لا يرى في السياسة غير استحقاقات وأصوات ومصالح ظرفية. لذلك لا تجد من الهيئات السياسية المغربية غير قلة من الأحزاب التي تراهن على التعليم وتعتبره الحصان الأول الذي ينبغي الرهان عليه لتجاوز الوضع التنموي الراهن. بل إن هذه الهيئات المستثناة، حتى وهي تفعل، فهي لا تقدم تصورا سياسيا ذا محتوى إجرائي يجعل مشروعها القطاعي الخاص بالتعليم العالي واقعا في قلب مشروع مجتمعي واضح المرتكزات منسجم الأهداف. وللتوضيح أكثر نقول إن الوثائق الحزبية والأوراق السياسية التي تناقَشُ في خضم المؤتمرات والاجتماعات الحزبية لا تنطلق في مجملها من نظرة شمولية إلى أعطاب المنظومة التعليمية، بل تكتفي، في الغالب، باستحضار الاختلالات القطاعية على نحو تبسيطي محكوم بالرغبة في تحقيق نتائج سريعة. وهو ما يحول دون طرح الأسئلة أعلاه طرحا علميا وسياسيا دقيقا. إن جزءا كبيرا من مشكلة الجامعة المغربية يحتاج إلى إجابة سياسية واضحة وجريئة. ذلك أن لهذه المشكلة جذورا وامتدادات، يأتي بعضها من الأسرة والمحيط والثقافة، ويأتي بعضها الآخر من اختلالات مؤسسات وقطاعات ذات صلة (التعليم المدرسي، التشغيل، الصناعة، الفلاحة، التجارة والخدمات، السياحة...). وحل هذه الاختلالات لن يأتي بعلاجات قطاعية يحكمها اللون الحزبي وإكراه مدة التوزير، بل يحتاج إلى روية سياسية وتصور استراتيجي وتشبع بروح المسؤولية. المشكلة أعقد مما تحاول أن تظهره مشاريع الإصلاح القطاعية التي يتم تنزيلها على نحو دوري، وعلاجها لن يتأتى بما يتم اقتراحه من مداخل منهاجية وإصلاحات بيداغوجية فقط (على أهميتها وضرورتها)، لأن للمشكلة تجليات تدبيرية ذات امتدادات سياسية كما أسلفنا الذكر. هي أزمة كبرى ترخي بظلالها على المؤسسة الجامعية، تصبح معها المؤسسة الجامعية عاكسة للعطب السياسي في شموليته، منفعلة ومتأثرة به. لماذا يستمر السكوت عن هذه الاختلالات كلها، ومن المستفيد من إبقاء الوضع على هذا النحو؟ سؤال قد يكون الجواب عنها موضوع خلاف، وقد يؤدي الخوض فيه إلى سجالات وخصومات إضافية. لكن المؤكد أن الجميع متفق أن الخاسر الأكبر هو الجامعة العمومية، وأن المتربص والمستفيد من الوضع هو القطاع الخاص، الذي يمني النفس بزيادة انحدار العرض الجامعي، كي يكشر عن أنيابه ويشرع في عرض بضاعته التكوينية وفق شروط السوق ومنطق الربح. خريف قاتم، إذا، ينتظر الجامعة المغربية، ومصير مجهول ينتظر أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة في مستقبل السنوات. هذا ما يزكيه الواقع الملموس، وما تكرسه هيئات التقييم والافتحاص والتتبع، وما يريده الصامتون عن اختلالات الجامعة العمومية.