لن أغوص كثيرا من خلال هذا المقال إلى عمق بنيات العطب الجامعي، ولن أقارب قضايا المفاهيم والمصطلحات وما دار في فلكهما من مشكلات التأصيل والرصد النظريين. لقد أعددت عُدَّتي لتبيين واقع الاختلال، وتوخيت الإشارةَ إلى ما يمكن مباشرته من التدابير لتجاوز حالة الاحتقان التي يعرفها ميدان التشغيل، في علاقته بما تقدمه المؤسسات الجامعية من عروض بحثية. وأنا مدرك تمام الإدراك أن تطوير الهندسة التدبيرية وتجديد بنيات التسيير الإداري للقطاع البحثي، وبخاصة مدارس الدكتوراه، أولويةُ ينبغي الانكباب عليها منذ اليوم، بصرف النظر عما تحمله هذه الورقة من مقترحات فرعية مختلفة. نسعى، إذا، من خلال هذا المقال إلى وضع الأصبع على بنيات البحث العلمي الجامعي، من خلال توصيف واقع البحث، وإبراز المسببات والامتدادات، ثم اقتراح بعض الحلول الكفيلة بتحسين مردودية هذا القطاع الحيوي، وذلك من منطلق المشيرات والغايات التي تؤطرها المؤسسات الراعية للبحث العلمي وطنيا وعالميا. ولهذه الغاية سنقسم هذه الورقة إلى ثلاثة محاور: أحدهما قاعدي تشخيصي ننطلق فيه من المعطيات الواردة في تقرير اليونيسكو للعلوم، ونتناول في المحور الثاني أهم المعوقات التي تحول دون تطوير البحث العلمي بالبلد، على أن نقترح بعدئذ بعض المخارج الكفيلة بالرفع من المؤشرات الخاصة بهذا الحقل الأساسي في مسلسل التنمية المنشودة. قراءة في مؤشرات البحث العلمي بالمغرب: يعرف البحث العلمي على أنه مجموعة من النشاطات والتقنيات والأدوات التي تبحث في الظواهر المحيطة، والتي تهدف إلى زيادة المعرفة وتسخيرها في عمليات التنمية لمختلف جوانب الحياة. وبهذا المعنى يمكن القول أن البحث العلمي بشقيه: النظري والتطبيقي عنصر لازم لتطوير الإنتاج (المادي والرمزي)، ومحور لا مندوحة عنه لخلق التنمية الشاملة، ذلك أن مخرجاته لا تقتصر على تطوير تقنيات جديدة ومنتجات أفضل، بل تتجاوز ذلك إلى تطوير أشكال التكيف مع الفضاء الايكولوجي، وتدبير الممتلكات الرمزية تدبيرا متوازنا يضمن التمثيلية العادلة لمختلف التجليات الفنية والسوسيوثقافية. مثلما تسعى أيضا إلى ضمان كرامة الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية، وكذا ضمان ديمومة التنوع البيئي. وبالنظر مثلا إلى تقرير اليونيسكو للعلوم الصادر سنة 2016 نجد عددا من المعطيات المهمة والدالة في هذا الباب، فالمغرب يحتل وفق معطيات هذا التقرير المرتبة الثانية من بين دول الفضاء المغاربي والعربي من حيث حجم الإنفاق على التعليم (النسبة المئوية من الناتج الداخلي الخام)، والمرتبة الخامسة بالنسبة لمؤشر الإنتاج العلمي (حجم المنشورات العلمية)، ونفس المرتبة في إنتاج المقالات العلمية، لكنه يحتل الرتبة 12 حسب مؤشر المنشورات العلمية لكل مليون نسمة ب 36.9 منشور علمي لكل مليون نسمة. وهو ما يعتبر مؤشرا مقلقا يظهر وجود اختلال قوي بهذا الخصوص، إذ المفروض أن يحقق المغرب الرتبة نفسها في مختلف المؤشرات المرتبطة بموضوع البحث العلمي، أو رتبا متقاربة. أما أن يتراوح الفرق بين المؤشرات نقاطا عديدة فهذا دليل على وجود اختلال تدبيري في إحدى حلقات البنية البحثية، والراجح أن هذا الاختلال مرتبط بإشكالية توزيع الوعاء المالي على مختلف الهياكل والفاعلين الجامعيين والبنيات التدبيرية، وهو ما يؤكده استحواذ التسيير على أكبر قدر من هذه الميزانية. من واجبنا اليوم أن نسائل ذواتنا، في سياق تقييم المنجزات، عن حصيلة الإصلاحات، وأن نسلط الضوء عما ينبغي فعله لاستدراك الهفوات وتحسين الأداء وتجويد أشكال التدخل السوسيومهني، وذلك في أفق اقتراح مشروع وطني يهم بنيات البحث العلمي الجامعي ، يجيب عن انتظارات المغاربة؛ أفرادا ومؤسسات، ويستجيب لاحتياجات البلد الاجتماعية والاقتصادية والروحية والثقافية. إن وضعنا التنموي لا يسير بالسرعة المطلوبة، والمؤشرات التي تدل على ذلك كثيرة، نورد من بينها بطء معدلات النمو السنوية، واستقرار نسب البطالة في معدلات مرتفعة، وعدم امتلاك المقاولة المغربية للتنافسية المطلوبة، وغيرها من المؤشرات. حديثنا عن هذه المؤشرات يدفعنا إلى مساءلة أدوار الجامعة المغربية ومدارسة مسؤولياتها، في تدبير الاحتياجات السوسيواقتصادية لجهات الوطن وأقاليمه. فهل تساهم الجامعة في هذا الباب؟ وما هو مقدار مساهمتها بالنظر إلى ما يتوفر لها من بنيات وعتاد وميزانيات وطواقم؟ ليس مُتَيَسّرا تقديم الجواب الدقيق عن هذا السؤال؛ ولكن المُتَيَسّرَ أن نقول إن التجارب الإنسانية قد علمتنا ألا نهضة ولا تنمية بغير جامعة قوية مبادرة وذات جاذبية. ولهذا السبب لا نرى من فائدة في مناقشة سؤال الحاجة، وعِوَضا عنه مناقشة سؤال السبل والطرائق، وتركيز الجهد على صياغة سياسات بحثية وجامعية ذات نَفَسٍ تنموي ومحتوى استشرافي يضعان المشاريع الجامعية في قلب انشغالات المواطنين وهمومهم، ويقدمان الحلول العملية الناجعة لمشاكل التشغيل والأمن المادي والروحي والتعليم والصحة وغيرها. الشروط الموضوعية متوفرة بإجماع الفاعلين والمنشغلين بإشكاليات تطوير أداء البحث العلمي الجامعي، لذا نعتقد أن الأوان قد حان لكي تضع الجامعة المغربية، خارطة طريق طموحة، وصياغة خطة عمل واقعية تضع نصب عينها ملاءمة مخرجاتها مع احتياجات المحيط السوسيومهني، ووضعها رهن إشارة المؤسسات الراغبة في تحريك عجلة الاستثمار والاقتصاد الجهوي والوطني، وتعزيز خيار المهننة، ذات الصلة بمختلف أنواع الثروات والمؤهلات التي تزخر بها الجهات المغربية، وتجعل من مختبراتها العلمية، وبنياتها البحثية محاضن لبلورة المشاريع التنموية المدرة للدخل، والصديقة للبيئة. إن الغاية من هذه الورقة هي الدعوة إلى التفكير في السبيل الأنجع لجعل بنيات البحث العلمي الجامعي مؤسسة رائدة في إشاعة قيم الإبداعية، وبيان "الممكن التنموي" الذي يمكن أن تساهم الجامعة في تحقيقه بعيدا عن دائرة الاستثمار الدولتي الإرادوي الذي أظهر قصوره وفشله في إحداث التنمية المستدامة. وهذه الغاية من الممكن بلوغها بتوفر إرادة سياسية قطاعية في مرحلة أولى، من خلال رفع تحدي الإسهام الريادي لقطاع التعليم العالي في جر القطاعات الأخرى وتوجيهها صوب استراتيجيات قطاعية متكاملة. معوقات ومشكلات بنيات البحث العلمي بالجامعة المغربية: إن المفروض في عمل تشخيصي رصين أن يلتفت إلى كافة مراحل البحث العلمي الجامعي، بدءا من إشكاليات التوجيه ذي الصلة بالتعليم الثانوي، وامتداداته إلى السلكين: الابتدائي والإعدادي، مرورا بمختلف وحدات الدراسة بسلك الإجازة، ثم انتقالا إلى الماستر والدكتوراه. بيد أننا سنكتفي، اعتبارا للطابع الاختزالي والتركيبي لهذه الورقة، بمحاولة تشخيص مشاكل البحث العلمي الجامعي ومعوقاته على مستوى الدراسات العليا فقط (ماستر، دكتوراه)، وذلك في سياق سعينا إلى تقييم نتائج الإصلاح الجامعي الذي انخرط فيه المغرب (المنظم بموجب القانون 01:00 الذي صدر سنة 2000)، والذي كان شعاره تجويد العرض التكويني بشكل عام، فضلا عن تحسين جودة بحوث الدكتوراه ووضوح الرؤية العلمية للجامعات، واحترام الآجال القانونية من قبل الباحثين، وكذلك تعزيز سياسة التعاقد بين الجامعات والدولة والشركاء الاجتماعيين. فهل تحققت الغايات التي حددها الإصلاح؟ من الواضح أن كثيرا من الصعاب لا تزال محدقة بوحدات البحث العلمي وبنياته وموارده المالية والبشرية، وكذا استمرار كثير من ملامح التعثر والارتباك في تنزيل بنود القانون المنظم لبنيات البحث العلمي الجامعي، واستمرار معدلات الهدر الجامعي بسلك الدكتوراه. أما أسباب هذه الأزمة فتتجاوز الخلفيات الاستراتيجية التي تؤطر القانون المذكور، إلى عمق السياسات التعليمية والتكوينية التي تعتمد بالبلد، سواء باعتبارها توجهات حكومية يقودها الفعل والمبادرة، أو باعتبارها تدابير علاجية لمشاكل بنيوية وأخرى طارئة، تأتي في هيئة ردود أفعال تسعى إلى تجاوز الأعطاب والاختلالات، وهو ما يستدعي سياسة تدبيرية يراد بها تصريف الأزمات وعدم الالتفات إلى الغايات التي تم إعلانها بموجب المقررات التنظيمية والتشريعية المختلفة. وإيجازا يمكن القول أن ملامح الأزمة التي تسم القطاع تكمن في: غياب برنامج وطني واقعي يحدد الأهداف والرؤى لمخرجات الجهد البحثي، وغياب سياسات واستراتيجيات واضحة وخطط مستقبلية للبحث العلمي تحدد الأهداف والأولويات. افتقار الكثير من المشاريع البحثية للمحتوى التطبيقي، وانفصال الغايات المؤطرة للبحوث عن واقع المجتمع ومشاكله وأعطابه المختلفة. ضعف الإمكانات البحثية، وتقادم العتاد البيداغوجي (وخاصة بكليات العلوم). غياب الهيئات الاستشارية الموكول لها القيام بمهام توظيف نتائج البحث وتمويلها، في أفق تحويلها إلى مشاريع إنتاجية واقتصادية ذات مردودية. غياب قواعد بيانات واضحة تكشف الإمكانيات البحثية البشرية والمادية، وترصد المنجز من الأعمال والدراسات، حرصا على ملامسة القضايا والموضوعات بشكل منسجم ومتوازن. ضعف صيغ التعاون والشراكة بين المؤسسات والمعاهد البحثية المختلفة من جهة، وبين هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات الراعية لقضايا التنمية (سواء مؤسسات الدولة أو تلك المستقلة عنها). ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة بالبلد، وعدم ثقتها في الكفاءات المحلية. اعتماد الباحثين على التمويل الحكومي، وضآلة المساهمة التي يقدمها القطاع الخاص لتفعيل البحث العلمي وتحديثه وتمويله. انشغال معظم الباحثين بالبحث عن حلول للمشاكل الإدارية والمادية الخاصة بعملهم، واستحواذ التدريس على الجهد الأكبر من وقتهم. عدم وجود التقدير اللازم والوعي الكافي من المجتمع بأهمية البحث العلمي وقدرته على حل المشكلات. ضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمي بسبب انعدام جسور التواصل بين المنتجين للبحث العلمي والمستفيدين منه. لنلتفت قليلا إلى موضوع الإصلاح الجامعى الذي بوشر خلال السنوات الماضية ، فهو موصول إلى سابق الكلام، إن الملاحظة التي ينبغي الانطلاق منها هي عدم قيامه على محفزات داخلية محضة، فهو لو يكن مدفوعا بغايات استراتيجية وطنية مستقلة عن قوى الضغط الدولي، ولا محكوما بمنطق الشراكة على نحو ما تقتضيه الشراكة بمعناها الدقيق. لقد تمت صياغة مشروع إصلاحي جامعي في ظل مناخ خاص مطبوع بما ورد في تقارير البنك الدولي الذي تحكمه التوازنات الماكروإقتصادية. لذلك لم يراع الطموح الوطني في خلق جامعة مغربية قوية ببنيات بحثها العلمي تجر قاطرة التنمية وفق نموذج يستجيب لحاجاتنا ذات الأولوية، كما لم يراهن على تثوير المخرجات، والانتقال بها من مخرجات معرفية محضة إلى مخرجات مهارية قوامها المبادرة والإبداعية وغرس قيم العمل والمثابرة والسلوك المدني. سيرا في الطريق ذاته، يكفي أن نتأمل العروض التكوينية التي توفرها الجامعة المغربية، وما يتصل بها من طرائق وعتاد وهندسة بيداغوجية، حتى نأخذ صورة عن واقع البحث العلمي الجامعي، وكذا الصعاب التي تعترض الطالب المغربي في مسيرته الجامعية. إن جامعة تكتفي بالتلقين، وتتعامل بمنطق المقرر والمحتويات الدراسية الجامدة، لا يمكن أن تخلق طالبا مبادرا مبدعا مؤمنا بقدراته واثقا من نفسه. ينبغي للجامعة أن تعطي المثال والقدوة، ولذلك يجب عليها أن تتحول إلى مختبر حقيقي يحتضن تجارب طلابية وأنشطة مهنية. لا بد أن نقطع مع التصور التقليدي الذي يجعل العروض الجامعية أنشطة نظرية مفصولة عن الواقع العملي والمهني. ولا بد من التفكير في طرق إعطاء العروض التكوينية محتويات تجريبية في رحاب الجامعة. ينبغي تحويل الجامعة إلى ورش مفتوح قادر على احتضان المشاريع الطلابية في مختلف تجلياتها. ومثل هذا الأمر يحتاج إلى فرق بحث وطنية تهيئ الأرضية العلمية والتقنية والتشريعية اللازمة. وبيانا نقول إن الكلام ينسحب على كل المؤسسات الجامعية، بما في ذلك كليات الآداب والعلوم الإنسانية، التي توصم مسالكها وشعبها بالافتقار إلى المحتوى التطبيقي أو المهني. وهذا تصور تقليدي أيضا، فكثيرة هي الحقول في العلوم الانسانية والمجالات الفكرية والإبداعية التي تبدو موصولة إلى مجال الطب والهندسة مثلا ، قادرة على تقديم المساهمة النوعية لتحسين المهن التي يحمل المتخرجون من معاهدها صفة " طبيب" او"مهندس" ؛ وهي قائمة طويلة من التخصصات (معمارية، زراعية، البرمجيات، الطيران، الأنثروبولوجيا الطبية و السوسيولوجيا الطبية و المأثور التقليدي...) . مقترحات: إن ما عرضناه آنفا من ملامح الاختلال ليس سوى عينة من الصعاب التي تحف ببنيات البحث العلمي الجامعي ، وهي في الحقيقة صعاب مرتبطة بإشكالات بنيوية تهيكل النظام التعليمي في شموليته. غير أن هذا القول لا يعني أن يظل الفاعلون في هذا المجال مكتوفي الأيدي ينتظرون مباشرة الإصلاح الشامل للمنظومة التعليمية، بل على النقيض من ذلك، هو دعوة للمسؤولين عن تدبير هذا القطاع إلى مسارعة الخطى من أجل تجاوز العثرات، وتثبيت أقدام المؤسسة الجامعية في مجال تدبير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للساكنة. عموما يمكن القول أن هذه العناصر كلها لا تقدم الضمانة الكافية لنجاح مشروع بنيات البحث العلمي الجامعي، لذلك سيكون من اللازم توفير المناخ التدبيري السليم، وتفعيل مستجدات الطرائق في مجال التواصل والاستماع، واستحداث مؤشرات دقيقة للتقييم والتقدير، وابتكار صيغ جديدة للتحفيز، سواء بالنسبة للطلبة، أم بالنسبة للأساتذة والأطر الإدارية. وهذه رهانات ممكنة طبعا بتظافر مجهودات الطاقم المسؤول عن شؤونه البحثية والتكوينية والإدارية، والتزام الشركاء القائمين والمفترضين. وفي ختام هذه الورقة الموجزة ينبغي التنويه إلى ضرورة اضطلاع الجامعة بدورها القيمي والعلمي والثقافي في تكريس التنافسية والإبداعية والمبادرة، وعلى لزوم انخراط كافة الفاعلين الجامعيين (طلبة وأساتذة باحثين وأطر إدارية وتقنية) في كل المشاريع الرامية إلى الرفع من جودة البحث العلمي، مع ما يعنيه ذلك من وجوب إشاعة جو من الثقة والحوار والمسؤولية والشفافية والحكامة داخل المؤسسة الجامعية من جهة، ثم بين هؤلاء ونظرائهم من المتدخلين السوسيواقتصاديين والسياسيين من جهة ثانية. أما الغاية الأسمى من كل ذلك فهي بالتأكيد تعزيز جاذبية المؤسسات البحثية، وتحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود، وضمان التنمية البشرية المستدامة.