أثار الموقف المغربي من اعتبار حزب الله اللبناني تنظيما إرهابيا عددا من التساؤلات، فقد أكد ذلك أن قوة النموذج الإيراني تكمن في الانتقال من مرحلة الحصار الدولي إلى مرحلة التوسع، حيث القدرة على اللعب على التناقضات الطائفية واستغلال ضعف الدول ذات الانتماءات السنية، وعلى رأسها السعودية، لإعادة هيكلة الخريطة السياسية والمذهبية لصالح اختياراتها العقدية ونموذجها المذهبي. ولفهم الموقف المغربي، يمكن رصد أهم التحولات التي حصلت في المنطقة: 1- ضرورة بناء التحالف السني لمواجهة الأخطبوط الشيعي الذي استغل التخلف السياسي للعقلية الخليجية للتنسيق الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي قدمت أعظم درس سياسي للعقلية الرأسمالية التي لا تؤمن بالمصالح الأخلاقية التقليدية التي كانت مهيمنة على العلاقات الأمريكية الخليجية بفعل المتغيرات الدولية، وعلى رأسها خروج الخطر الإرهابي من داخل الفكر الديني السعودي، الشيء الذي دفع الكثير من المفكرين الغربيين والمؤسسات العلمية إلى الضغط على القرار السياسي بضرورة تحويل التنسيق الاستراتيجي تجاه المعسكر الشيعي، للضغط، من جهة، على المعسكر السني لمراجعة عقيدته الإستراتيجية، ومن جهة أخرى، لإمكانية توظيف الورقة الشيعية لتحقيق مفهوم الفوضى الخلاقة في العالم العربي الإسلامي. ولعل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران وفتح الأسواق الدولية في وجهها، بالإضافة إلى تشجيع الشركات الدولية للاستثمار في قلب أسواقها، ليعد أكبر انتصار للعقلية الشيعية التي تمثل قمة الدهاء في التفاوض السياسي. 2- تحول دولة في حجم العراق من شكلها السني في زمن دكتاتورية صدام حسين إلى دولة شيعية، يحكمها رجال دين معروفون بتبعيتهم للمرجعية الإيرانية، وعلى رأسها الإمام الخامنئي، إشارة على القوة الروحية للمنظومة المذهبية الشيعية القادرة على المحافظة على الولاء الروحي للمرجعية الدينية الإيرانية، بالرغم من كل الضغوطات السياسية وكافة أشكال الحصار الإعلامي والضبط الأمني، وذلك رغم الإبادة الرمزية لكبار علماء الشيعة، وعلى رأسهم الإمام باقر الصدر رحمه الله، والإبادة العملية باستعمال الأسلحة المحرمة دوليا للتطهير المذهبي للشيعة، أصبحنا أمام دولة شيعية بكل ما تحمل الدولة الدينية من مواصفات عقدية ومذهبية، والخطير في الأمر أن يتم إنتاج السياسات الاقصائية نفسها الحاقدة على الآخر المذهبي الذي صورته التربية الطائفية والتنشئة السياسية على أساس أنه يستحيل بناء الدولة المذهبية إلا بقتله وإعدامه وحرقه. وهكذا بتنا أمام عمليات للقتل المذهبي والتطهير العملي لأهل السنة أمام أنظار العالم، باعتبارها عمليات شرعية تقوم بها جماعات شيعية متطرفة تنتقم بها من حجم المعاناة التي مورست عليها، وللتنفيس عن براكين الحقد المذهبي الذي كانت تنتظر امتلاك أداة الدولة للشعور بتحقيق الانتصار التاريخي ضد الأعداء الذين سرقوا الخلافة من سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، واغتصبوا الأمة في ركن الإمامة التي تمثل لدى أهل الشيعة ركنا من أركان الإسلام، ومن لم يؤمن بها، فهو كافر يستحق القتل. والغريب في الأمر أنه إذا كان أهل السنة "مشرفين" على الكعبة الشريفة وعلى المدينةالمنورة، فإن أهل الشيعة تمكنوا، بفضل دهائهم، من إعادة الاعتبار إلى حج الشيعة للعتبات المقدسة، التي باتت تجمع إحياء المناسبات الدينية الملايين من حجاج الشيعة للبكاء على استشهاد سيدنا الحسين عليه السلام وضرب أنفسهم وجلد ذواتهم، ليحولوا مثل هذه المناسبات الحزينة إلى المزيد من تقوية الحالة الروحية التي في الوقت الذي تستثمر هذا المخزون الروحي تعمل على توظيفه في معركة بناء المشروع الشيعي ومحاربة كل الأعداء، وعلى رأسهم التيارات الإرهابية التي تهدد النموذج الشيعي ب"التفسيق" والتكفير والقتل. والمهم في هذه النقطة بالذات الانتصار الإيراني بجمع شمل الشيعة ضمن النموذج الديني الغارق في العصبية المذهبية، بكل ما تحمل من ولاء ديني للمرجعيات المقدسة وللأعتاب الشريفة، مقابل فشل الدولة العربية في استيعاب الأقليات الشيعية من موقع المواطنة كأقليات مذهبية. 3- الدعم الإيراني للنظام السوري أنقذه من الانهيار، وذلك بتوظيف حزب الله ووقوفه إلى جانب بشار الأسد باسم الدفاع عن خط الممانعة، ضدا على كل التهديدات الخارجية، والتي على رأسها التيارات الإرهابية المدعومة من قبل السعودية وحلفائها. والخطير في الأمر أن حزب الله كان يسوق لرمزية في الأمة باعتباره حزبا إسلاميا يخدم الأمة الإسلامية بدفاعه عن القضية الفلسطينية، ويواجه إسرائيل باعتبارها العدو رقم واحد للأمة، غير أنه سيتحول بقدرة قادر ليكشف عن وجهه الطائفي وخدمته مباشرة للسياسة الإيرانية، التي تعتبر خسارة النظام السوري خسارة للمصالح الشيعية في المنطقة، وبالتالي فدعم هذا النظام الإجرامي دعم للمشروع الشيعي في المنطقة. والكارثة أن يتم التنازل عن التاريخ الرمزي لحزب الله الذي رفعت أعلامه في كافة التظاهرات الداعمة للمقاومة ولخط المقاومة، على خريطة دول العالم العربي والإسلامي. ولعل أهم نقد وجه لحزب الله لم يأت من باقي المدارس الإسلامية، وإنما وجهه الأمين السابق لحزب الله صبحي الطفيلي، والقاضي بأن أكبر خطأ للسياسة الخارجية لحزب الله قبوله الانخراط في المشروع الإيراني على حساب الرمزية التاريخية باعتباره حزبا وطنيا، وهذه المصيبة هي التي تعكس خطورة التهديد الشيعي لدول العالم الإسلامي، والذي مفاده أن ولاء الشيعي إنما هو بالدرجة الأولى للمرجع الأعلى آية الله الخامنئي، وبما أن المرجع معصوم فكلامه فوق الاجتهاد المقدس الذي يورث الحكمة بالاتصال المباشر مع الله تعالى وفقا للمقامات العرفانية للإمام المعصوم. ولعل أخطر إشارة في تحول حزب الله إلى العمالة المذهبية للسياسة الإيرانية الخارجية انتقال الحزب من مرحلة الحكمة السياسية، التي كانت مبنية على كون جمع الأمة الإسلامية رهين بتوحيدها لمواجهة المعركة الحاسمة الممثلة في وضوح خريطة الصراع ضد العدو الإسرائيلي، باعتباره العدو المركزي، إلى مرحلة التوظيف الإيديولوجي، حيث سقوط الأقنعة الطائفية عن حزب الله ليعبر بوضوح عن حقيقته العقدية وروحه المذهبية، ولو أدى الأمر إلى فقدانه لذاكرته التاريخية ولأولوياته السياسية. وفي هذا السياق، لو أراد حزب الله أن يحافظ على رمزيته داخل الثقافة السياسية للأمة بكل ما تفرض الحكمة السياسية، لخرج من المستنقع السوري، ودافع عمليا عن حق الشعوب في الدفاع عن اختياراتها بكل حرية ولو من باب الديمقراطية وحق تقرير المصير، أما أن يصطف سياسيا مع النظام باسم محاربة الإرهاب والتيارات الوهابية، فالتاريخ سيسجل أن حزب الله فشل أخلاقيا في الدفاع عن المستضعفين وعن حقوقهم الشرعية في مقاومة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، بل سقط في أول امتحان حضاري للاصطفاف الأخلاقي بجانب ثورات الشعوب المقهورة. لقد كان بإمكان حزب الله، لو فكر بحجم الانتماء للقضايا العادلة للأمة الإسلامية، أن يصبح حزبا رائدا لكافة القوى السياسية، ونموذجا يحتذى لكل المناضلين الشرفاء باختلاف مذاهبهم العقدية وطموحاتهم السياسية، ولكن السقوط في الامتحان السياسي بتغليب العقيدة الطائفية المذهبية على الانتماء الحضاري للأمة جعله، عن غير وعي، حزبا طائفيا، يدفع كل الدول إلى الخوف من شيعة العالم لأنهم في أي لحظة يمكن أن يتحولوا إلى أدوات قاتلة في يد سياسات إيران التي انكشفت شعاراتها الخداعة في التقريب بين الأديان والحوار بين المذاهب، وفضحت ألاعيبها التي كانت تنشرها بالعناوين الحضارية الكبرى باسم الدفاع عن القضايا الحضارية للأمة الإسلامية، لنجد أنفسنا أمام نموذج مذهبي غارق في الروح الطائفية والولاء التام والمطلق لولاية الفقيه، لا تهمه سوى خدمة مصالح مراجعه الدينية، حتى لو أدى الأمر إلى فقدان تاريخ تعاطف الشعوب مع خط الممانعة ورموز المقاومة. وبناء على هذه المعطيات، سواء المتعلقة بالمتغيرات الدولية حيث رجوع السياسة الإيرانية إلى الساحة العالمية باعتبارها فاعلا قادرا على مواجهة الإرهاب، كما تقدم نفسها للعالم، وخصوصا إثر نجاح التنسيق الإيراني السوري لإنقاذ نظام الأسد، أو المعطيات الإقليمية الخاصة بخروج حزب الله للمواجهة العسكرية المباشرة في الساحة العراقية واليمنية والبحرينية، فإن موافقة المغرب على اعتبار حزب الله تنظيما إرهابيا له دلالاته، خصوصا عندما نستحضر ضغط التحالفات الإقليمية التي تفرض على المغرب ضرورة الاصطفاف السياسي ضد المعسكر الشيعي، بحكم المصالح الاقتصادية والإستراتيجية مع المحور الخليجي. ولفهم الموقف المغربي أكثر، لا بد من تسليط الضوء على تاريخ العلاقة الصدامية مع إيران، حيث اعتبر الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله الخميني رجلا كافرا إبان مرحلة تصدير نموذج الثورة الإيرانية الخمينية، أما في عهد جلاله الملك محمد السادس فيكفي التذكير بإغلاق السفارة الإيرانية بالرباط لاستيعاب خصوصية التخوف المغربي من الاختراق الشيعي، لكون هذا الأخير يستهدف الساحة الدينية المغربية من خلال خلق أقلية شيعية تتحول مع الوقت إلى أداة من أدوات التحكم الإيراني في الخريطة المذهبية، الشيء الذي يضرب الوحدة المذهبية المغربية ويفرز قيادات شيعية تتعزز بتبعيتها لمرجعية الولي الفقيه بشتى الوسائل حتى ولو أدى الأمر إلى توظيف القضية الوطنية والتحالف مع الدولة الجزائرية لدعم الأقلية الشيعية. والغريب في الأمر أن هذه السياسة الإيرانية اليوم لم تعد سرية، بل إن آخر خطاب سياسي لزعيم حزب الله صرح فيه، ردا على اتهام حزبه بالإرهاب، بأنه هو المدافع الأول عن مصالح الأمة ومواجهة إسرائيل، وبالتالي فدخوله إلى سوريا، إنما تم بالدرجة الأولى دفاعا عن المقدسات الشيعية والمزارات الشريفة والعتبات المباركة، بخلاف دخوله وتنسيقه مع الدولة العراقية لمواجهة المد التكفيري الإرهابي، غير أنه من الملاحظ أن خطابه كان ضعيفا في قضية تبريره دخول حزب الله إلى سوريا، مما يؤكد الخلفية الطائفية التي تتحكم في عقليته التنظيمية. وعليه، فإن اتهام حزب الله بالإرهاب إنما يقصد منه توجيه رسالة مفادها الاصطفاف السياسي مع المعسكر السني، لأنه إذا كانت قوة حزب الله سابقا تتمثل في رفض منطق تقسيم الأمة على ضوء المذهبية، فإن نقطة ضعفه اليوم خدمته للإستراتيجية الإيرانية القائمة على التقسيم المذهبي والميولات العقدية، الشيء الذي سيقزم خريطة المساندة الطائفية والتأييد الشعبي لحزب الله، مما سيؤدي إلى نتائج وخيمة على الخريطة المستقبلية للتيارات المذهبية في الأمة، حيث سيكون المستفيد الأول من الصراع المذهبي والصدام الطائفي دولة العدو الصهيونية التي انتصرت بتحويل حزب الله إلى العدو رقم واحد المهدد للأمن الروحي والمذهبي للأمة الإسلامية. هذه الخلاصة كان حزب الله يحاربها لسنوات طوال لأن كل خلل في أولويات المعركة سيدفع إسرائيل إلى الاستفراد بإبادة فلسطين على أساس أن الأمة الإسلامية بكافة مكوناتها المذهبية مؤهلة نفسيا للاقتتال المذهبي بحكم السنوات الطويلة من التربية على حالة التكفير النفسي والعقدي للآخر المذهبي، بحيث إذا كانت الشيعة تربي أبناءها على الطهارة العقدية باعتبارهم المذهب العقدي الحقيقي الذي يمثل الإسلام، فإن النموذج السعودي ظل هو الآخر لسنوات يربي أبناءه على تكفير الشيعة لأنهم يسبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرفون القرآن الكريم. وبما أن التكفير هو المادة القابلة للانفجار، فإنه لا يمكننا سوى التنبؤ بكون خريطتنا الجغرافية ستكون مستقبلا أرضية لمعارك طائفية، لكي يتم تقسيم الدول على أسس عرقية وطائفية، في انتظار الوصول إلى مرحلة المواجهة المباشرة بين النموذج الشيعي بقيادة إيران، والنموذج السلفي بقيادة السعودية، هذا إذا لم تنتج الأمة النخبة المثقفة الحكيمة لإعادة بناء العقلية الدينية بناء حضاريا قائما على ضوء القيم الأخلاقية واستشعار المسؤولية العمرانية والوعي بطبيعة التحديات الحضارية، بعيدا كل البعد عن العقلية الطائفية كأنموذج معرفي للانتماء الديني والمذهبي. *جامعة محمد الخامس بالرباط