في ظل الحراك السياسي و الإجتماعي الذي تعرفه الدول العربية و دول شمال إفريقيا، يبدو الصمت المستشري في المغرب ثقيلا، لا تخترقه أحيانا و تمزقه على استحياء إلا بعض التحركات الخجولة لأطراف معدودة، أعتقد أنها لا تمتلك الدعامة الفكرية المتينة و النضج السياسي الذي يمكنها من حمل لواء التغيير في المغرب، بل يبدو أنها تأثرت بالرياح التي جاءتنا من دول أخرى أكثر منها اقتنعت بضرورة النضال من أجل التغيير، و طبعا فنحن لا نعمم، فمجتمعنا لا يخلو من شباب واعيين قادرين على حمل مسؤولية التغيير، لكنهم تائهين في دوامة هذه الفوضى و المتاهة المتشابكة شِعَابها، و لم يجدوا بعد طريقهم لقيادة عملية التغيير. لكن يبدو واضحا أن هذا السبب هو الذي جعل الدولة تستهتر بمطالب الحركة المهترئة القاعدة، فهي إلى حد الآن لم تستجب لأي مطلب من المطالب التي نادت بها منذ 20 فبراير على الرغم من التضخيم الإعلامي لخطاب 9 مارس الذي جعل منه البعض خطابا تاريخيا، بينما يبدو الخطاب حلقة في سلسلة من الإصلاحات التي قام بها الملك، لا يختلف في شيء عن خطاب 3 يناير 2010 حول الجهوية الموسعة. في المقابل تبدو الساحة السياسية غارقة في الخطابات الفارغة التي يغيب فيها روح النقد الذي يتطلبه إنشاء دولة الحداثة السياسية، فعلى سبيل المثال، باستثناء حزب النهج الديموقراطي -الغير المعترف به- في شخص المناضل اليساري عبد الله الحريف لم يقم أحد بانتقاد التعيينات الفوقية لصياغة الدستور الجديد، مع أن الدستور الممنوح يتعارض على طول الخط مع قانون الدولة الحداثية كما أقر بذلك كبار مفكري الحداثة، فهيغل و هو يشكل لحظة الوعي الفلسفي بالحداثة، إذ هو أول فيلسوف وظف مفهوم "العصور الحديثة" بعيدا عن حمولته التاريخية الزمنية، يشعر بنوع من الاجحاف و الهضم لحق الشعوب عندما يمنح دستورا حتى و إن كان مضمونه ديموقراطيا تماما، إن تغيير محتوى الدستور يظل صوريا إذا لم يتم احترام إرادة الشعب و إشراكها في أثناء صياغة الدستور، و في هذا الصدد يقول هيغل "عندما نهم بإعطاء دستور لشعب ما، حتى لو فرضنا أن مضمونه معقول، إننا في الواقع نهمل العنصر الذي يكسب الدستور فعاليته و يجعل منه أكثر من صورة"، و لن نتررد في القول بأن هذا العنصر المفقود في هذه الحالة هو إرادة الشعب، فهذا الأخير هو مصدر السلطات، فلا معنى أن يظل النازع الذي يؤطر سلوك المواطن خارجيا، إنه لا بد من إشعار المواطنين بأنهم في دولة شاركوا في بناء أسسها و صياغة قوانينها شكلا و مضمونا، حتى يكون النازع في احترام الدساتير و القوانين ذاتيا، و إلا ظل الدستور القديم يواصل حياته في الدستور الجديد، يقول عبد الله العروي " الدستور المكتوب عندما يمنح، لا يغير شيئا من الدستور الحقيقي الموجود قبله، و الذي يبقى يعمل باستمرار تحت غطائه" (1) قد يرمينا البعض بالتشاؤم، و أنا أعتقد أنها ليست مسألة تشاؤم أو تفاؤل بقدر ما أنها رؤية موضوعية تحاول أن تحيط و تمسك بجميع خيوط المشكل، حتى تخرج بحل موضوعي يسهم في تشخيص الواقع و إبراز أمراضه، يسهم هو الآخر في إيجاد البلسم و الدواء للأوضاع المأساوية المعقدة التي يمر بها المغرب. إننا أمام أزمة سياسية خانقة بكل المقاييس، خطابات سياسية زائفة تعد بتوسيع مجال الحريات، بينما واقع الحال ينذر بأزمة حقيقية نتيجة تضييق الخناق على المواطنين و قمع أي تحرك احتجاجي، أما الأحزاب السياسية فكلها مجندة لمباركة التعليمات الفوقية، و لن نبالغ لو وصفناها بأنها جوقة من الطبالين و "الغياطين" يرفعون الطبل و المزامير، بينما حداثية الدولة تقوم على روح النقد كما أشرنا سالفا، و المراجعة الدائمة للقرارات، و نزع القدسية عن الحاكم. و حتى النقابات، و هي فكرة حداثية في جذورها، على اعتبار أن الحداثة عملت دائما و ألحت على التواجد الضروري لمؤسسة أو هيأة في جميع المجالات تتوسط الحاكم و المحكوم، الرئيس و المرؤوس، هذه النقابات أكثرها استسلمت لعطايا الدولة التي تتدفق عليها، ما جعلها تدير ظهرها لقضايا "البروليتاريا" و مشاكلهم، أما حركة 20 فبراير فمن حقنا أن نبكي عليها حظنا التعيس، إذ أن هذه الأخيرة التي عقدنا عليها كل الآمال أبانت عن هشاشة في التعامل مع الكثير من الأمور، منها مواقف بعض أعضاء الحركة من مشاركة العدل و الإحسان في التظاهرات، حيث ركبت موجة الموقف السلطوي المعادي للجماعة، على اعتبار أنها "متطرفة" و "إسلاموية"، بينما الجماعة أبانت عن مواقف مشرفة تحمد عليها، و هي من أهم روافد نهر الحركة، و قد راقني رد المحلل السياسي محمد ضريف يوم 20 مارس على الحملة الشعواء التي أعلنت ضد العدل و الإحسان، حيث رأى أنه ليس من الإنصاف في شيء محاكمة الجماعة ارتكازا على ما كتبه شيخ الجماعة في الثمانينات، بالضبط كما لا يمكن محاكمة الاتحاد الإشتراكي الذي رفع شعار الثورة في الستينات كمنهج وحيد للتغيير. هذا فضلا عن الفسيفسائية الغبية في مواقف الحركة، و من أغربها نفي أن تكون الملكية البرلمانية مطلبا للحركة. أما المؤسسات الدينية، فبالاضافة إلى علامة الاستفهام الكبيرة التي يمكن وضعها حول مصداقيتها و حياديتها مؤسساتيا (هل هي منفصلة عن الأخطبوط السياسي السلطوي؟) فهي لاتزال تفكر بمفاهيم قد أكل عليها الدهر و شرب، و توظف عبارات تجاوزها التاريخ و صارت في ذمته، لذلك فهي بهذا الاعتبار مجرد أدلوجة، بالضبط كما حكم كارل ماركس على اليسار الهيغلي بأدلوجيته لما وظف مفاهيم فلسفة الأنوار التي انتهت صلاحيتها في عصره. و قد شعرت بذهول كبير و أنا أقرأ بيان المجلس العلمي الأعلى الذي يصف مهمة الملك ب "حراسة الدين و سياسة الدنيا"، و هي عبارة وظفها الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" في القرن الخامس الهجري، و إذا كنا نلتمس بعض العذر للماوردي على اعتبار أن نموذج الدولة الثيوقراطية التوتاليتارية هي النموذج الوحيد الذي كان سائدا في العصور القروسطاوية، فلنا أن نعجب من هذا الجمود و الانحطاط الذي تتمرغ فيه مؤسساتنا الدينية، و الأمر لا شك لا ينطبق على المغرب فقط، فالفكر التراثي السياسي جامد في كل العالم العربي، و أما شعار "الإسلام هو الحل" فمجرد شعار أدلوجي هو الآخر، إنه مجرد رد فعل ( = انفعال) لا فعل حقيقي، تجابِه به القوى الرجعية في العالم الإسلامي أي عمل جاد للانفتاح على تجارب الأمم الأخرى السياسية، و هو بعد ذلك يختزل في "تطبيق الحدود" و "الحجاب"، دون أن يقدر على تقديم مشاريع جادة محكمة التخطيط في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع. إن المرجعية التراثية لا تسعفنا أبدا و لا تطاوعنا في إحداث التغيير المنشود، لأن فكرها أدلوجي لا يأخذ بالحسبان سيرورة التاريخ، و لا يواكب التغيرات الجذرية و التحولات العميقة الحاصلة في بنية المجتمعات، فضلا عن انكماشها البليد على ذاتها، حيث لا تقدر أبدا على مد جسور للتواصل مع الآخر، فضلا عن الاقتباس و الاستفادة منه. أدلوجية الخطاب الرسمي إن الخطاب الرسمي يبدو ممزقا بين مرجعيتين تقفا على طرفي نقيض، أو هكذا يبدو للكثير، و على الرغم من إمكانية تحوير الفكر التقليدي ليتم احتواؤه و إدماجه في فكر الحداثة البارع في اختراق أصالة الفكرانيات بآلياته التفكيكية، و بالتالي رفع التناقض أو نقض منطق "الثالث المرفوع"، منطق "إما.. و إما.."، إلا أن الخطاب الرسمي لأدلوجيته لن يرقى إلى هذا المستوى الذي يجعل بمكنته تجاوز الاختلافات الناجمة عن الحوار/ الصدام العنيف و الشرس بين المرجعيتين و العمل على التقريب بين الأفكار، لن يرقى إلى ذلك، و لن يكون من مصلحته أن يفعل ذلك، إذ أن الخطاب الرسمي الأدلوجي الذي تنخره التناقضات يعمل جاهدا على الضرب على الوتر الحساس لأي فكر، حداثيا كان أو تقليديا، مقتربا منهما معا، عاملا على تعميق الهوة بينهما، فليس من باب المصادفة و العشوائية أن نسمع في الخطاب الرسمي أصواتا تنادي بضرورة الدفاع عن ما يسمى "ثوابت الأمة"َ؛ الإسلام و إمارة المؤمنين، بمباركة من مؤسسات الدولة الدينية و بتصفيق الكثير من أصحاب العاطفة الدينية الموجودين على هامش التاريخ، و الذين انجروا مع التيار كغثاء دون أن يدروا من أين جاؤوا و لا إلى أين هم ذاهبون، فبالأحرى أن يستشعروا ما الذي يراد بهم، هؤلاء نجدهم يصفقون لما يسمى ثوابت الأمة مع أنهم الأكثر تضررا من السلطة الدينية المنتمية للدولة. و في نفس الوقت نسمع في الخطاب الرسمي ضرورة الانخراط في المشروع الحداثي هكذا بإطلاق، بإيجابياته و سلبياته، نعم هكذا دون تمييز بين الصالح في الحداثة و الطالح،و هذا ما يمكن أن نفهمه، و ما ينبغي أن نظل نفهمه، لأننا بكل بساطة ضحايا خطاب أدلوجي سافر. فأين تتجلى أدلوجية الخطاب الرسمي الديني؟ و أين نلمس أن المناداة بتطبيق الحداثة في المغرب مجرد و هم أو قناع، -إن صح أن الحداثة فعلا منظومة فكرية جاهزة لا تخضع لسيرورة و لا هي صيرورة-، و بالتالي أدلوجية الحداثة في المغرب؟
لنذكر أن مفهوم "أدلوجة" ينتمي إلى القاموس الغني للأستاذ عبد الله العروي، و هو يؤدي معنى "الإيديولوجيا" (=فكرانية كما عرّبها د.طه عبد الرحمن)، و قد يكون من نافلة الكلام التنبيه لخطورة المفهوم الدلالية، فهو يشبه إلى حد كبير الطبقات الجيولوجية المتراكمة، الواحدة فوق الأخرى، إنه ركام من المعاني المختلفة و المتناقضة أحيانا، يحمل آثار تطورات و صراعات طبعت "العمران البشري"، و خطورة المفهوم تبرز أكثر في كونه لا غنى لنا عن توظيفه رغم أن هلامية المفهوم تفرض علينا تجنبه، لذا فليس غريبا أن يلحظ القارئ بأن المفهوم كما نستعمله هنا يبدو كلوحة فنية تتداخل فيها الألوان الباردة و الساخنة بشكل يجعل الصورة غامضة و ضبابية، و لكن مع ذلك فإن التزام أكبر قدر من اليقظة الفكرية قد يحد من خطورة المفهوم، و يجعلنا قدارين على احتوائه و استيعابه. حتى لا أغرق فيما هو نظري لابد أن نعرف الأدلوجة، و على الرغم من أن تقديم تعريف واحد جامع مانع لا يستقيم مع مثل هذه المفاهيم، بالضبط كما أننا لا نستطيع أن نعرف مفاهيم "الدولة"، "الحرية"، إنها مفاهيم تستعصي على الإدراك المباشر، لكن ثمة سمات تجعلنا نقترب منها بحذر، فالأدلوجة كما نوظفها هنا قناع أو وهم، إنها كل ما يحول دون إدراك الواقع كما هو، بإقحام الإنسان لذاته في فهم الكون، بدل فهم الكون كما هو، و الذات هنا هي الموروث الفكري أو الظروف الإجتماعية أو غيرهما.. إن كارل ماركس ينتقد ورثة فيورباخ في اليسار الهيغلي من أجل أنهم استعملوا عقلانية و مادية فلسفة الأنوار (المتجاوزة) لتحليل الواقعي الألماني، يقول كارل ماركس نقلا عن كتاب العروي "مفهوم الإيديولوجيا" : "تحيون في ألمانيا فلسفة الأنوار و نقدها للأوضاع، إنكم تلغون التاريخ الواقعي، و بإلغائكم إياه، تملأون أذهانكم بالأوهام و تعرضون عن معرفة الواقع. فكركم إذن أدلوجي غير علمي" (2) إن الأفكار الموروثة إذن التي اكتسبت صفة الإطلاق هي مجرد أدلوجة ، تحول دون الإلمام الحقيقي بنهر التاريخ المتدفق الخالد، الذي تتجدد مياهه باستمرار بفعل حركيته و هيجانه الدائم، و من هنا فكل ما يحول دون الوصول إلى أصل الحقيقة أدلوجة، أي وعي زائف، فالأخلاق بالنسبة لنتشه أدلوجة، لأنها تخفي حقد الضعفاء و حسدهم للأغنياء و السادة، و الفن و الأساطير و الأديان أدلوجة عند فرويد لأنها تخفي حقيقة "الرغبة" التي تحرك الإنسان، و البنية الفوقية كذلك أدلوجة بالنسبة لماركس، لأنها لا تعكس حقيقة العلاقات المادية الإنتاجية في مجتمع ما، إنها "تلك الأوهام التي يستغلها المتسلطون (الرهبان، النبلاء، الأغنياء) ليمنعوا عموم الناس من اكتساف الحقيقة" (3) . لعل القارئ و هو يتابع تعريف الأدلوجة قد كوّن لنفسه صورة واضحة عن أدلوجية الخطاب الرسمي الذي يلتمس له الشرعية في الدين، فكارل ماركس إذا كان ينتقد اليسار الهيغلي من أجل توظيف فلسفة الأنوار، فحري بنا أن ننتقد بشدة و حدة من يلتمس الشرعية لحكمه في سراب يحسبه الآخرون ماء، إن الدين الإسلامي لم يأت بمشروع سياسي حتى يزعم أحد أحقيته في الحكم باسمه أو حتى حمايته، فالدين لله أولا و أخيرا، و السياسة قد تركها الإسلام للاجتهاد و الإبداع، إذ أن النبي لم يوص لأحد، بل ترك الأمر شورى بين المسلمين، من هنا موقفه التقدمي الحداثي، و لو جاء الإسلام بمشروع سياسي واضح المعالم لما تفجرت أزمات في صدر الإسلام، و هي التي نمت عن وجود خلل دستوري، يتمثل بالأساس في عدم وجود طريقة لاختيار الحاكم، و عدم وجود نص يحدد مدة حكمه، فضلا عن تحديد اختصاصاته. لقد كان "أمير الحرب" هو كل ما يشكل اللاشعور السياسي عند العرب، من هنا نفهم سر إعجاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بلقب "أمير المؤمنين"، إن عمر وعى فعلا دوره في المجتمع العربي الإسلامي. الخطاب الرسمي إذ يلتمس الشرعية في الدين، يوظف عبارات ماضوية لم يعد لها أي مكان في عصر التعاقد الاجتماعي و فصل السلط و البرلمان، من قبيل "حراسة الدين و سياسة الدنيا"، هل نُذَكّر بما قاله أحد رواد النهضة الشيخ المستنير علي عبد الرزاق عن مثل هذه الأنظمة المستبدة التوتاليتارية اللامشروعة؟ قد يطول بنا المقام لو فعلنا ذلك، لكن لنسجل أن علي عبد الرزاق أعلنها بكل شجاعة أن نظام الخلافة كما رسمه الماوردي و ابن خلدون و أمثالهما كان بلاء على الأمة الإسلامية، و في التاريخ الإسلامي البائس الدموي خير دليل و شهيد (4). نعم، إنه لغريب أن يدس فقهاء الظلام ممن انعدم ضميرهم، أو "عدماء الدين" بدل "علماء الدين" كما وصفهم الكندي، أن يدسوا أنوفهم في كتب متخلفة رجعية ككتاب الماوردي "الأحكام السلطانية" ليستخرجوا ما يبرر مواقفهم المنبطحة السخيفة، التي تشكل عصا يعرقل انعتاق التاريخ من قبضتهم الحديدية الثقيلة التي تخنق أنفاسه، قد تستغربون وصفي لكتاب الماوردي بالرجعي، لكن ربما تتفقون معي إذا علمتم أن الماوردي يبرر ولاية الاستيلاء، و يذكر أن الحسم بين حاكمين يكون بالقرعة، و أن إمامة المجهول جائزة، و أنه قياسا على عقد الزواج، تنعقد الإمامة باثنين فقط، و أن العهد لأكثر من إمام جائزة.. و هلم جرا و مسخا، إنها مرجعيات تيولوجية تلغي الشعب و الأمة إلغاء تاما، بينما ترفع من مهام الحاكم و رتبته إلى درجة الألوهية، و لنا في دستورنا الراهن كل العبرة. قد يطول بنا المقام في الحديث عن أدلوجية الخطاب الديني الرسمي، لكن بالمختصر المفيد، فالخطاب الرسمي يحاول إيهام الشعب بخطاب ديني استغلالا للعاطفة الدينية الشعبية، بينما الإسلام لم يأت بأي نطرية أصلا، بقدر ما أنه تحدث عن أخلاقيات فقط، يقول عبد الله العروي : "إذا اصطلحنا على أن نظرية الدولة هي وحدها تلك التي تنظر إلى الكيان السياسي كتجسيد للعقل و الأخلاق، يحق لنا أن نقول أن الفكر الإسلامي القديم بما فيه ابن خلدون يتضمن أخلاقيات و اجتماعيات لكنه لا يتضمن نظرية الدولة" (5). أما أدلوجية الخطاب الحداثي الرسمي، فيكفي أن نعلم أن الحداثة بنية فكرية و نموذج ذهني، أقصد أنه نموذج موجود في الأذهان لا في الأعيان(له مظاهر، لكن لا يمكن أن نطلق على شيء محدد مجسد اسم حداثة)، لكي نقف عند أدلوجية الخطاب الرسمي، إن الحداثة هي رؤية إلى المعرفة، إلى التاريخ و الزمن، إلى الطبيعة، إلى الإنسان.. و ليست كلاما يردد في الخطابات، و هي بعد ذلك سيرورة لا متناهية، ابتدأت في القرن الخامس العشر من عصر النهضة الأوروبية، و لا تزال إلى حد الآن تشق طريقها إلى اللامجهول، بقيادة التقنية و العقلانية. إن الحداثة تتسرب إلى باطن فكر الإنسان لتقبع فيه، ثم تملي عليه طموحاته و آفاقه المستقبلية، و هذا ما لم يحدث بعد في مجتمعاتنا الإسلامية، ما يجعل الحديث عن أي مشروع حداثي شمولي مجرد أدلوجة، و المشكل الأكبر أن الخطاب الرسمي فضفاض غير علمي، فهو إذ يتحدث عن الحداثة لا يحذر من آفته التي شغلت المفكرين، أقصد العدمية و "اللامعنى" المنبثقة عن إحدى أسس الحداثة و هي الفردانية والذاتية التي ترى في الذات فقط معيارا لتقييم الأشياء، ما يعني اغتيال المثل العليا و القيم، أو نسبيتها على الأقل. من هنا فتطبيق الحداثة غير ممكن في هذه اللحظة، اللهم إلا إذا عملنا على تبيئتها، أي حاولنا القفز على التاريخ (و نحن المخلفين في ركبه) و نجني ثمار الحداثة الجاهزة الطازجة لكن من داخل تراثنا، كما بشر بذلك المفكر عابد الجابري (6). الخطاب الأدلوجي مغالط يعمي الأبصار و يشكل وعيا زائفا، فما أحوجنا إلى مخاطبة الشعب خطابا موضوعيا دقيقا مفهوما بعيدا عن الضبابية و العمومية.
(1) عبد الله العروي : مفهوم الدولة. الدارالبيضاء : المركز الثقافي العربي،2006. ط8. ص 24. (2) عبد الله العروي : مفهوم الإيديولوجيا. الدارالبيضاء : المركز الثقافي العربي 2006. ط7. ص32. (3) المرجع نفسه. ص29. (4) راجع كتاب الشيخ علي عبد الرزاق "الإسلام و أصول الحكم" بتحقيق د. محمد عمارة. (5) عبد الله العروي : مفهوم الدولة. ص125 (6) انظر حول مفهوم التبيئة كتاب "المثقفون في الحضارة العربية : محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد" لمحمد عابد الجابري، عن مركز دراسات الوحدة العربية. مدونة الكاتب : www.adiltahiri.maktoobblog.com