تعيش الجامعة المغربية وضعا استثنائيا مربكا على كافة المستويات، أفرغ مؤسساتها من محتواها التدبيري الإبداعي، وحصرها في نطاق "تصريف الأعمال"؛ بحيث لم يكن متاحا لبعض المؤسسات إلا القيام بالتدبير الإداري (بحصر المعنى)، وبحْث المخارج التقنية والتشريعية للوضعيات والمشاكل التي تعترض المؤسسات الجامعية، وبخاصة ما يتعلق منها بالجانبين التقني والبيداغوجي، وما دار في فلكهما من مشاكل تدبير الموارد البشرية. بداية، لا بد من القول إن مشكلة الجامعة المغربية، في صلبها، تتجلى في تراكم إخفاقات واختلالات وسوء تدبير، استمر مع مسيرة اشتغالها ومأسستها أفقيا وعموديا، واشتدت مع إخفاق الإصلاحات التي باشرتها الوزارة الوصية؛ بسبب سوء التشخيص، والتسرع في اتخاذ بعض القرارات، واستحضار التجاذبات الحزبية والسياسية المختلفة... إن تصورنا لعملية الإصلاح يقضي، أساسا، تجاوز الخلفية السياسية التي توجّه القطاع، ونعني النظر إليه باعتباره مؤسسة شبه-تقليدية، سماتُها الركود، وافتقاد الفاعلية، وإنتاج طبقة اجتماعية من المتعلمين يطغى عليهم التكوين النظري على حساب ما تحتاجه السوق من يد عاملة تتميز بالفاعلية والخبرة. وهذا القول يعني ضرورة استشعار حساسية القطاع، وضرورة تمتين أواصر العلاقة بينه وبين غيره من القطاعات الأخرى، بصرف النظر عن الحسابات الاقتصادية الضيّقة لمدى إنتاجيتها في هذه المرحلة؛ لأن قصور الإنتاجية راجع إلى واقعٍ يتجاوز إمكاناتها، وهو الواقع الذي نرى إمكانية تجاوزه من خلال إدراج مشاكلها، ومعوّقات تطويرها ضمن اهتمامات المؤسسة الجامعية. ويقضي تحديث قطاع التعليم العالي، أيضا، ضرورة خلق فضاء أكثر جاذبية للأفراد طالبي المعرفة، وللمؤسسات الإدارية والسياسية والثقافية، التي تقتات على المُنتَج المعرفي والأكاديمي وتستثمره، وللشركاء الاقتصاديين؛ مثل الشركات والمصانع والمختبرات العلمية والتقنية، التي لا يمكن فصل دورة إنتاجها عن الجامعة، بوصفها فضاءً خاصا بالتكوين النظري والتطبيقي. وسعيا إلى لعب الدور المَنوط بالجامعة وَفق التصور الحداثي- التحديثي، نقترح، كفاعلين من داخل الجامعة، مجموعة من النقط التي نعتقد بأهميتها الشديدة؛ لتحديث آليات اشتغال الجامعة، وجعْلها فضاءً للإشعاع العلمي والثقافي الفاعل والفعال: 1- ضرورة إعادة النظر في هيكلة المؤسسات الجامعية وأدوارها: بتأمل المقتضيات التشريعية والتنظيمية، ومن خلال النظر في التركيبة الإدارية، على المستوى السطحي، تبدو وكأنها منسجمة مع مقتضيات القانون المؤسّس، والواقع اليومي، بل يمكن الحكم عليها، في إطار نظري محْض، على أنها صيغة عملية، بمقدورها أن تُسْهم، بشكل فعال، في تسيير شؤون أي مؤسسة جامعية بشكل واضح، ودون أي تعثرات في المسار. لكن، إذا ما عدنا إلى واقعنا، الذي تتحكم فيه متغيرات كثيرة لا علاقة للقانون وأنظمة التسيير بها، سنجد أن العقليات والطباع، في ظل غياب هياكل مراقبة وتنسيق، تؤدي بهذه القوانين والإجراءات إلى عدم تحقيق المردودية المرجوة، والنتائج المبتغاة؛ حيث إنها تعرقل العديد من المشاريع، وتسهم في نشر جوٍّ من الركود العام. وهنا، نرى أنه يجب طرح التساؤل الآتي: إذا كانت الجامعة تنبني على إطار تنظيمي-قانوني واضح، لكنها تعاني من مشاكل، ومردوديتها تبقى ضعيفة إزاء التحديات التي تم رفعها، فأين يكمن الخلل؟! الجواب عن هذا السؤال، من منظورنا الخاص، وتجربتنا المتواضعة، لا يكمن في التشريعات والأنظمة المهيْكِلة للمؤسسة الجامعية، وإنما هو مشكل ناتج عن كون بعض العقليات، التي تُمنح سلطة تسيير المؤسسات الجامعية، لا تفهم معنى التسيير إلا من خلال عقلية كلاسيكية لم تستطع، إلى حد الآن، رغم التجربة والممارسة، أن تستوعب المقاربة الحداثية للتسيير المالي والإداري، التي ما فتئت الكثير من التشريعات الوزارية (قوانين، قرارات، مذكرات...) تَحُثّ عليها، بشكل متواصل، دون أن تجد آذانا صاغية لمراسلاتها التي تنتهي، غالبا، داخل الرفوف؛ بذريعة عدم ملاءمتها للوضع/ الواقع. من هنا، يغدو واجباً اعتمادُ مقاربة متقدمة في تسمية المرشحين لمناصب المسؤولية، وذاك بغية حثهم على الالتزام بدفاتر تحملات واضحة تخصّ الجوانب الإدارية والمالية والبيداغوجية، وعلى تطبيق مضامين مشاريع العمل، وغرْسها ضمن مجال سلطتهم؛ وذلك من أجل تفعيل مفاهيمَ مِن قبيل: الجودة، والحكامة، وحسن التدبير، والانفتاح على المحيط. وتفصيلا للموضوع من جانب أدقّ، نقترح موضوع توزيع المناصب العليا، بوصفها مدخلا إلى إيجاد حل، في النقطة الموالية: 2- إعادة النظر في مسألة توزيع المناصب العليا: يعدّ موضوع إيلاء مناصب المسؤولية ضمن فضاء الجامعة أحد أكثر المواضيع حساسية؛ فإسنادُ المناصبِ العليا (رؤساء الجامعة، العمداء، نواب العمداء، مديرو المدارس العليا، نواب المديرين)؛ كما يعلم الجميع، وكما يتّضح واقعيا، وليس على مستوى التشريعات والقوانين فقط، غالبا ما تتم خندقته ضمن إطار المصلحة الحزبية والعشائرية والعائلية، بدل ابتغاء تحقيق المصلحة العامة. وهذا إشكال متجذر في هرم السلطة الجامعية، لا يمكن حله إلا باللجوء إلى إجراءات ومعايير كفيلة بأن تحدّ من هدر الزمن، والموارد الخاصة بالمؤسسات الجامعية. فالجامعة، ومؤسسات تكوين الأطر والبحث العلمي الموازية، لابد لها من أنْ تنأى عن البعد الإيديولوجي في إطار تعيين أيّ فرد في منصب مسؤولية ما، وأن يتم استحضار البعد الأكاديمي بالدرجة الأولى. وبهذا المعنى، فإن التنصيب/ التعيين، الذي يتم حاليا، في الكثير من الأحايين، خارج إطار الكفاءة العلمية، والقدرة على الإبداع الخلاّق في مجال التخصص، هو الذي قاد المؤسسة الجامعية إلى عتبات أبواب الأحزاب السياسية، التي تعطي الأولوية للمصلحة الآنية الظرفية على حساب المصلحتين: العلمية الأكاديمية والاستراتيجية، وستبقى المؤسسات الجامعية، والحال هذه، عبارة عن ملحقات حزبية، تتحكم فيها الألوان السياسية والأهواء من داخل مكاتب الحزب؛ حيث يحضر البعد الإيديولوجي، والمصلحة الخاصة قبل أيّ شيء! 3- مساءلة العرض الجامعي في المجالين البيداغوجي والبحثي: يقتضي تقييم الأداء الجامعي المغربي عقد مقارنات مع جامعات عربية إسلامية وعالمي. ولذلك، تجب الإشارة إلى أن أول جامعة مغربية، برسم سنة 2014 (بحسب الترتيب الدوري الذي تُجْريه مؤسسات متخصصة)، هي جامعة محمد الخامس بالرباط (ترتيبها العالمي هو: 3281)، وإلى أن سبع جامعات مغربية فقط هي التي ضمنت حضورها ضمن قائمة 100 أفضل جامعة بإفريقيا (سنة 2015). وهذا مؤشر، من ضمن مؤشرات كثيرة، تزكّي ما طرحناه آنفا، وهو ما نرده إلى جملة اختلالات نُوجزها في ما يأتي: - غياب التخطيط الاستراتيجي، وانعدام الجرأة فيما يتعلق بالعرض التعليمي المدرسي والجامعي في شموليته؛ إذ ما يزال التصور العام لمُخْرَجات الجامعية المغربية كلاسيكيا، لا يستجيب لمستجدات المحيط السوسيومِهْني. - اختلال العلاقة بين مكوِّنات الحقل الجامعي، وغياب العقد البيداغوجي الكفيل بتوضيح الحقوق والواجبات، وبوضع المؤشرات الإجرائية لتقييم النتائج التي تحققها وحدات البحث العلمي، وهيئات التدبير الإداري والتقني. - استفحال الهدر الجامعي، وسوء تدبير أزمنة التكوينات، وبخاصة في ظل النظام الجديد، الذي تم بموجبه تقسيم الموسم الجامعي إلى أُسْدُوسين (خريفي وربيعي) تتخللهما عطلة بينية، وهو ما أغرق الجامعة في زحمة من الامتحانات الإشهادية (دورتان عاديتان، وأخريان استدراكيتان)، مع ما يستتبع ذلك من إشراطات لوجستيكية ومادية، ومجهودات إضافية تكْبح الطواقم التعليمية والإدارية، وتمنعها من تطوير أدائها المهني والبحثي. - الإصرار على اعتماد هندسة بيداغوجية كلاسيكية تضع الجدران بين الكليات والمعاهد، وبين الشعب والمسالك المختلفة أيضا. - التردد في مساءلة مخرجات الكليات ذات الاستقطاب المفتوح، وعدم استحضار الحاجيات التنموية المحلية الحقيقية لدى اقتراح طلبات اعتماد الوحدات التكوينية المختلفة. - اعتماد ازدواجية عبثية على مستوى لغة التدريس، وإخضاع هذا الموضوع لتجاذبات إيديولوجية عوضَ اللجوء إلى قياس الجدوى باستحضار كافة المتغيرات والمؤثرات الاقتصادية والهُوياتية. - انغلاق الجامعة على نفسها، وعدم انفتاحها على الفعّاليات المؤسسية المختلفة، وهو ما يظهر من خلال نَدرة طلبات تقديم خدمات بحثية للقطاعات الحية والمنتِجة، وكذا من خلال تقليص هامش الحريات الأكاديمية. هذا، وتنضاف إلى هذه الأسباب جملة اختلالات أخرى، ذات ارتباط بموضوع المُدْخَلات الجامعية، وهذه مرتبطة - كما هو معلوم - بواقع التعليم المدرسي، الذي يعرف، بدوره، مشاكل كبرى لا يستشرف العارفون حلولا نهائية لها على المدى المنظور.