إن معالجة ظواهر التكفير والتطييف والإرهاب والتطرف الديني - وغيرها من الظواهر المرضية التي أصابت الأمة الإسلامية في مقتل - من القضايا المعقدة التي احتار فيها العلماء والخبراء والساسة على حد سواء؛ فمنهم من يرى أن الحل يجب أن يكون أمنيا صرفا، ولكنه – رغم ضرورته من وجهة نظرنا – يظل حلا قاصرا، ومتواضع النتائج، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمعتقد قد يموت المتطرف من أجله. لذلك فقتله - في هذه الحال - تحقيق لحلم كان يراوده طوال عمره، أي حلم الشهادة في سبيل الله حسب اعتقاده. ومن جهة ثانية هناك من يرى أن الحل يكمن في مواجهة تلك الأمراض فكريا بمشاركة العلماء وغيرهم من الخبراء، وهذا أيضا يبقى حلا قاصرا لأن هذا المتطرف متوجس أصلا من علماء يراهم – بحسب اعتقاده - موظفين رسميين لدولة فاسدة مارقة بعيدة عن شرع الله، فكيف سيقتنع بكلامهم من تلك حاله ؟ . لتلك الأسباب وغيرها يعجز الجميع عن تقديم حلول حقيقية تستطيع القضاء على تلك الأمراض نهائيا، أو أن تقلل منها على الأقل . وهذا العجز يؤكده الواقع المعيش؛ إذ عوض انحسار تلك الظواهر تبدو أنها في ازدياد وتمدد كبيرين. وهي نتيجة طبيعية ومتوقعة – في نظرنا – ما دام الجميع لم يلامس بعد الخلفيات الحقيقية لتلك الظواهر، ومادام لم يتوصل بعد إلى المنابع الحقيقية لها لتجفيفها. لذلك فإن رصد جذور الظواهر السابقة ومنابعها، وأسبابها المباشرة، وغير المباشرة، وتمظهراتها، ومواطنها، وآثارها إن على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة، مما لا ينبغي تأخير بيانه عن وقت الحاجة إليه كما يقول العلماء، خصوصا وأن نتائج تلك الأمراض كارثية على أمة الإسلام ماضيا وحاضرا: بدءا من انتشار الأحقاد والضغائن، وتبادل للألم عبر محطات تاريخية على امتداد أطراف الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي. ومرورا بما عكسه كل ذلك من انفراط المسلمين عن عقد الحوار الداخلي، وعقد التواصل الحضاري السليم اتجاه الحضارات الغيرية، الذي فرضه مبدأ الوسطية الذي هو الغاية والمقصد من ائتمان هذه الأمة على باقي الأمم . ووصولا إلى ما أحدثه ذلك أيضا من استعداء الغرب المسيحي، والصهيونية العالمية؛ حيث استغلوا ذلك، وعاثوا فسادا وتمزيقا لوحدة المسلمين، وبرروا تدخلهم المباشر وغير المباشر في صنع السياسات المختلفة داخل بلدان الدول الإسلامية، ونهب خيراتها وثرواتها، بوجود التطرف والإرهاب العابر للقارات . ومن ثم فمن البديهي أن يؤدي كل ذلك إلى تأخير وتيرة التطور العلمي والحضاري للأمة الإسلامية؛ فعندما تنفرط هذه الأنا عن ضوابط الوسطية، وشروط التواصل الحضاري، وأوامر التوقيع عن رب العالمين . فإن ذلك سيؤول عليها بآثار سلبية عكسية، ستؤسس لا محالة لأعراف ومناهج غير سليمة في تأطير الفهم الديني، والتسيير الاقتصادي والسياسي والحضاري للعالم الإسلامي الذي هو منطلق الرسالة الحضارية للأمة . ولذلك يبقى الوقوف على هذا الإشكال العويص، وإفراغ الجهد في هذا الموضوع المعقد من الأمور المستعجلة والآنية للأمة، بحثا عن حلول جذرية وحقيقية وموضوعية، تكون بحجم الداء، وبمستوى ما يتطلبه تحدي التكفير والإرهاب. إن ما نلامسه عند بعض أصحاب النيات الصادقة من نقد خفي للفكر العقدي عموما – وللفكر العقدي السني على وجه الخصوص – يكاد يكون دون جدوى، وعديم الفائدة؛ ذلك لأن الجميع يحاول معالجة الأعراض عوض العمل على إتلاف الجذور المنتجة لها، مادام أولئك يفكرون بعقلية عدم إغضاب أرباب المذهب و"سدنة المعبد"، و لا يسمون المسميات بأسمائها الحقيقية، خوفا من غضب التاريخ "المعصوم في نظرهم". أو استحضارا منهم لحسابات مذهبية وسياسية معروفة أو مجهولة؛ كالتي ترى أن المساس بذلك التاريخ "السني" خط أحمر، إذا فتح فإن الجميع سيغرق في طوفانه العارم، إذ سيصبح كل شيء قابلا للنقد، مما سيفتح الباب أمام انتقاد الوحي نفسه. وكأني بهؤلاء يظنون أنهم قد كلفوا بحفظ الكتاب، وقلبوا قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، إذ اعتقدوا أنهم هم الحافظون له نيابة عن رب العالمين . ومن جانب آخر قد تجد تبريرات آخرين توحي بخوفهم المبالغ فيه على وحدة المسلمين التي تفترض عقولهم استمراريتها في حاضرنا، بينما هي في أرض الواقع لا وجود لها البتة، وتلك الوحدة المفترضة "لجماعة المسلمين" في نظرنا من المفاهيم التاريخية التي لازالت تمارس سحرها وسلطتها على العقول، وهي بدورها تحتاج إلى نقد وإعادة فهم وتجديد. وفي نظرنا يبقى الدافع الحقيقي لأولئك هو خوفهم اللامعقول من تضرر بعض الأنظمة الإسلامية المعاصرة إذا فتح الماضي بالشكل الذي سنقترحه هنا؛ إذ ستنهار معه الكثير من المرتكزات التي تعول عليها بعض الأنظمة المذهبية والطائفية في بسط سلطتها وتحقيق شرعيتها، وبانهيارها ستنهار معها السلطة العلمية التي اكتسبها أولئك من تقربهم من أصحاب القرار السياسي، مما يعني ضياع مصالحهم المرتبطة أساسا بضرورة استمرارية ما هو كائن واستقراره. ومن جهة ثالثة فإن ما نراه أيضا عند البعض ممن دفعته غيرته على أمته فشارك و كتب عن ضرورة التقريب بين المذاهب، ودافع بنية صالحة عن قضية المصالحة والحوار الداخلي بين أطياف أهل القبلة - بغرض القضاء على التطرف والطائفية وغيرهما من الأمراض - لا يعدو أن يكون صيحة في واد؛ ذلك أن مسألة التقريب ليست مهمة يسيرة تتحقق بمجرد إبداء النية الحسنة، أو بمجرد السير في الطريق الذي رسمه بعض الساسة، أو بعض المذهبيين المتعصبين، الذين روجوا لمسألة التقريب ليقتاتوا سياسيا على تلك القضية، كما يقتاتون على قضايا المذهب وشعاراته العقدية الطائفية. ولم ينتبه أولئك أنهم قد سقطوا في فخ الموظفين للعقيدة - سياسيا ومذهبيا - بعلم أو بغير علم؛ إذ سرعان ما يستغل ذلك السياسي المهتم بمصلحته الشخصية، أو ذاك المتعصب الغارق في المذهبية مؤتمرا للتقريب - أقيم في بلاده – ليبعث برسائل معينة للداخل والخارج، فيروج أنه من دعاة التقريب والحوار ومن رواده . وأنه قدم المستحيل من أجل جمع شمل الأمة. في حين يتهم الطرف الآخر المخالف بأنه هو من يعرقل تحقيق التقريب . وبعد انتهاء المؤتمر يشرع مباشرة في قتل الأبرياء تحقيقا لأطماعه، أو مصالح مذهبه الذي يعبده من دون الله . إن حوادث التطرف المعاصرة ما هي في حقيقتها إلا انعكاس لعدم شفاء جسد الأمة من جراحات الماضي المؤلمة؛ ومادام الأمر كذلك فلن تعالج إلا باتخاذ موقف سليم واضح من حوادث التاريخ، ومن مسببي آلامها، ومن ضحاياها، أما أن يحاول البعض معالجتها بالتمتمة عند ذكرها، متوجسا من الغوص في تفاصيلها، فهذا أمر لا يمكن أن يحقق شيئا ذا بال . لذلك وجب الرجوع إلى التاريخ للبحث عن جذور مشاكلنا لاستئصالها عن آخرها، إنقاذا لحاضرنا من ماضينا؛ فما نعانيه اليوم – في نظرنا – هو استمرار للأمراض التاريخية ذاتها ، ولذلك فإذا لم نفهم ما هي التصورات والمعتقدات التي توجه ذلك المتطرف الطائفي الإرهابي . وإذا لم نكتشف كيف يجعله ضغط التاريخ مسلوب الإرادة . وإذا لم ندرك ما هي تمثلاته للمفاهيم العقدية التي تسيطر على عقله فتجعله يقتل إخوته من المسلمين بدم بارد . إذا لم نستوعب كل ذلك فلا فرصة لنا أبدا في نجاح العلاج . ونحن نظن أن داءنا مرجعه إلى وجود وقائع سياسية تاريخية، نجمت عنها مواقف وأحكام لخصت في مفاهيم وألقاب عقدية معينة، وأدت إلى نتائج وخيمة، وأحداث قتل رهيبة، وحوادث إقصاء ممنهجة، إذ أن خلط الساسة بين العقيدة والسياسة مشكل تاريخي ضبب علينا رؤية الحقيقة كما هي، ذلك لأنهم لم يكن أمامهم لتحقيق مآربهم السياسية إلا نهج هذا السلوك، فحققوا بذلك مقصدهم، لكنهم ألبسوا علينا فهم ديننا وعقيدتنا، ووضعوا حجر الأساس لصراع سياسي لبس لباس العقيدة في كل فترات تاريخ المسلمين. لذلك نعتقد بأن حوادث التاريخ المتقدمة هي نفسها التي تطل علينا برأسها كل يوم لتسيطر على عقول المتطرفين منا، فتقودهم وتوجههم وتفتيهم بما يجب عليهم أن يفعلوه. اعتقادا منهم أن ما فعله الأجداد بخصومهم من عقيدة السلف التي لا تقبل المساومة، ولا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف، بل يجب إعادة تمثيل تلك الحوادث التاريخية كما يمثل المجرم حيثيات جريمته أمام الأمن، كل ذلك تحت تخدير سحر مفهوم "اتباع منهج السلف"، الذي هو مفتاح اكتساب شرف الانتساب إليهم. إن التباس الفهم للمنظومة العقدية لدى الأطياف الدينية في العالم الإسلامي المعاصر مرجعه إلى أن المعاصرين يستعيدون ذلك اللبس عن المذاهب القديمة الشاذة في ادعاء الحقيقة، كشذوذ احتكار الانتساب إلى "السنة والجماعة" أو"الفرقة الناجية" أو "آل البيت" أو غيرها من الألقاب العقدية التي يشرع القتل والإرهاب باسمها. فنتج عن ذلك جنوح الكثير من الشباب المسلم نحو التطرف والتكفير والإرهاب، وإباحة الأنفس والأموال والأعراض التي حرمها الله إلا بالحق؛ إذ تجد الفهم السني المنفرط يكفر فريقا من السنة سلطة ومجتمعا، ناهيك عن تكفيره للشيعة وغيرهم. كما تجد أيضا الفهم الشيعي المنفرط يكفر بعض الشيعة سلطة ومجتمعا، ناهيك من غيرهم . فأدخلوا - باعتقاداتهم تلك - الأمة في احتقان وتشتت لم يسبق إليه على مر التاريخ. بينما يخفى عن المتطرف - من الطرفين الشيعي والسني وغيرهم - ما قد تضمره كتب الأجداد عن صراعاتهم الدموية، وأعني بذلك احتمالية التسييس لتلك الحوادث والأحكام التي تلخصها المفاهيم العقدية للسلف بغرض الفتك بخصومهم السياسيين. أو - كأخف الظنون - احتمالية تسرب الحسد والتنافس حول كسب المواقع والأنصار، فمرض حسد الأقران تشهد له الكثير من قرائن التاريخ سنذكرها في حينها، ونتيجة لأن أولئك المتعصبين يعصمون أجدادهم من كل نقص أو عيب بشري، فهم لا يقبلون حتى من يشير لهم باحتمالية إصابة سلفهم "بغفلة الصالحين"، التي قد تصيب أقواما صالحين فتجعلهم يصدقون ما يرويه لهم بعض الساسة عن ظروف فتكهم بخصومهم. لقد نتج عن ذلك التقديس للسلف أن جعل المتطرف مواقف وأحكام سلفه ضد خصومهم لب العقيدة التي يكفر من شكك فيها . فلو سألت الإرهابي المتطرف عن سبب قتله للناس في حاضره هذا، لأجابك هكذا فعل أجداده بأمثالهم؟ ولو سألته عن دوافع ما فعله الأجداد، لأجابك بكل طمأنينة ويقين أن صراعاتهم وخلافاتهم كانت عقدية لا غير ؟ أي أن نزاعهم ذلك منزه تماما عن التسييس أو الخطأ أو الحسد، فهو – إذن - صراع بين أهل الحق وأهل الباطل، بين فرقة يظنها "ناجية" كما كان يظنها أجداده كذلك، وأخرى هالكة ضالة مبتدعة، وهو بذلك يكرر ما قرأه في كتب الأجداد، ويقيس تاريخا وأشخاصا معينين بما يراه في حاضره، دون أن يكلف نفسه عناء كشف ما قد يكون مغيبا في كتب الأسلاف. من هنا إذن وجب أن يبدأ من أراد حل معضلات التكفير والطائفية؛ أي أن يدقق ويحقق لكشف حقيقة أحكام التاريخ السياسية - العقدية وما نتج عنها من تصنيف للمسلمين تحت ألقاب عقدية قدحية تبيح قتل المعارض أو نفيه أو محاصرته. وبعد التحقيق والتمحيص يجب على الباحث النزيه أن يتخذ موقفا منصفا موضوعيا حياديا من حوادث التاريخ، خاصة من تلك التي قد تكشف حقيقتها القرائن والأدلة في أول جلسة استماع. ويبقى هدفنا من كل ذلك أن نعيد قراءة أحداث التاريخ بحثا عن الحقائق لا الإدعاءات، ثم ندمج تلك الحقائق المتوصل إليها في برامجنا الدينية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية والفنية وغيرها، فنؤسس لعقل إسلامي جديد بعد عملية متكاملة تستهدف تغيير القناعات والتصورات الخاطئة. هكذا ستتداعى من تلقاء نفسها الكثير من الألقاب والأحكام العقدية التي يستند عليها الإرهاب المعاصر لتبرير جرائمه. وهذا أمر ليس في متناول اليد، ونحن نعلم أنه يحتاج إلى إرادة سياسية واضحة، لكن لا ينبغي أن ننتظر حتى يقبله الساسة أو الغارقون في المذهبية، بل يجب علينا أن نقوم بدورنا في ذلك في انتظار من يكمل المشوار، وفي انتظار أن يأتي يوم تتعلم فيه الشعوب الإسلامية – بعد أن تذوق ويلات صراعاتها الطائفية - أنه لا انفكاك لها من قيود الإرهاب والتكفير والاقتتال إلا بسلوك هذا الدرب، وسيأتي يوم – لا محالة - يتعلم الجميع أنه الحل الوحيد الناجع إن أرادوا العيش في أمن وسلام عوض الاقتتال الطائفي الرهيب . إنها عملية مركبة - إذن- يتكامل فيها الديني والسياسي والتربوي والتعليمي، منطلقها التشكيك في العديد من الروايات الرسمية لحوادث الإقصاء والقتل السياسيين للكثير من العلماء المعارضين في تاريخ المسلمين، مما سينتج لنا تصويبا للكثير من الألقاب والمفاهيم والأحكام والعناوين العقدية التي نجمت عن تلك الحوادث التي كان من المطلوب – في نظرنا- ترقيتها إلى حدود الجرائم السياسية، لا أن يتم تبريرها دينيا، والتغطية عليها بغطاء الانحراف عن العقيدة الصحيحة؛ إذ العقائد المنحرفة حسب منطوق الوحي، وحسب سيرة المصطفى عليه السلام، تواجه بالفكر لا بالسيف، ولذلك نظن أن نقاد وعلماء وكتاب "الملل والنحل" في كتبهم التي تحمل في طياتها مفخخات عقدية تنفجر علينا كل يوم لم ينتبهوا - لسبب من الأسباب - إلى الدافع السياسي الذي قد يكون وراء الكثير من الأحكام العقدية ضد الخصوم، فأورثونا تبريرات عقدية في ظاهرها مسيسة في باطنها جيلا بعد جيل، حتى أصبحت تلك التبريرات مسلمات "عقدية" يكفر من شكك فيها. ونحن هنا ندعو لمراجعة شاملة لكل محاكمات التاريخ المسيسة، ولا نقصد هنا فقط أحداثا بعينها كالتي تعلقت بآل البيت، بل نقصد كل المحاكمات التي تعلقت بزعماء طوائف أهل القبلة، لنكتشف ما كان منها عقديا صرفا، وما كان زعما ووهما، وهذا لا يعني تزكية القتل ولو كان بدافع عقدي واضح لأنه أمر في نظرنا يتناقض مع قوله تعالى: " قل فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر" كما يتناقض مع قوله سبحانه: " لا إكراه في الدين" ، كما أنه يتناقض مع سيرة المصطفى التي لم يثبت فيها أنه قتل مخالفا لمجرد ضلاله العقدي. فبداية التصحيح عندنا نحن "أهل السنة" لا عند غيرنا لعدة اعتبارات؛ أولاها لكوننا نحن الطائفة الأكبر في العالم الإسلامي، فالأخت الكبرى يجب أن تكون متسامحة ومبادرة للصلح مع أخواتها الصغيرات، وثانيها أن تخوفنا على مذهبنا سيكون أقل من تخوف الآخر على مذهبه، لأن المذاهب الأخرى لا تعدو أن تكون أقليات يسهل ابتلاعها من طرف الأكثرية السنية متى شاءت، وثالثها لأننا نحن السباقون لظلم غيرنا عندما جعلنا أيدينا في أيدي من ارتكب خطأ الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم. أما إذا لمناهم على الخروج فيجب أن نلوم أئمتهم كالحسين رضي الله عنه ، وإذا لمنا أئمتهم فيجب أن نلوم معاوية - رضي الله عنه - كذلك لأنه أول من سن الخروج على الأئمة الشرعيين. ورابع تلك الاعتبارات أنه يجب التماس العذر للمتواري عن الأنظار، إذ أن اشتغاله في الظلام بعدما منع من حقه في ضوء النهار ، سيجعله حتما عرضة للكائدين للإسلام. وأخيرا لا ننسى أن أخطاء غيرنا تلك ما هي إلا ردود أفعال غير سليمة تجاه ما عانوه منا، ومن ساستنا وعلمائنا عبر التاريخ. لذلك وجب أن نكون أول من يبادر للصلح قبل غيرنا، كما يجب علينا تصحيح أخطائنا قبل مطالبة غيرنا بالتخلي عن معتقداتهم الباطلة. إن كشف حقيقة حوادث التاريخ يجب أن ترتكز على نصوص الوحي خصوصا تلك التي نظرت للأحداث السياسية التاريخية الكبرى التي ستمر بها أمة الإسلام، فبوصلتنا هي الوحي والاحتكام إلى وقائع وقرائن التاريخ، وشهادات المحايدين، لا أن نرتكز في بحثنا على محاضر الساسة، وتهمهم الملفقة، أو كتب من سار في دربهم من علماء خلطوا علينا فهم عقيدتنا بالمواقف السياسية ولوثوه. وغير هذا المنهج يبقى منهجا أبعد ما يكون عن الإنصاف والموضوعية. لأنه بدون التزام الحياد لن يتم تحقيق تلك المصالحة الشاملة التي نرجوها. وبغيابه لن نتمكن مطلقا من تجفيف منابع التطرف والطائفية والإرهاب؛ إذ العقل المسلم تشكل وتأسس في ضوء تلك الأحداث التاريخية، ومن ثم فما لم تتم خلخلة القناعات السياسية – العقدية - التي ينطلق منها الإرهابي فلن يتحقق شيء مما نصبو إليه. فقصدنا أعظم مما يرمي إليه البعض، إن قصدنا مما نقترحه من حلول هنا هو إقناع الطوائف الإسلامية الأخرى بجدية وضرورة انصهارهم في أمتهم والمساهمة في البناء الجاد لمستقبلها، لا أن نجعل ذلك ملهاة ومسرحيات، وإذا كان مطمحنا هذا مستحيلا في نظر البعض، فهو ما يعني أنه يحتاج لجهود أجيال كاملة: ذلك أن إزالة شكوك أتباع تلك الفرق فينا - التي يؤكد ظلمنا لهم ولقادتهم التاريخيين صحتها - ليس بالأمر الهين. ونحن نعلن منذ البداية أننا لن نتودد لأحد مهما كان، بل لن نشترط حضور أحد لمائدة الحوار أصلا، ولن نطلب مباركته أبدا، كما أننا لن نقيم مؤتمرا للحوار مع من يتاجر في الدماء، لأننا نعتبر كل ذلك ضياع لجهود الأمة وأموالها وطاقات رجالها، وهذا لا يعني أننا ضد الحوار - خصوصا مع الصادقين من كل الفرق - بل نحن من دعاته، ولن يمر يوم دون أن نعلن ذلك، لكننا مع ذلك نعتقد أن شروط الحوار لن تنضج إلا بعد عملية تصحيح شاملة من جهتنا: فخطتنا أن نسحب البساط من تحت أرجل المتطرفين من جهتنا نحن أهل السنة، ومن جهة الطوائف الأخرى، خصوصا فرقة "الشيعة" باعتبارها أكبر الفرق التي تحدت عوامل التعرية التاريخية. إن رؤيتنا لتجفيف منابع التطرف والطائفية وتفكيك آلياتهما تبتغي أن نجعل المتطرف السني والشيعي على حد سواء يفقد أسلحته التي يعول عليها لحشد الجماهير وتحقيق الاصطفاف الطائفي؛ فعندما يعول المتطرف الشيعي مثلا على شعارات الحسين سيجدنا من السباقين لمناصرة الحسين – في وسائل إعلامنا ومدارسنا ومساجدنا وغير ذلك- حقا وصدقا دون ضرب للخدود، ولا شق للجيوب، وهو ما سيصعب على الطائفي تماما خطة حشده للأتباع، حيث سيفشل - بعد إصلاح أخطائنا تلك - في أن يقنع أحدا من طائفته بأننا نواصب نكره آل البيت؟ وعندما نفشل خطته تلك سيلتحق ذلك المتطرف الطائفي مكرها بطاولة الحوار، أو يحكم على نفسه بالعيش وحيدا خارج التاريخ. ومن جهة أخرى عندما نعيد قراءة أحداث التاريخ، وكشف مؤامرات الساسة في بث التفرقة بين المسلمين، سنبطل شعارات المتطرف السني التي يعول عليها في حشده للأنصار . فسحب البساط من تحت أرجل المتطرفين في نظرنا سيتم من خلال عملية مركبة مزدوجة تهدم كل ما بنته كل فرقة من شعارات عقدية مذهبية من أساسها، كما تهدم ما بناه ساستنا وعلمائهم وسوقوه للأجيال على أنه عقيدة إلهية نظيفة، وهي في حقيقتها عقيدة مشوهة ومختلطة بالدوافع والأحكام السياسية والمصالح الشخصية والمذهبية. وما دمنا الآن قد حددنا الداء وأشرنا بإيجاز إلى الدواء، فلابد لنا أن نقدم أمثلة لتلك الحوادث التاريخية وطريقة تفكيكها وهذا ما سنتطرق له في الأجزاء المقبلة من هذا البحث.