بين عزوف الفاعل الأكاديمي وسكوت الفاعل السياسي تعيش الجامعة المغربية، على وقع انحدار ملحوظ يمس مختلف بنياتها التكوينية والبحثية والتدبيرية. وهو الانحدار الذي يمكن تلمسه من خلال مؤشرات كثيرة أشدها بروزا وتأثيرا ارتفاع عطالة الخريجين، وتدني مستوى المخرجات العلمية والمعرفية والمهارية لطلبة المؤسسات الجامعية، فضلا عن مؤشرات أخرى يمكن قياسها بحسابات الجودة والملاءمة والتجديد والمساهمة في أوراش التنمية الترابية. إن الأسئلة الذي ظلت غائبة ومغيبة سياسيا طيلة هذه المدة هي: أي جامعة نريد؟ وما هو سبيل بلوغها؟ وما الذي ينبغي مباشرته اليوم من الإجراءات كي نختصر الطريق إلى هذه الغايات ؟ وهذه أسئلة لم يبادر أي من الفاعلين السياسيين إلى طرحها أو حتى الاقتراب من شُرُكها الكثيفة، فبالأحرى الإجابة عنها ولو على سبيل التخمين والاستبصار. بل إن مجافاة هذه الأسئلة أصابت الباحثين الأكاديميين أيضا، إذ يندر أن تجد من الباحثين -أفرادا ومؤسسات- من يولي إشكالية تأهيل الجامعة المغربية عناية أو أولوية، والغالب في تقديرنا أن السبب في جوهره وجه من أوجه الانحدار موضوع الحديث، ونعني هنا غياب التواصل والحوار بين الهيئات الأكاديمية ونظيراتها السياسية. وهو ما يتضح من خلال استقالة المثقف الأكاديمي وعزوفه عن الفعل السياسي -مشاركةً وعرضا ومعارضة-، لا سيما وأن مسؤولية تضييق الهوة بين الدرس السوسيولوجي والبيداغوجي من جهة وبين التنظير السياسي من جهة ثانية، هي مسؤولية المثقف الغيرالمسكون بانشغالات مجتمعه. أما أسباب سكوت الفاعل الأكاديمي عن طرح هذا السؤال ذي البعد الغائي الاستراتيجي فيعود إلى جملة أسباب، منها شيوع ثقافة التدبير الآني والمرحلي لدى الهيئات التدبيرية الجامعية المغربية، واضطرارها إلى توجيه جُهدها كاملا صوب حل المشكلات وتصريف الأزمات المزمنة التي تتخبط فيها المؤسسة، عوض التفكير في مخططات استشرافية بعيدة المدى تتأسس على قاعدة التشخيص الدقيق لمكامن الخلل. ذلك أن المسؤول الجامعي -بيداغوجيا كان أم إداريا- يجد نفسه واقعا في ظل مشكلات لا حصر لها تفرض عليه التصرف الآني وإيجاد الحلول التي لا تقبل التأجيل (ضعف المدخلات، إشكالية التمثيلية النقابية، مساطر المنح والإيواء الجامعي، ضغط الامتحانات...) ولذلك يندر أن تجد من بين المسؤولين الجامعيين من يستطيع مقاومة إكراهات التدبير اليومي واللحظي. من أسباب انصراف الفاعل السياسي أيضا عن الخوض في هذا السؤال ميله إلى الاشتغال الاختزالي على قضايا المجتمع المختلفة، ونظرته القطاعية الضيقة. ذلك أن التمثل المغربي للفعل السياسي تمثل انتخابي محض لا يرى في السياسة غير استحقاقات وأصوات ومصالح ظرفية. لذلك لا تجد من الهيئات السياسية المغربية غير قلة من الأحزاب التي تراهن على التعليم وتعتبره الحصان الأول الذي ينبغي الرهان عليه لتجاوز الوضع التنموي الراهن. بل إن هذه الهيئات المستثناة، حتى وهي تراهن على التعليم ، فهي لا تقدم تصورا سياسيا ذا محتوى إجرائي يجعل مشروعها القطاعي الخاص بالتعليم العالي واقعا في قلب مشروع مجتمعي واضح المرتكزات منسجم الأهداف. وللتوضيح أكثر نقول إن الوثائق الحزبية والأوراق السياسية التي تناقَشُ في خضم المؤتمرات والاجتماعات الحزبية لا تنطلق في مجملها من نظرة شمولية إلى أعطاب المنظومة التعليمية، بل تكتفي، في الغالب، باستحضار الاختلالات القطاعية على نحو تبسيطي محكوم بالرغبة في تحقيق نتائج سريعة. وهو ما يحول دون طرح الأسئلة أعلاه طرحا علميا وسياسيا دقيقا. لماذا اذن يستمر السكوت عن هذه الاختلالات كلها، ومن المستفيد من إبقاء الوضع على هذا النحو؟ سؤال قد يكون الجواب عنه موضوع خلاف، وقد يؤدي الخوض فيه إلى سجالات وخصومات إضافية. لكن المؤكد أن الجميع متفق أن الخاسر الأكبر هو الجامعة العمومية، وأن المتربص والمستفيد من الوضع هو القطاع الخاص، الذي يمني النفس بزيادة انحدار العرض الجامعي، كي يكشر عن أنيابه ويشرع في عرض بضاعته التكوينية وفق شروط السوق ومنطق الربح. في ظل هذا المناخ المأزوم، تفقد المؤسسة الجامعية فرصتها في خلق التنمية وتحفيز الديناميات الاقتصادية والاجتماعية ، وتكرس في الأذهان صورة سلبية عن المؤسسة الجامعية. ولذلك يجب العمل على تكثيف الجهود الرامية إلى بلورة استراتيجية بحثية واضحة، وتشجيع مشاريع تطوير المؤسسة الجامعية ، في أفق تجاوز العثرات، وتثبيت أقدام الجامعة في مجال تدبير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للساكنة، ومن المسالك التي نراها في اعتقادنا لازمة لبلوغ هذا المرمى على الأمد المنظور نذكر أساسا: - استشراف الحاجات السوسيواقتصادية ، من خلال إنجاز بحوث ودراسات رصينة، ثم فتح تكوينات جامعية ذات صلة بالمحيط السوسيواقتصادي لجهات الوطن وأقاليمه. وهو ما لن يتأتى إلا بعد تقويض أركان التصور الكلاسيكي الذي لا يرى من صلات ممكنة بين مخرجات المؤسسة الجامعية واحتياجات سوق الشغل. وهذه غاية تقضي، بالضرورة، استدعاء الشركاء السوسيو-اقتصاديين للمساهمة الفاعلة في التدبير البيداغوجي والمالي للمؤسسة الجامعية، وذلك عن طريق الهيئات الجامعية المختلفة (مجالس الجامعات، مجالس المؤسسات، الشعب ..). - الاستعانة بوسائط تعليمية سمعية وبصرية وإلكترونية تسمح للطلبة المكوَّنين بالمشاركة في بناء المهارات، وبالتفاعل الجماعي الآني. كما ترفع إحساسهم بالمساواة في توزيع الفرص، ذلك أن الطالب يستطيع المشاركة في بناء تعلماته باستعمال صيغ التواصل الإلكترونية المخالفة، عكس ما يجري بالمدرجات الكلاسيكية لاعتبارات الاكتظاظ، وطريقة توزيع المقاعد... - استحداث نظام تعويضات منصف للأساتذة الباحثين، تزكيه مجالس المؤسسات، على قاعدة الخدمات المنجزة والتكوينات المستمرة، والرصيد البحثي.. - تشجيع مجموعات البحث، وإغناء الرصيد المكتباتي للمؤسسات الجامعية..، ورقمنة المكتبات الجامعية، وإحداث مستودع رقمي للرسائل الجامعية التي أجازتها المؤسسات الأكاديمية، وهو ما سيساهم في توزيع المجهود البحثي على المجالات والمواضيع بشكل متوازن وعادل، ومن ثم الوقوف في وجه التعامل الحدسي والاجتهادات الفردية في انتقاء مواضيع البحث العلمي. - تأسيس مكتبات افتراضية تتيح الوصف الموضوعي والمادي للوثائق الإلكترونية، وبذلك يسهل على الباحثين (طلبة واساتذة) الوصول إلى معلومات في آماد قياسية مقارنة مع تتيحه المكتبات الورقية التقليدية. - تثمين المنجز من البحوث والدراسات ذات القيمة العلمية الرفيعة، والعمل على نشرها واستغلال خلاصاتها وتوصياتها بهدف تنمية المحيط الاقتصادي والاجتماعي بنيات التسيير الإداري للقطاع البحثي، وبخاصة بمختلف مدارس الدكتوراه ، وذلك من من خلال تولي نواب لرؤساء الجامعات مكلفين بمدارس الدكتوراه توكل لهم الصلاحيات التامة لتنظيم البحث العلمي وتأطيره وتوجيهه، وكذا عقد الشراكات الوطنية والدولية، وتجميع الوسائل التقنية والموارد المتاحة وفق استراتيجيات متنوعة (قصيرة-متوسطة-بعيدة المدى). - إعادة النظر في تجربة المهننة، إذ تم منذ سنوات اعتماد إجازات مهنية عديدة بمختلف الجامعات المغربية، ويبدوا أن مجملها فشل في توفير المخرجات المطلوبة. فهل هذه علامة على فشل الورش البيداغوجي المهني؟ ولذلك ينبغي استبداله بورش آخر. الأمور، في تقديرنا، ليست على هذا النحو. وفشل هذه الخيارات المهنية لا يعني فشل خيار المهننة بوصفه محركا جديدا لقطار الجامعة. بل يعني وجود أعطاب أخرى في هذا المحرك، والمطلوب مباشرة مهام البحث عن هذه الأعطاب وإصلاحها بحكمة وروية وليس استبدال المحرك كاملا. - إشاعة الثقافة الرقمية داخل أسوار المؤسسات الجامعية على نحو تؤطره المعرفة العالمة، والتدبير الرشيد، والاستغلال العقلاني للعتاد والموارد. هذا ونثير في ختام هذا المقال المقتضب حاجة البلد إلى مشروع نهضوي كبير يكون قطاع التعليم عماده ومرتكزه، يتم فيه هندسة إجماع حقيقي بين كل الفاعلين والمتدخلين على ضرورة إحداث ثورة تعليمية تقطع مع عثرات الماضي وانتكاساته المتعددة. حتى ولو تطلب الأمر تأجيل النظر في غيره من الأوراش الاجتماعية والاقتصادية؛ لأن التعليم الجيد هو الوحيد القادر على جلب الحلول الناجعة لكل المعضلات الاجتماعية (البطالة، الفقر، الجريمة . هي بعض الملابسات المتعددة المداخل، تحتاج إيمانا صادقا بالقدرة على إحداث الأثر، وحرصا على مقاومة الإخفاق الذي أصبح ممسكا بالنفوس، بسبب تراكم الخيبات الناتجة عن فشل مشاريع الإصلاح المنصرمة. *جامعة محمد الأول وجدة