تقرير رسمي يرصد تطور أسعار الاستهلاك في مدن شمال المغرب خلال أكتوبر 2024    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    تقرير إخباري: العدالة الدولية تلاحق "أصدقاء الغرب" وتكسر حصانة الكيان الصهيوني    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التَّطرُّف.. أو التأويل في مداه «الأقسى» للنص الديني !
النصوص والمعتقدات الكبيرة تحتاج إلى عقول ومعارف تفتحها على الاختلاف وانشراح الفكر والرأي
نشر في المساء يوم 01 - 04 - 2015

بات التَّطرُّف الديني من المُعضِلات الكبرى التي تَقُضُّ مضاجع البشر في كل مكان من الكون. فالتطرُّف كان موجوداً، ورافق الإنسان عبر تاريخ وجوده، وكان يَتَّخِذُ تعبيرات وأشكالا مختلفة. لم يكُن التَّطرُّف خاصّاً بالدِّين وحده، أو ارتبط به دون غيره. ففي اليمين كان هناك تطرُّف، ولا يزال موجوداً، وفي اليسار كان هناك تطرُّف، ولا يزال موجوداً، لكن، اليوم، أصبح التَّطَرُّف لصيقاً بالدِّين، أو بتعبيراته الدِّينية، أكثر من غيرها من التعبيرات السياسية والاجتماعية.
ثمَّة كثير من الأسباب ساهمت في انتشار الفكر التكفيري المتطرف، الذي لا يقبل الاختلاف، ولم يَتَربَّ على الإنصات، والاستماع، أو على الحوار، ومقابلة الرأي بالرأي، والحُجَّة بالحُجَّة، بينها ما كان تاريخياً محضاً، وبينها ما كان نتيجةَ الإفراط في تأويل النص الديني، وفهمه في صيغته السطحية المُباشرة، دون الوعي بما تحتمله النصوص الدينية من قراءاتٍ تحتاج إلى عقلٍ كبير، ومُنْشَرِح، ومُفتوح على المعارف، وعلى ما تختزنه اللغة، في نفسها، من قابلية للمُراوَغَة، وأيضاً، سياقات النص، أو أسباب نزوله، والظروف التي أنْتَجَتْه، لتكون القراءة والتفسير أيضاً كبيريْن.
لا يمكن حَصْر هذا المَيْل الدَّمَوِيّ لِقَتْل المُخْتَلِف، فقط، في هذه الأسباب، أو في غيرها مما يرتبط بنا نحن، كعرب ومسلمين، بل هناك عوامل أخرى لا دَخْلَ لنا فيها، كان لها دور في إنتاج هذه البضاعة وتسويقها، وفي تفريخ كل هذا العُنْف والقَتْل، واستباحة دماء الناس، أو حَرْقِهِم، وقطع رؤوسهم، خدمة لأغراض إيديولوجية، لا علاقة لها بالدين. فالدين، كما اسْتَعْملْناه نحن، لِنُخْرِس المُخْتَلِفين معنا، ولنعتبر حُجَجَهُم كافرةً، أو تحمل في طياتها بذور الزندقة والكُفر والمُروق، استعمله الغرب ليضعنا في مفترق الحضارة، أو ليخرج بنا منها، ويدَّعِي حمايتنا، وحماية نفسه من الإرهاب، والتَّطَّرُّف، ومن الهمجية، وتخلُّف العقل، واندحاره.
يَدُ الأنظمة العربية كانت طولى، وقد استعملت كل الأنظمة، بدون استثناء، الدِّين كوسيلة لتمديد عمرها، ولِمُحاربة «الشيوعية»، وتطرُّف اليسار، كما يذهب إلى ذلك الشاعر البحريني قاسم حداد، فهي عملت، من خلال هذا السلوك، على خلق تَطَرُّف لِمُحاربة ما اعتبرتْه تطرُّفاً، كان، كما ادَّعَتْ باستمرار، لتبرير عنفها، وما أزْهَقَتْه من أرواح ودماء، تُدافِع عن نفسها، وتحمي عُروشَها! فهذا حدَث في المغرب، حين تَمَّ إقصاء الفلسفة وعلم الاجتماع، أي إقصاء العقل والبحث والتَّقَصِّي، مقابل استحداث شُعَب للدراسات الإسلامية، بالصورة التي جعلت هذه الشُّعَب تكون خارج المناهج والمفاهيم، والعلوم الحديثة، مما دعا إلى ظهور كثير من الانحرافات في التفكير، وفي مُصادرة الفكر النقدي، ومُصادرة الرأي الجريء الذي يدعو إلى المراجعة، وإعادة النظر في المُكتسبات، والمُسَّلمات. فكما سيتم الارتياب من الجابري، واعتباره مفكراً حداثياً متنوِّراً، سيتم الارتياب من فكر العروي والخطيبي ومحمد سبيلا، وغيرهم ممن كانوا يبحثون في الماضي، أو في الحاضر، بعيون مفتوحة، وبنظَّاراتٍ زُجَاجُها شفَّاف، فيها ما يكفي من بُعْد النَّظر، مما لا يمكن أن نجده عند غيرهم، ممن اكتفَوْا بالماضي مُغْلَقاً، مليئاً بالسَّواد، أو بما توهَّمُوه، واعتبروه هو الماضي. وهو نفس ما سنجده في مصر على عهد السادات، وعلى عهد مبارك، وفي غيرها من جغرافيات الأنظمة الشمولية.
في هذا الملف، كل الأسباب، قاربها مغاربة وعرب، لهم رأي فيما يجري، ومنهم من هو مُتخَصِّصِ في الديانات القديمة، مثل الشاعر والباحث العراقي خزعل الماجدي، الذي أتاح لنا أن نعود إلى بعض مكامن الخلل فيما نحن فيه، لا فرق في ذلك بين ما للغرب من ذَنْبٍ فيما يجري، وما للعرب أو المسلمين من ذَنْب أيضاً. فثمَّة تاريخ لا يمكن تجاهُلُه في إضاءة مكامن هذا العطب الحضاري والثقافي الكبير، بما في ذلك تاريخ الاستبداد والقهر والقمع ومُصادرة الحريات.
هل نحن نعيش زمن التَّطرُّف الدِّيني؟ في منعطف العنف، والعُنف المُضاد؟ في هذه المتاهة التي لا تخرج بنا من مأزق حتَّى تَنْعَطِف بنا لغيره، مما لا يسمح لنا بالتفكير فيما علينا من واجب التَّحَضُّر، وواجب التآخي، والمُصافَحَة، والإنصات والحوار، دون تَشَنُّجات، أو رغبة في إقصاء وقَتْلِ «الآخرين»، ممن نعتبرهم غير داخلين في فكرنا، وفي ديننا، أولئك الذي ننظر إليهم ك»أهل ذِمَّةٍ» أو غنائم حُروب و»فُتوحات» أو سَبايا. فإمَّا نفرض عليهم إتاواتٍ، أو نفرض عليهم الدخول في هذا الدِّين، الذي نعتبره هو الدِّين، حتَّى لو كان إفراطاً في تأويل نصوص الدِّين، أو الاكتفاء ب»إمام» أو «أئمَّة»، كتاباتهم وفهمهم للنص الديني وشروحهم تستحيل عند هؤلاء إلى قرآن يُضاهي، ربما، كتاب الله نفسه، ويَحْجُبُه، ليصبح التأويل هو الدين، لا ما جاء به الدِّين نفسه.
حب الحياة، والرغبة في العيش بسلام، وفي وئام، والنظر إلى الإنسان باعتباره قيمة القِيَم، مهما كانت عقيدته، وفكره، ودينُه، واحترام حق الإنسان في الحياة، في الشغل، والسكن، والعيش، وصيانة كرامته، من الأمور التي باتتْ تكفي لإخراجنا من هذه المتاهة المُغْلَقَة، التي لا مَخْرَج لها، أو كل مخارجها متاهاتٌ تُفضي إلى غيرها من المتاهات التي لا تنتهي. فالديمقراطية، والحق في التعبير وفي الرأي، وتقاسُم الثروات، وإصلاح التعليم، وتطوير مناهج الدراسة، والانفتاح على الثقافة الإنسانية، وعلى تاريخ الكون، ومعارفه، هي، ربما بين ما يمكن أن يفتح في هذا السِّرْداب المظلم، المُغْلَق، كُوَّةَ ضوء، هي الشمس، حين تَشْرَعُ في الخروج من لَيْلِها، أو من نومها، وظلامها بالأحرى.
الجماعات التكفيرية وإدارة الفوضى
المختار بنعبدلاوي
أستعمل هنا مصطلح الجماعات التكفيرية، وليس الاسم الدارج الجماعات الإسلامية لأن أهم خاصية أصبحت تميز هذه الجماعات هي النزوع إلى التكفير. فعلى خلاف الحركات الإسلامية التقليدية، التي عرفها العالم الإسلامي حتى اليوم، والتي كانت تعمل على أسلمة العالم الإسلامي عن طريق التربية والتعليم، والوعظ والإرشاد المجتمعي، تعمل هذه الجماعات الجديدة من منطلق القطيعة والإقصاء. إن هدفها المعلن ليس «دعوة» أو نصيحة من يختلف معها، من داخل المجتمع أو الدولة، أو إصلاح من تعتبره منحرفا عن الدين الصحيح، بل الإقصاء والتكفير، وشتان هنا بين مقاربة تقوم على الجمع والتوليف وبين منطق التبديع والتكفير والاستحلال.
لقد قطعت الجماعات التكفيرية المعاصرة مع السمة الأساسية، التي كانت تميز المقاربة السابقة، بمقتضى الآية: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين»، وأصبحت بامتياز عنصرا أساسيا للتفكك الاجتماعي. إن العنف الصادم، الذي يبرز لنا من خلال الصور التي ينقلها الإعلام، بصفته السمة الأساسية لهذه الجماعات، ليس في الحقيقة إلا إحدى أدوات عملية التفكيك الاجتماعي التي تعتمدها. إن التفكيك يبتدئ منذ اللحظة التي تكفر فيها هذه الجماعات مختلف ألوان طيف العقيدة الإسلامية، وتعتبر نفسها وحدها الفرقة الناجية.
انطلاقا من هذا التمايز التأسيسي، الذي يستقيم منذ المنطلقات الأولى، تشرعن هذه الجماعات لنفسها حق ممارسة كل الفظائع القروسطية من تعذيب جسدي، وبتر للأطراف، وسبي واغتصاب واستعباد.
إن مزاعم الفهم الحصري للنص، واحتكار حق التأويل، ومصادرة الفتوى…هي سمات إضافية أخرى لهذه الجماعات، تتفرع عنها كل الحقوق المكتسبة التي تعبر عن نفسها في الممارسات سابقة الذكر.
ظهرت هذه الجماعات وتوسعت انطلاقا من دائرتين إسلامويتين :
الاتجاه القطبي، الذي تأسس وتوسع داخل مدرسة الإخوان المسلمين، قبل أن ينفصل عنها ويعبر، بعد ذلك، عن خطه السياسي الجديد، عبر تيارين أساسيين: «الجماعة الإسلامية»، بقيادة مصطفى شكري، و»الجهاد الإسلامي»، بقيادة عبد السلام فرج في مصر.
الوهابية التي بالرغم من التمييز الذي يقيمه الكثيرون بين شقيها «العقدي» (ما يسمى بالعلمي في أدبياتها) وتيارها الحركي، فإنهما في الحقيقة ليسا إلا وجهين لعملة واحدة. إن الفرق بين هاتين البنيتين كالفرق، تماما، بين حالة «النية في اقتراف الجريمة» و»الجريمة بعد اقترافها». إن الوهابية الحركية ليست في الحقيقة إلا التطبيق العملي للوهابية العقدية التي تفهم النص وفق سياقه التأويلي للعصر الوسيط.
تماما كما تصور أفلام الرعب عملية إيقاظ المسخ الراقد منذ مئات السنين، لمعت فكرة إيقاظ المسخ الإسلاموي عندما اتخذ القرار بإسقاط الاتحاد السوفييتي. عند ذلك؛ اشتغلت عدد من الأجهزة تحت إشراف إقليمي، عربي وغربي، من أجل إخراج النفوذ السوفييتي من إفريقيا وآسيا، ومحاصرة الاتحاد السوفييتي داخل حدوده الجغرافية.
لم يكن التغيير السياسي صعبا في إفريقيا بسبب قوة النفوذ الغربي، وكذلك بسبب استبداد الأنظمة الحليفة للاتحاد السوفييتي، التي كانت في معظمها أنظمة عسكرية. كان الوضع مختلفا في آسيا حيث بدت أفغانستان بصفتها بيضة القبان في عملية كسر التوازن القائم. ضمن هذه الاستراتيجية قامت دول المؤتمر الإسلامي في آسيا وإفريقيا، وبصورة خاصة المملكة العربية والسعودية وأفغانستان، بتعبئة كل ما يمكن تعبئته من الموارد البشرية لصبها في هذه المعركة الفاصلة، بصفتها معركة يجب أن تحظى بالأولوية لأنها معركة ضد الإلحاد والشيوعية. كما تم تقديم المقاتلين، الذين شاركوا في هذه الحرب، بأنهم الطليعة الأولى من المجاهدين الذين سيعيدون الإسلام إلى مجده الأول.
إن هذا المسخ الذي تم إيقاظه من غياهب الظلام للقضاء على الشيوعية هو نفسه الذي انقض على جسد العالمين العربي والإسلامي لكي يمزقه إربا. كان هذا المسخ عامل تعبئة في أفغانستان لأنه جمع القبائل نسبيا ضد «عدو مشترك افتراضي»، وعزل «الهازارا» في غرب البلاد لتحييد النفوذ الإيراني. أما في عالمنا العربي، اليوم، فيلعب دورا تفكيكيا أساسيا لأنه يحولنا من «أوطان» إلى «قبائل».
لقد استفادت الأجهزة الغربية من علاقاتها الطويلة في الشرق الأوسط، ومن الخرائط الإثنية التي اشتغل عليها خبراؤها، من أجل إيجاد المعادلة التي يمكنها أن تفكك المنطقة وتعود بها إلى العصور الوسطى، بكل ما يعنيه ذلك من مكاسب، سواء على مستوى أسعار الطاقة أو لوجستيك توزيعها أو مشاريع التسليح ومشاريع إعادة البناء.
ضمن هذه الاستراتيجية كانت الجماعات التكفيرية المفتاح السحري لتفكيك المنطقة، لأنها اعتبرت المواطنين المسيحيين واليهود مجرد أهل ذمة، يجب أن يدفعوا الجزية، واعتبرت النساء نصف المجتمع عورة يجب تبضيعها وإخفاؤها في البيوت، واعتبرت التعدد الثقافي الإسلامي الغني عبر التاريخ، من إمامية ومحكمة وإسماعيلية وحركات صوفية، كفرا وبدعة أصحابه يستحقون القتل والإبادة.
طبعا لا نستطيع أن نكتفي بلوم صانع القرار الغربي، واعتباره وحده مسؤولا عن مآسينا لأن رأس المال الفعلي الذي يستثمره صانع القرار هذا هو الجهل المطبق لمجتمعاتنا، وضعف بنيات الدولة ومؤسساتها، وفراغ المجال العمومي.
إن هذا المفتاح السحري، الذي مهد لتمزيق الاتحاد السوفييتي السابق، والذي سمي تارة ب»الجهاد الإسلامي»، وتارة ب»القاعدة»، وتارة ب»داعش»، وربما تكون هناك مسميات أخرى في المستقبل، هو الذي مزق العراق، بعد أن مهّد بريمر لذلك سياسيا بحل الدولة العراقية، وتشكيل مجلس الحكم، وهو الذي اختلق «الخطر الفارسي» بضرب العراق، وإبقاء الخطر الإيراني ماثلا لهش دول الخليج كما النعاج، وهو الذي زرع الفيروس الطائفي في سورية (مع تحمل النظام السياسي في سورية جانبا من هذا الوزر)، وهو الذي يهدد اليوم بالامتداد إلى الكيانات القطرية، وإرجاعها إلى طوائف وقبائل وعصب… وإقامة حاجز ثقافي حديدي بين إفريقيا المتوسطية، وإفريقيا ما وراء الصحراء، لتجسد إحدى أسوأ صور السخرية السوداء، وتكدير رغد العيش الغربي، حيث ينقلب الوحش على خالقه.
إن تسمية الدولة الإسلامية مجرد «لعبة أمم»… ف»داعش» لم تولد لكي تؤسس دولة، ولكن لكي تفكك الدول القائمة. إن قوة «داعش» الضاربة ليست «استيهامها» ردم الحدود بين العراق وسورية، وإعادة تأسيس دولة الخلافة، ولكن هذه القوة تكمن في بنيتها العنقودية، التي تمكنها من الانفجار في أماكن متعددة في نفس الوقت، وفي بيع «صكوك الغفران» و»مفاتيح الجنة»، بصفتها وكيل الله على الأرض، وخلق بؤر توترات مزمنة، مستجيبة للمسكنات، ولكن في الوقت نفسه، قابلة لانتكاسات مفاجئة، وحادة.
نحو صناعة الميثولوجيا الثقافية
عزيز الحدادي
«الوعي النقدي لا يمكن أن يسجن نفسه في معرفة التاريخ وقوانينه، وإنما ينبغي أن يتحول إلى تجربة في العذاب والمعاناة».
هوركهايمر
كلما بحثنا عن مخرج ينقلنا إلى بهاء الأمل ويحررنا من هذا العذاب الذي تفرضه علينا الهيمنة السياسية، وجدنا أنفسنا أمام استقبال ضرورة توجيه النقد الفلسفي التنويري نحو بناء ميثولوجيا ثقافية كمرحلة أولى، من أجل فسح المجال لاستقبال عصر التنوير، ذلك أن ما يجعل راهننا في حاجة إلى السماح للنقد التنويري باقتحامه وتطهيره من الانحطاط والانهيار، هو هذا التوجه السريع إلى الكارثة، التي يمثلها فقدان الثروة البشرية، حيث سيتحول إلى ثروة جهادية يتم استغلالها من قبل قوى الشر، فإلى أي أمل سنتوجه إذا لم نتوجه إلى أمل الفكر التنويري؟ وما الفائدة من السيطرة على الشعب بواسطة العقل الأداتي؟ ألا يعجّل هذا العقل بانهيار الأمة؟ بل أكثر من ذلك؛ ما هي الميثولوجيا الحديثة؟ ومن بإمكانه أن يصنعها؟.
من المحتمل أن تكون هذه الأسئلة تائهة في دروب الفكر، تبحث عن الحقيقة في فضاء ممتلئ بالأشباح المقدسة، يدير ظهره للفكر، ويصم أذنيه لكي لا يسمع نداء الحقيقة، باعتبارها نداء للوجود. ولذلك فإن استنبات الأسئلة في تربته أضحى مستحيلا، مادام يدّعي وراثته للحقيقة كاملة، ضمن نسق سياسة الهيمنة.
وبما أن إزاحة هذه الهيمنة على عرشها لا يتطلب فقط صراعا إيديولوجيا وفكريا، بل صراعا ثقافيا، فإن إبداع الميثولوجيا الأدبية والفلسفية والفنية هو الوسيلة الفعالة لتحرير هذا الشعب الشقي والمقهور، ولن تكون سوى الانعتاق والتحرر. ذلك أن هيمنة الإنسان على الإنسان مضاد لقانون الطبيعة ومنطق التاريخ، لأنه كيف يمكن فهم أن استعباد الشعب باسم الحق الإلهي تحول إلى سياسة للهيمنة؟ وما الذي يجعل السلطة المقدسة تمارس القهر على من تحكمه؟ وكيف يمكن للميثولوجيا الفلسفية أن تحطم الميثولوجيا المقدسة؟.
مهما يكن هدير هذه الأسئلة مرعبا لعصر الثيولوجيا السياسية، فإن اقتحام عصر الأنوار للفضاء المظلم، قادر وحده على التعجيل بهدم البنية التقليدية، ويشرع للراهن بواسطة النقد، أو إرغام هذه «البنية على الخضوع لمحكمة النقد، وهذا يعني الخضوع الحر والعلني لاختبار العقل.. إذ ليست هناك شرعية سياسية إلا من جهة العقل».
لا شيء يستحق الإجلال والاحترام إلا إذا كان متناغما مع العقل، وينبغي على سلطة العقل أن تعوض سلطة الأسطورة، غير أن البنية التحتية للعقل لا يمكن أن تكون سوى الميثولوجيا الفكرية والأدبية. ولذلك فإن الصراع مع السلطة الانضباطية، التي تتحدث عن الديمقراطية في غياب الحرية والمساواة، أصبح شرسا في الفضاء العمومي، والشاهد على ذلك أن هذه السلطة ظلت تستنجد بالقوى الظلامية لإقبار كل فكر متنور. لكن هل التنوير حقا هو الحل الوحيد لحل هذه الأزمة؟ وما الفائدة من هذا النداء الذي ينادينا دون أن نسمعه؟ وما قيمة هذا الانتظار الذي ينتظرنا؟.
ينبغي أن يرحل من تكلم عن التاريخ باسمه ليترك مكانه لعصر جديد، ولطلوع شمس يوم رائع ومشرق، والتنوير هو الذي يبادر إلى جعل صناعة الميثولوجيا ممكنة، والثقافة هي اللغة البدائية لشعب تاريخي، ولذلك يجب أن نفهم جوهر الشعب، انطلاقا من ثقافته: «قلنا إن تأسيس الوجود في العالم الإنساني هو الحوار بوصفه نمطا خاصا من تشكل الثقافة». ذلك أن الشعب مطالب بتشييد الميثولوجيا الأدبية والفلسفية، من أجل بناء الحاضر على الفكر الأنواري، وجعل الإنسان يتمتع بالحقوق السياسية، وخاصة الحق في المساواة والحرية والعدالة.
في هذا الفضاء الممتلئ بالأنوار يتقرر مصير الشعب، وأين يتأسس وجوده الجوهري في المجتمع، لأن الشعب يحيا سياسيا في مجتمعه، ولا نقد للسياسة إلا بالسياسة، تلك المقاولات التي تهيمن على المجتمع وتخضعه للاستعباد، إلى أن يختطفه ليل الاستبداد، ولكن في عتماته، فما هو هذا المجتمع الذي يتم تأسيسه؟ وكيف يتم تأسيسه في الأبدية بدلا من الزمنية؟.
والحال أن ما يدوم هو بالذات ما هو عابر، والعابر هو تأسيس للوجود الإنساني بواسطة الفعل السياسي، فالإنسان والسياسة هما نفس الشيء. إنهما واحد، والقياس ليس موجودا فيما لا يجد، ونحن لا نستطيع أن نجد الأساس في الهوة، ولكن يجب الانطلاق من التاريخ، لأنه يمنحنا دروسا في تفاعل الشعوب المتحضرة مع الأنوار، عندما تم تأهيلها من خلال الميثولوجيا الأدبية والفلسفية. ذلك أن الإقامة على هذه الأرض لا بد أن تأخذ في عمقها سعادة الإنسان، ولن تأتي له هذه السعادة في غياب شاعرية الحرية، فالحرية هي التي تضمن أن يكون الإنسان كائنا تاريخيا. لكن ما هو هذا الشيء الذي يجعلنا نسمع بعضنا البعض؟ هل هو الحوار؟ وعلى أي أساس يقوم هذا الحوار؟ وما هي غايته؟ بل ما هي وسيلته؟.
لا نريد أن تصبح الغاية تبرر الوسيلة، كما تتآمر علينا حكومة الظل، التي تجعل من الطاعة مدخلا يجعل غايته هي الحفاظ على الإمارة للأمير. ذلك أن من يبني على الشعب كأنه يبني على الطين، الأمر الذي يحرك حقده ضد هذا الشعب المقهور، إلى درجة أنه يحرض الطاغية على شعبه. هكذا تصبح المعادلة سهلة: الأمير والنبلاء والجيش، وبعبارة شرسة: السلطة والمال والعنف.
ثمة، إذن، توجه نحو الميكيافيلية الجديدة، وهذا هو عصر الميكيافيلية، حيث حكم على التنوير بالإقامة في هوامش المتوسط، ويحرم من رعاية الشعب، خاصة أن تخدير الإدراك يساهم في تأخيره، ولذلك يصعب تمزيق الحجاب على وجه هذه السلطة. فبالرغم من شراستها، فقد استطاعت أن تستقر في اللاوعي، وتتحكم في تطلعاته. وما دام النقد ليس سوى عملية رفع القناع إلى سمة غالبة حاضرة حضورا مدمرا للأوهام، ويتحول إلى نقد يفكك كل تلاعب ببراءة الشعب، بل ينبغي أن يتحول إلى سلوك اجتماعي، وموقف نقدي، ورفض للهيمنة والخضوع. فهل نستطيع أن نؤسس ثقافة تنويرية في المغرب؟ أم سنظل نتحرك في أفق الميثولوجيا الظلامية التي تحكم على الثقافة بالعدمية؟ وكيف يمكن للثقافة أن تحرر شعبا مخدر الإدراك؟.
التَّطرُّف الديني.. تطرف سياسي
نوري الجرَّاح
التطرُّف الديني، بصرف النظر عن تاريخه الأنطولوجي، هو ردُّ فعل على التطرُّف الاستبداد، أياً كانت لغتُه وهيئتُه. الاستبداد هو الذي يعطي المبررات الكبرى للتطرُّف الديني، لأنَّ الناس عندما يُصابون باليأس، يذهبون إلى الأخرويات، يذهبون إلى الغيب، لأنهم لا يبقى لهم في الوضوح مأمن، ولا لغة، ولا مُشْتَرَك، ولا نتيجة. لذلك تراهم يذهبون ذلك المذهب.
أما التطرف الديني، بوصفه تطرفا سياسيا، فهذا يحتاج إلى نقاش، بمعنى أن هناك حركات أدخلت الديني في معنى الاجتماع، وهذه الحركات، منها، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، ومعها الجماعات التي انْشَقَّت عنها، وعرَّشَت على جسد الإنسان العربي، وهذه قُروح، ونوع من المرض، والطَّفْح، أو هي دُمَّل، على هذا الجسد العربي الإسلامي.
معركتنا الأصلية، في أساسها، معركة مع الاستبداد، ثمَّ يمكن أن نتأمَّل كيف يمكن بناء ثقافة الحياة، التي على الإنسان أن يعيشها ويحياها، بعيداً عن كل أشكال التطرُّف. فالتطرُّف هو نتيجة للفشل، ومن غياب العدالة أيضاً. خرج هذا التطرف من الفقر، من فشل برامج التعليم، من سقوط النُّخَب السياسية، ومن الفساد، أي من كل ما عرفتْه حياتُنا العربية من خلل. فهذا التطرُّف الديني جاء باعتباره رَدّاً موهوماً على كل أشكال الفساد هذه، وها نحن بإزاء مرض جديد. إذن، ما هي المسألة هنا؟ إنها في إعادة الأساسيات إلى الحياة، فالمجتمعات المليئة بالاستبداد والظلام مجتمعات لم يُتَح لها أن تختار.
الأنظمة والتطرف والعُنْف
قاسم حداد
أنا أميل إلى القول إنَّ ظاهرة التطرف والإرهاب ظاهرة ربَّتْها الأنظمة التاريخية التقليدية، التي تبتكر، يوماً بعد يوم، كل الوسائل لتطويل عمر بقائها على كواهل الشعوب، لأنَّه كان يُقال، أيضاً، حتى عن اليسار إنه متطرف. هذا المفهوم يجب ننتبه إليه. لا يجب أن نترك فرصةً لتبرئة الأنظمة، وخصوصاً الأنظمة التي صرفت المليارات لتربية المؤسسات العنيفة للتطرف الديني، والمظاهر المناهضة للمجتمع وللحضارة، وتزعم الآن بأنها تقود الحرب ضد الإرهاب والتطرف. فعدم نقد هذه الفكرة يبرّئ الأنظمة.
أنا لا أميل إلى الاستسلام لهذه المسألة، فالشرط التاريخي للمجتمعات العربية هو الشرط الحضاري، فوضعية هذه المجتمعات لا تزال متفاقمةً، وغير قابلة للحل، بهذه المنظومة المنتمية للقرون الماضية والساحقة. فهذه الأنظمة العنيفة هي نفسها التي تُفَرِّخ هذا التطرف العنيف. شرط الحضارة أن ننقل هذه المجتمعات إلى شرطها الحضاري الإنساني، وحرية الفرد، الذي ينبغي أن يتحصَّل على العدالة الاجتماعية، وتحقيق العدل في بذل الثروات الوطنية للناس، وليس للقبائل، ولا للأنظمة السياسية، ولا للحُكَّام.. المشكلة الحقيقية هي في المنظومة السياسية التقليدية، التي لا تزال تحكم في القرن الواحد والعشرين بقوانين القرون القديمة.
نحن والآخر.. صورة الخسارة القاسية للمنتصر والمهزوم
خزعل الماجدي
صورة الخسارة القاسية للمنتصر:
أزمة العلاقة
-1 في كتابه «رجال مرعبون» يصف انتسبيرغر تراجيديا «المهزوم المتطرف» في ما يشبه السرد العيادي (الإكلينكي) لسيرته منذ بداية اعتزاله واغترابه عن المجتمع والحاضر حتى تدميره لذاته وللآخرين عن طريق الإرهاب الذي هو الوسيلة الأخيرة للخلاص بالنسبة له.
ويرى انتسبيرغر أن تماهي تدمير الذات مع تدمير الآخر يتصاعد كلما وجد المهزوم المتطرف رفاقاً مثله وعقيدةً ضيقة الأفق تحشد الطاقة الكامنة في أعماقه.
وتكمن نشوة المهزوم المتطرف، من وجهة نظرنا، في أنه يعود إلى الأصول ويقبع فيها، وهو بذلك يقطع مجرى التاريخ ويتشكّل مع الزمن الأسطوري الذي هو زمن الأول حيث تتماهى نماذجه البدئية (الأركيتايب) مع النماذج البدئية للاوعي الجماعي الذي ينتمي إليه، وهذا ما يجعله منتشياً، بل مقترباً جداً من الجوهر المقدس.
ولذلك تأخذ معاني «الجهاد» و«الاستشهاد» أبعاداً بعيدةً كل البعد عن وصفها الدنيوي مثل «الاعتداء» و»الموت»، ويكون «الجهاد» مرادفاً كلياً لمفهوم تغيير العالم وأسلمة الآخر، ولا تخطر أفكارٌ مثل العدوان والقتل والحرب في ذهن الأصولي المتطرف. كذلك يكون «الاستشهاد» سبيلاً للوصول المطلق إلى عالم السماء (الجنة)، الذي لا يعني مطلقاً بالنسبة للأصولي نوعاً من القربان البشري أو التضحية بالإنسان.
وفي ظل هيمنة مثل هذه الأفكار ينفجر العالم كلّه بالدم ولا نسمع لصوت العقل نبرةً، بل يفيض صوت القلب والإيمان فقط بشكلهما السلبي.
لا شك أن مثل هذه الصوفية الدموية تقفل الطريق على أي عقلانية حوارية، ولا تعود معها هناك مساحة للتواصل، بل هي قطيعة أبدية مع «الحاضر»، الذي يهيمن عليه «الآخر»، ولجوء حثيث نحو «الماضي»، الذي كان يتسيد عليه «الحشد» المتجانس مع المنهزم، وهو قفزٌ مباشر إلى مستقبل وهمي تبسطُ فيه السماء بقوانينها بعيداً عن نجاسة الأرض.
هكذا يحصل الأمر ببساطة في انسجام كامل بين ذات مهزومة وعقائد جهادية وشهادة وآخرة وسماء وأصول. ويكون في الطرف الآخر الكافر الأرضي المتدنس الذي يعيش لحاضره فقط.
وهنا تكمن المأساة الحقيقية لهذا الوعي الشقيّ للعالم، الذي يجرجر وراءه الملايين من البشر المتطلعين إلى حياة حديثة أفضل .
-2 في المقابل يعمد «الآخر»، الغربي بوجه خاص، إلى وضع إسفين عريضٍ بينه وبين العالم «المهزوم المتطرف»، ولا يقيم معه حواراً إلاّ في جانب المصالح المادية اليومية. يرفض الغربي الاعتراف باختلاف الآخر عنه ويطالبه بأن يكون عادياً دنيوياً دفعةً واحدة، دون أن ينظر إلى التاريخ المقدس الذي ينحدر منه، ودون أن ينصف بعض مطالبه الخاصة بالعيش المتجانس مع هذا التاريخ .
الآخر الغربي يزيد نار الوقود ويعمل على المزيد من عزل الشعوب التي أنتجت التطرف، متناسياً أن الشعوب الغربية كانت قد أنتجت التطرف هي الأخرى منذ الحروب الصليبية وحتى الحرب العالمية الثانية وحركات الاستعمار ونهب الشعوب.
نحن نرى أن على المهزوم المتطرف أن يتحول إلى مهزوم معتدل أولاً، ثم إلى مكافح معتدل، ثم إلى رابح لشرطه الإنساني أولاً، لكن هذا لا يتحقق بين ليلة وضحاها مع شعوب مقهورة ما زالت إلى الآن تعيش في التاريخ الوسيط مقارنة بشعوب الغرب التي تخطت التاريخ الحديث نحو التاريخ المعاصر متسارعة الخطى فيه.
وبالمقابل، نرى أن إقامة علاقات الشراكة الفكرية والثقافية والروحية مع الشراكة الاقتصادية والسياسية تمثل قاعدة أساسية لتمكن الغرب من الحوار مع الشرق الغني بثرواته المادية والروحية. إن على الغرب أن يبتكر علاقة نوعية جديدة مع الشرق تطوي صفحات التمايز العرقي والديني والثقافي، التي كان يمارسها معه منذ زمن الاستشراق حتى زمن الاستعمار، وصولاً إلى زمن الاستعلام.
-3 لا بد من التأكيد على أن لا فرق، من الناحية البايولوجية، بين عرق وآخر في هذا العالم، لكن الفرق يكمن دائماً في النظام الحضاري والاجتماعي الذي يولد فيه الفرد، ثم يتبع ذلك طريقة تفكير الفرد نفسه وطريقة فهمه وعيشه وتعامله مع محيطه الخارجي.
-4 تخطى الغرب عتبة التاريخ الوسيط منذ القرن الخامس عشر، فيما بقيت الشعوب الأخرى إما في عصور ما قبل التاريخ (مثل الشعوب البدائية) أو في التاريخ القديم (مثل الهند والصين) أو في التاريخ الوسيط (مثل الشعوب الإسلامية).
واستطاع الغرب في خمسة قرون (وصولاً إلى القرن العشرين) تأسيس التاريخ الحديث له، ثم دخل التاريخ المعاصر (بعد الحرب العالمية الثانية وإلى الآن) أما الشعوب الأخرى فقد بقيت كما هي.
5 – يرى تو. بي. أ.هف في كتابه «فجر العلم الحديث» أن القرنين الثاني عشر والثالث عشر شهدا أعداداً متساوية من كبار الباحثين والعلماء في مختلف الحقول في كل من الحضارات العربية والصينية والأوربية، لكن أوربا وحدها هي التي تخطت التاريخ الوسيط ودخلت أعتاب التاريخ الحديث.
ويعزو هذا الأمر إلى سبب رئيسي، هو أن أوربا طوّرت القانون الغربي الحديث، في حين بقي العرب في أحضان القانون الديني، أي الشريعة الإسلامية.
أما ول ديورانت فيؤكد أنه جرت في أوربا بين الأعوام 1300 و1570 أكبر عملية للإصلاح الديني، بينما جرت عند العرب أكبر عملية للتشدد الديني وتراجع التنوير.
أما من الناحية الأخرى، فقد شهد القرن الخامس عشر في أوربا سقوط أكبر دولتين دينيتين: الأولى في شرق أوربا، وهي الإمبراطورية البيزنطية، التي سقطت عام 1453، والتي كانت معقل الدولة الدينية المسيحية، والثانية غرب أوربا حيث سقطت الدولة الأندلسية عام 1492، وهي معقل الدولة الدينية الإسلامية في أوربا. وكان هذان الحدثان كفيلين بإزاحة طوق التشدد الديني في أوربا والتمهيد لإصلاحات دينية ومدنية .
-6 وإذا كنا قد تعرفنا على «الأصول» التي شكّلت العقل العربي الحالي، فإن الأصولية العربية الإسلامية كانت قد نشأت منذ زمن بعيد. أما الأصولية الغربية فمختلفة.
الأصولية Fundamentalism كمصطلح ومفهوم يشير إلى طريقة التفكير البروتستانتية للعقيدة المسيحية، ويقضي بعصمة الكتاب المقدس في العقيدة والأخلاق والروايات الدينية واعتبارها تاريخاً حقيقياً، حيث رفضت التأويل وغيره. وقد ظهر هذا المصطلح بعد ظهور البروتستانتية، وانتشر في القرن العشرين.
صورة الخسارة القاسية للمهزوم:
نقد الأصول
قبل عقود من الزمن سأل بعض الشباب المصريين شيخ الأزهر: لماذا نحنُ متخلفون والغرب متطور؟ فأجاب الشيخ بكل بساطة : إن الله سبحانه وتعالى خلق الغرب خدماً لنا.
وإذا كانت هذه العبارة تعبِّر عن رأي شيخ الأزهر آنذاك، فقد وجدتها كما هي تماماً، قبل عدة سنوات، على لسان بعض المتعلمين والبسطاء في ليبيا. وتيّقنت أن هناك من يؤمن بها ويروِّج لها.
كيف استطاع شيخ الأزهر بثّ النشوة في نفسه وحاولها في نفوس الآخرين؟ ولماذا خرج بهذا الحل العبقري؟ هل هذه ميزة هذا الشيخ لوحده، أم هي ميزة الفكر الديني بأكمله: إسدال الستار على المشكلة والخلود إلى الراحة والاطمئنان؟ ثم لماذا لا نقلق كثيراً كشعوب عربية وإسلامية وعالم ثالث من هذه المشكلة؟ كيف ينام مفكرونا بعيدين عن حلّها أو إضاءتها، على الأقل، لتخرج الحلول تباعاً من خلال الكشف والجدل والفهم؟.
نرى أن إضاءة هذا المأزق الحقيقي والكبير الذي نعيشه، اليوم، يتطلب جهوداً واسعة للكشف عن الحقيقة، دون أدنى مواربة، ولإضاءة المشكلات المسببة لها والأزمات الناتجة عنها. ونرى أن هذه الجهود لا بد أن تكون في غاية الصراحة لأن أنصاف الحقائق والتدليس والكذب ضاعفت الأزمة وأوصلتنا إلى ما يشبه حافة الهاوية.
2 – يشكِّل الماضي أساس أزمتنا ومنبع مشاكلنا، وفيه تكمن أخطر الأسئلة التي تعيق تقدمنا في الحاضر والمستقبل.
لنسأل أولاً: أي ماضٍ نعنيه بالضبط؟ هل هو ماضي القرن السابق مثلاً، أم ماضي القرون العشرة الأخيرة، أم قبل ذلك؟ أم الماضي القديم الذي ظهرت فيه حضاراتنا القديمة؟
ولعلنا أجبنا عن مثل هذا السؤال، وقلنا إن الماضي الأساس والفاعل الذي يحرك حياتنا المفصّلة اليوم هو: زمن الأصول العربية الإسلامية. هذا الزمن بدأ في القرن السابع الميلادي، وتم تدوين الأصول وتحويلها إلى أعراف وشرائع وقوانين وأخلاق في زمنٍ لا يتجاوز الأربعة قرون. أما ما تلاه فلا يعدو أن يكون سوى إضافات تاريخية ما زالت إلى يومنا هذا تتحرك بقانون داخلي يمكن أن نسميه: قانون الأصول. فما هي هذه الأصول؟
إذا افترضنا أننا نعيش بقية حضارةٍ وسيطة هي الحضارة العربية الإسلامية، فلا شك أن الأصول الدينية ستكون جوهر هذه الحضارة، أما ما حولها فهي مظاهر حضارية مستمدة من هذه الأصول مثل المظاهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. لقد بقيت هذه الأصول مقدسةَ بطريقة عمياء دون أن نسعى إلى تحليلها بعمق وبمنهج علمي رصين. ويقيناً هناك خوف يعترينا من مجرد التفكير بتحليلها ونقدها وكشف مكنوناتها الحقيقية بعيداً عن الإطناب في كيل المديح لها.
لم تحاول التيارات المستنيرة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية تحليل هذه الأصول ونقدها، وحين حاولت الفلسفة ذلك اتهمت بمحاولة تقويض الدين وأصوله. وقد خسرت الفلسفة وخرجت منذ زمن بعيد من الفاعلية في الحضارة العربية الإسلامية. أما علم الكلام فقد لُوي عنقه وتحول من علم عقلي يناقش العقائد إلى علم فقهي على يد الأشاعرة والماتريدية.
لقد سقطت كل محاولات الفلسفة وعلم الكلام والعلوم الإنسانية في تحليلها ونقدها للأصول، ليس بسبب قصور أدواتها، بل بسبب الخوف الذي دفع بأصحابها إلى الانسحاب أو الذبول أو الاختفاء أو القتل.
3 – يرى محمد عابد الجابري في كتابه «بنية العقل العربي» أن الإسلام قدّم منجزه الحضاري المتميز من خلال الفقه مقابل ما قدمه الإغريق في الفلسفة كمنجز حضاري متميز، وهذا يعني أن منجز الفقه هو الإضافة الحضارية للإسلام في تاريخ الفكر والثقافة. ورغم أن هذا الأمر يصعب قبوله، لكنه صادر عن مفكر يمثل حقيقة هذا الفكر اليوم بأصوليته وانتقائيته المفضوحة في كتبه، وهي من وجهة نظرنا فضيحة حقيقية تدين نفسها، فإذا كان الفقه هو المنجز الإسلامي الحضاري! فهذا يعني أن الحضارة الإسلامية كانت ومازالت في ورطة حقيقية، وأنها سعت إلى تكبيل حرية الإنسان وقيدت عقله وروحه .
كان من الممكن للمشروع الفلسفي الإسلامي، الذي ظهر بعد تكوّن عناصر الحضارة العربية الإسلامية، أن ينمو وأن يصبح أداة للتحليل والفحص، ولكنه فشل في الاستمرار والنمو، فقد أُحرقت كتب ابن رشد في الساحات العامة، وهو آخر الفلاسفة المستنيرين، وذهبت جهوده باتجاه الغرب، الذي طورها ضمن جهود الخروج من الفلسفة الوسيطة الإسكولائية المدرسية.. ولم يتشكل تيارٌ فلسفي نشط بعد ابن رشد في الدائرة الإسلامية حتى يومنا هذا، في حين بدت الفلسفة الغربية بعد العصر الوسيط وكأنها تولد ولادة ثانية بعد الولادة الأولى للفلسفة الإغريقية.
والآن ما الذي نتج عن هذه الأصول؟
لقد ظهرت، اليوم، الدعوات الأصولية التي تقدّس الأصول وتدعو إلى العودة إلى الماضي ورفض الحاضر بكل مستجداته وتقلباته.
إن الأصولية، اليوم، هي وريثة كل هذا الماضي عبر مفكريها الذين لا يقبلون الحوار، بل يلوّحون دائماً بالخوف أو الموت.
إن النتيجة التي أوصلتنا إليها الأصولية هي التحجر في الماضي، ودفعنا إلى الهامش وتغريبنا عن الحاضر. لقد أدت بنا إلى ما أسميه «الشلل الفكري» الذي بات مستعصياً ومزمناً ولا سبيل إلى الخلاص منه.
يمكننا تشخيص المقدّس العربي الإسلامي، وفقاً لتحديدنا للأصول، فهو يتكون من جوهر إلهي مقدّس يتمثل في القرآن، وهو جوهر صلد يصعب نقده أو التعرض له. وكانت المحاولات الرامية إلى تفسيره لا تتطرق أبداً إلى نقده أو تفكيك مكوناته اللاهوتية والميثولوجية. فهو كلام الله الذي يصعب النيل منه.
أما الفضاء المقدّس الذي يدور حول هذا الجوهر فتكونه بقية عناصر الأصول، وهي السنّة، الإجماع، والقياس، وهي مثل مدارات تدور حول نواة المقدس الإلهي (الله) وتقل قدسيتها كلما ابتعدنا عن هذه النواة الجوهر، التي تشكل الأساس الصلب للأصول المقدسة.
القرآن والفقه هما أساس الأصول. ونقدهما يشكّل أساس نقد العقل العربي، الذي سيتضمن، بالضرورة، تحييد الجانب المقدس ووضع الأسس الثقافية العلمية الإنسانية لنقده، وهو ما يفقده قوته ويضعه في المتناول النقدي التقليدي.
لم يحصل مثل هذا النقد لأن هذا كان وما زال يُعدُّ بمثابة المسّ بالذات الإلهية أولاً، وبجوهر تعاليم الإسلام. لكن هذا الأمر، من ناحية أخرى، أصبح ضرورياً أمام متغيرات العصر ومحاولتنا فهم ما نحن عليه.
5 – منذ البداية المجازية لبداية العصر الحديث في العالم العربي، والكامنة في تحرره من الهيمنة العثمانية ودخوله عصر التنوير الحديث في بداية القرن العشرين، شهد هذا العالم ظهور ثلاث أصوليات مختلفة الطابع والتكوين، لم تساهم في يقظته وبنائه، بل عملت على تدميره، بقصد وبدون قصد، ولم تفرش الأرضية السياسية الصحيحة لتطويره ونقله إلى العصر الحديث بحق. وهذه الأصوليات الثلاث هي حسب ظهورها التاريخي على المسرح السياسي العربي :
أ- الأصولية الأممية: وتمثلها الأحزاب اليسارية عموما والماركسية والشيوعية بشكل خاص.
ب- الأصولية القومية: وتمثلها الأحزاب القومية العربية، وحزب البعث بشكل خاص.
ج- الأصولية الدينية: وتمثلها الأحزاب الدينية العربية، وأحزاب الإسلام السياسي بكل مذاهبه بشكل خاص.
إن ما يجمع هذه الأصوليات الثلاث هو طابعها الثوري وميلها الراديكالي وعدم تبنيها للديمقراطية وميلها للعنف ونبذها لمن يختلف عنها. كانت هذه الأصوليات الثلاث تميل، كل منها على جهة، إلى اعتقادها بأنها تمتلك الحقيقة والمفتاح السحري لحل الأزمات، لكنها كانت ومازالت أبعد ما تكون عن الحقيقة، فقد اتسمت كلّ برامجها النظرية والعملية بالفشل الذريع، ولم تقتنع هي بهذا الفشل، ولم تنكشف حقيقتها إلا بعد أن فضحتها الممارسات العملية الفاشلة والعرض الهزيل لقدرتها على تمثل الواقع العربي على اختلاف بلدانه… في حين لم يكن هناك مشروع ثقافي حقيقي، ولم تكن هناك إرادة شاملة كبرى للمثقفين لانتزاع البلاد من ظلام التاريخ الوسيط إلى أنوار التاريخ الحديث ثم التاريخ المعاصر… وإذا كان مثقفو القرنين السابع عشر والثامن عشر قد كافحوا ببسالة ضد ظلام الكنيسة، فإن مثقفي القرن التاسع عشر وضعوا أسس العلوم الطبيعية والإنسانية وغادروا إلى الأبد طريقة التفكير القروسطية وصاغوا مفهوم ودور المثقف بطريقة عميقة.
إن مثقفنا مهادن لأنه يريد أن يكون توفيقياً في كل شيء، وأن لا يخسر أي شيء، إنه يريد أن يربح الحاضر والماضي، السلطة والمعارضة، الحداثة والقدامة، السياسة والثقافة، كل شيء، في حين أن أول امتياز للمثقف في مجتمعاتنا هو قدرته على التخلي عن الأثقال التي تُثقل بصيرته، والتي تتناقض مع مبادئه.
المثقف ليس عينةً من المجتمع، بل هو نسيج مميز فيه يصعب خلطهُ مع بقية الأنسجة بسبب طليعيته ودوره التنويري وقدرته على الإشعاع والتأثير، ولذلك عليه أن يتجنب ما يعتري المجتمع من أمراض مزمنةً أو عابرة، وهو بعبارة أخرى رمز العافية الاجتماعية في أحلك الظروف وفي أعقد الأزمات.
الإصلاح الديني في المغرب.. النموذج والاستثناء
محمد آيت لعميم
قبل الحديث عن آليات الإصلاح الديني بالمغرب، الذي أصبح مع مرور الأيام وتوالي الحوادث نموذجا مطلوبا ومرغوبا فيه، جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، لا بد من التنصيص على المكانة التي تحتلها المشروعية الدينية في المغرب ومرجعياتها.
فالمشروعية الدينية في المغرب هي من أقدم المشروعيات الدينية في المنطقة العربية الإسلامية، وقد امتدت حلقاتها باسترسال منذ قدوم المولى إدريس، وهو الأخ الأصغر لمحمد النفس الزكية في الثلث الثالث من القرن 2ه. ولذلك فهذه المرجعية الدينية تتصدر المرجعيات الأخرى في بعدها التاريخي منذ 1200 عام، إذا ما قورنت بمرجعية الأزهر الشريف الشافعية (ق6ه)، والمرجعية العثمانية الحنفية (ق8ه)، والمرجعية الوهابية الحنبلية (ق18م). ولم نحتسب المرجعية الشيعية لأن سياق الحديث لا يستدعيها، فالأمر هنا يتعلق بالحديث عن المرجعيات السنية.
وبناء على هذا، فالمغرب يجد نفسه في طليعة المشروعيات الدينية، وإشعاعه الديني، اليوم، كقوة روحية كبرى يفوق بكثير حجمه الجغرافي.
لقد عملت السياسة الدينية في المغرب على مراجعة جذرية عميقة لما يسمى بالحقل الديني، وقد ابتدأت هذه السياسة مع العهد الجديد، عهد الملك محمد السادس، وتجذرت واتخذت لها سبلا بعيدة الامتدادات في هذا الحقل منذ 12 سنة تقريبا. وقد تزامنت هذه السياسة الجديدة مع تعيين المؤرخ والأديب أحمد التوفيق وزيرا للشؤون الدينية. وكما لا يخفى على متتبع تاريخية الإصلاح في المغرب فإن زعماء الإصلاح الديني ركزوا منذ القديم على التاريخ والأدب باعتبارهما عنصرين أساسيين في أي إصلاح.
ومن السمات الأساسية لهذه السياسة الإصلاحية للحقل الديني أنه تم إحياء مراسيم ما يسمى بعمل أهل المغرب في الدين. هذا العمل من الناحية التاريخية والثقافية الواسعة الأفق يرتكز على دعائم قوية ضمنت للمغرب استقراره وأمنه منذ عهود، وضمنت له وحدته الترابية والمذهبية والاجتماعية.
تتشكل هذه الدعائم الكبرى من:
– المذهب المالكي
– العقيدة الأشعرية.
– السلوك الصوفي الجنيدي.
– إمارة المؤمنين.
فالمذهب المالكي من أعرق المذاهب المعتدلة، التي زاوجت بين النص والممارسة، فأول مدونة حديثية صنفها الإمام مالك ووطأ بها لما سيأتي فيما بعد. ثم إن الإمام مالك اعتمد على عمل أهل المدينة، الذين مارسوا الدين بالمشاهدة والمعاينة، وهذا يعني أن أهل المغرب اعتمدوا المنابع الصافية للممارسة الدينية.
أما بخصوص العقيدة الأشعرية التي تبناها المغاربة، فهي عقيدة السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة، لما تكتسيه من مرونة بخصوص تحديد الإيمان، فالأشاعرة لا يكفرون المسلمين بأعمالهم، وندرك اليوم قيمة هذا الاختيار أمام هذه النحل والدعوات التكفيرية التي تتبناها مجموعة من الطوائف التي تماهت مع الفكر الخارجي الذي يكفر مرتكب الكبيرة. ولذلك فأهل المغرب يعيشون في سلام من هذه النزعات التي تكفر المجتمعات وتصفها بالجاهلية.
أما بخصوص السلوك الصوفي الجنيدي، فهو استجابة للفهم العميق لمفهوم الإحسان الذي هو أعلى درجات الإيمان، وقد سبق للإمام مالك أن قال: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق». إن مقام التحقق هذا هو الذي جعل المغاربة يعتمدون التصوف ركيزة من ركائز عملهم في الدين لما يجلبه السلوك الصوفي من محبة وجمال وإحسان ومكارم الأخلاق.
وتأتي إمارة المؤمنين كدعامة أساسية للحفاظ على هذه الأركان وتدبيرها، وقطع الطريق عن كل محاولة لاحتكار الشأن الديني والتطاول عليه.
فمن السمات المميزة لهذا الإصلاح الديني، كما صرح لنا جعفر الكنسوسي، الخبير في الشؤون الدينية، أن المغرب لم يحدث القطيعة مع الإسلام التاريخي، إذ اعتمد اجتهادات الأجيال من العلماء التي استرسلت عبر الزمان.
ثم إن العمل الديني في المغرب يعتمد على استقلاليته في تدبيره، فالسواد الأعظم من القيمين الدينيين يتحدرون من البادية، وقد تكونوا في المدارس العتيقة. هذا التكوين ظهرت سماته وهويته منذ ما يسمى بالعصر الوسيط médiévale.
إن هذه الاختيارات وهذا السلوك الذي يعتمد الوسطية والاعتدال هما اللذان جعلا النموذج المغربي في الإصلاح الديني نموذجَا مرغوبا، واستثناء فريدا في خضم هذه الزوابع التي شهدها العالم اليوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.