في الحقيقة لم أتردد كثيرا في الكتابة عن موسم "فقراء إداولتيت" لهذه السنة، الذي اكتسى حلة بهية وطعما خاصا ومميزا، ليس ردا على بعض الترهات والأقاويل "المشروخة" (إن صح التعبير)، ولكن بالنظر إلى الفخر والاعتزاز الذي أحسسنا به جميعا – كساكنة محلية، وكمدبرين وفاعلين ترابيين ومؤسساتيين من مختلف المستويات- ونحن نستقبل رواد ومنتسبي هذه الطائفة العريقة، التي عايشناها أبا عن جد، وألفناها منذ نعومة أظافرنا، إلى أن أصبحت جزءا من ذاكرتنا وهويتنا. "إداولتيت"، فكرة ضاربة في أعماق التاريخ، تستحق – وبآلاف علامات الاستحقاق- كل هذا التقدير وهذا الاحتفاء، فتاريخها وامتدادها القبلي يضم كلا من قبائل "إداوسملال" و"إداوباعقيل"، و"إداكورسموكت"، فيما تصل جغرافيتها السهل بالجبل، ويمتد حيزها المكاني من "أدرار" إلى "أزغار"، وهو ما يعبر – وبشكل عفوي- عن تلاقي إرادات القبائل المختلفة، والمداشر والقرى المبثوثة بالمسار الذي يسلكه "فقراء إداولتيت" بإقليم تيزنيت. "إداولتيت"، فكرة تستحضر وبشكل عميق وسامي، جملة من التعاليم السمحة، التي تجمع أكثر مما تفرق، وتبني جسورا متينة من الود والإخاء، أمام تناقضات المجال، وتقاطعات مناطق التماس، وتباينات المواقف المرتبطة بحسابات لحظية، لا تأبه بها المدينة والإقليم. "إداولتيت"، فكرة تستحق الانتباه إليها ودراستها من جميع الزوايا والأبعاد، فهي ممارسة تليدة، وطقس عريق، يحتاج إلى الكثير من البحث العلمي والإثنولوجي، وإلى الكثير من التنقيب الإثنوغرافي والتاريخي، فالمجال خصب للباحثين والدارسين، الذين سيجدون – ولا شك- ضالتهم في سبر أغوار وتاريخ "فقراء إداولتيت"، على اعتبار أن أبعاد وتجليات الطائفة ترقى بها إلى مصاف التعبيرات الصوفية المتجذرة، التي استطاعت المزج بين العفوية والتنظيم، والالتقائية والتلقائية، كما رسمت لنفسها مسارات مضبوطة في الزمان والمكان، بل واستطاعت تحقيق التعايش بين الطرق الصوفية المختلفة، والتركيز على المجال، وعلى التفاعل الإيجابي والتعاون الذي لا يلغي التمايزات البينية، بل يراعي خصوصيات المحيط، ويتجاوز في الآن نفسه عددا من التأثيرات الجانبية للإثنيات والثقافات المختلفة. "إداولتيت"، تتجلى خباياها وخفاياها في الأعراف المتوارثة، وتظهر في مئات الأشعار والأذكار، والأمداح الأمازيغية التي يحرص روادها على ترديدها الجماعي، بجميع الأماكن وعلى مدار الساعة، وهي لحظات صوفية جلية، تمزج درجات التصوف المختلفة، وتحرص على ضبط إيقاعاتها المتناغمة، بدءا بالتخلية (تطهير النفس)، ومرورا بالتحلية (العمل بالطاعات والفضائل)، ووصولا إلى التجلية (السمو بالروح والنفس والعقل)، وهي أرقى درجات تزكية النفس وتطهيرها بالطاعات والعبادات والقربات. ولذلك ليس غريبا، أن تجد هذه الطائفة كل هذا الاحتضان الشعبي والمؤسساتي، وبتعبير الصوفية نقول "لو كنا نملك أكثر من ذلك لفعلنا، ولسعينا على الوجه، ومشينا حبوا، وعلى الرأس"، فمع الطائفة وغيرها من الطرق الصوفية المتجذرة بالمدينة والغقليم، نعيش لحظات من الصفاء، والأنس الروحي بالجوار الرباني، وليس غريبا أن تجد الجمعيات والهيئات والجماعات الترابية في الصفوف الأمامية بعدتها وعتادها ورأسمالها الرمزي، فتثمين الموروث بكل تمظهراته، جزء من قناعاتنا وبرنامج عملنا. ولكن الغريب، أن تجد من يرغب في مصادرة حق المدينة والإقليم في الفرح، وحق الساكنة في الاحتفاء، وفي الانغماس في سبوحات الأسرار والحكمة والملكوت، والغريب أن تجد أصواتا تخشى من رهان التثمين الذي رفعته المدينة والإقليم، على اعتبار أنه رهان موضوعي ينتصر لتيزنيت وباديتها، أكثر من انتصاره للأشخاص أو للهيئات والأحزاب والمؤسسات، كما يتجاوز بكثير زمن الانتدابات، ويعيد أمور الثقافة والتراث إلى نصابها، بل يضعها على السكة وفي المسار الصحيح. ولكن الغريب، أن تجد بعض الأصوات التي أدمنت التجريح في كل شي – مع حفظ حقها في التعبير والكلام طبعا- تستنكر الاحتفاء بموروث تبناه الآباء والأجداد، في الوقت الذي كانوا فيه نطفا أو أطفالا في حجور المرضعات، ولا غرابة أن لا يعجبهم العجب، ولا الصوم في رجب، ولا استقبال الفقراء في شعبان، ولا استشراف رمضان، (ما شكاو عيلنا هادو، ما عجبهوم والو..)، فهم الذين ألفوا التنطع والتفيقه والحديث بالتفاهة أمام العامة، كما ألفوا ازدراء كل شي، كأن تيزنيت لا وجود فيها لأي شيء جميل. وفي رصد سريع لردود الفعل لدى جبهة "مالك مزغب" التي احترفت السواد خلال الشهرين الأخيرين (شهرين فقط..)، نرصد بعضا من تلك الردود والتفاعلات: * الجماعة تنظم منتدى الجمعيات: احتواء هاداك، ركوب على ، غموض هنا، بزّاف على ..! * الجماعة تصادق و تتبنى هوية بصرية جديدة: بلاّتي بعدا ! ، علاش هذا ؟ كُون غير ؟ ..! * الجماعة تحيي رأس السنة الأمازيغية / تيفلوين: إقصاء، مبالغة ، أين ؟، كيف ؟ ، لماذا ؟ ..! * الجماعة تساهم إلى جانب شركائها في استقبال طائفة إداوليت: عنداك ..!علاش؟ كيفاش؟ واكواك؟ واه، منذ متى ؟ ..! هذا ديدنهم تجاه كل المبادرات النبيلة بالمدينة والإقليم، وهكذا يتشحون بالسواد كلما ظهر بصيص أمل، وهكذا يترحون ويحزنون عندما تفرح تيزنيت، وعند تلخيص المشهد، سترون ديناميات هنا، وهوسا هناك، كما سترون عملا هنا، وردود فعل هناك، وفرحا هنا، ومأتما وعويلا هناك.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. وقد صدق الشاعر، حين قال: إن الأمور لها رب يدبرها / وكل شيء بأمر الله مؤتمر فَلَنْ يُفِيدَكَ أنْ تَحتَاطَ مِنْ قَدرٍ / وَلَنْ يَرُدَّ القَضَا حِرصٌ وَلَا حَذَرُ ولن يضرك كيد الناس ما اجتمعوا / إلا بشيء بغير الكيد مقتدر والجَأ لِرَبِّكَ فِي الضَّرَّاءِ مُعتَصِمًا / مَا رَدَّ رَبُّكَ مَن لِلعَونِ يَفتَقِرُ وقبل الختم، أقول لهؤلاء، ولكل الذين فاتهم الركب، بأننا لا نريد في تفاعلنا هذا، أن يصبح الصخر مثقالا بدينار، لكن، ورغم كل ذلك، فلن تجدوا فينا إلا المعاملة بالأصل وليس بالمثل، لأننا مدركون تمام الإدراك بأن الذي يناهض مشروع المدينة، وينفث السوء ويرمي السم في الكلام، من الطبيعي أن لا يرى ما يراه الناظرون المتفحصون، ومن الطبيعي أن يعميهم الحقد والبغض عن رؤية المنجز في السر والعلن، ومن الطبيعي أن يفضح القلم والقول دواخلهم ومكنون قلوبهم. ورغم كل ذلك، اسمحوا لي أن أتقاسم مع هؤلاء بعض عوالم اليأس، وأدخل للحظات إلى عالمهم البئيس، علني أرجع القهقرى، وأجد شيئا جديدا وممتعا بعالمهم الأفلاطوني كما رسموه ..! وفي انتظار سبر هذه الأغوار المظلمة، وصفاء القلوب، ونقاءها بعد خلوها من الحقد والبغض والرياء، أرجو من هؤلاء أن يرشدونا إلى القطار الذاهب إلى مدينتهم الفاضلة، وأن يختاروا نوع الحبر الذي به يخطون ويخططون، فقد تعددت الأقلام والحبر واحد، ومهما دبجوا ولونوا وتلونوا فالحقيقة تعلى ولا يعلى عليها. أما عن "فقراء إداولتيت" وغيرهم من أصفياء القلوب، فسنظل نستقبلهم ونفرح بهم، ونفرح لفرحهم، ونسعد بقدومهم، لأننا منهم وإليهم، كما ستظل بيوتنا وبيوت أهل تيزنيت وشرفاءها ومساجدها ومآذنها وزواياها وكل الفضاءات الجميلة والأخاذة، مفتوحة في وجوههم، تحضنهم وتقبل رأسهم وتتزين لهم، بل تقف منتصبة شامخة لهم، ترفع القبعات وعقيرات الرجال والنساء فرحا بقدومهم وترحيبا بهم. وكما قال رئيسنا الحاج عبد الله الغازي "أيبلغ ربي المقصود".. بقلم: محمد الشيخ بلا – تيزنيت في : 3 فبراير 2025