يأتي رحيل المفكر العربي والمغاربي الكبير محمد أركون، ليعمق إحساسنا بفداحة الفقدان، وبهذه المناسبة الأليمة، ندرج هذا الخاص الذي يشتمل على شهادات في حقه ومقتطف من آخر الحوارات المطولة التي أجريت معه. ------------------------------------------------------------------------ شهادات وكتابات تجمع على أن الراحل محمد أركون، كان باحثا مثيرا للجدل، بما قدمه من مؤلفات ودراسات وتحاليل فكرية رصينة ومؤثرة في مجال النصوص الدينية والدراسات القرآنية والإسلامية. * المفكر محمد المصباحي: خسارة كبرى للمتنورين وأهل الحداثة شكل فقدان المفكر المغاربي والعربي المرحوم محمد أركون خسارة كبرى للمتنورين وأهل الحداثة، وهذه الخسارة ستترك فراغا كبيرا يصعب ملؤه. فقد ترك المرحوم مكتبة كاملة متنوعة من دراسات وأطروحات ومشاريع فكرية، كانت تعمل على رفع الإسلام إلى مرتبة عليا ومشرفة، في هذا العالم الذي كشرت فيه الأصولية الظلامية من هذا الجانب أو ذاك. فالحديث عن مكانة أركون، هو حديث عن رجل من أكثر المفكرين جذرية في آرائه وتطلعاته الفكرية، فهو بحكم وجوده في باريس، إحدى عواصم التنوير في الغرب، سمح لنفسه أن يكون حرا وأن يمارس حرية التفكير من دون قيود ومن دون تنازلات ومن دون توافقات تراعي الرأي العام أو ميزان القوى السياسي. لقد دشن المرحوم الكتابة في مجموعة من المواضيع الجديدة ومناهج جديدة، وبآفاق جديدة، لم يعهدها العالم العربي والإسلامي. كان الفقيد يفكر من داخل المرجعية الفكرية الحديثة، أي من داخل المرجعية المنهجية الأوربية، مما جعله ينظر نظرة جديدة متحررة إلى القضايا الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالعقل أو الأخلاق أو المعرفة أو النزاعات الأصولية، أو غير ذلك. كان ينظر إلى هذه القضايا بمفاهيم جديدة، ومناهج جديدة غيرت وجه الدراسات الفكرية للإسلام وقضاياه، ولذلك احتل منزلة ومكانة كبيرة في أوساط الباحثين العرب والمسلمين، وبخاصة في أوساط الباحثين والطلبة المغاربة الذين كانوا يكنون له تقديرا وإعجابا كبيرا، فكتبوا حوله العديد من المقالات والأطروحات والبحوث والماستر. لم يكن أركون يريد الانحياز إلى مذهب إيديولوجي أو فكري، بل حاول أن يروج للأفكار الإنسانية التنويرية الحديثة، وهذا العمل الذي قام به، كان له أثر كبير في طرق البحث في العالم العربي والإسلامي، وقد كان يدافع عن هذه القضايا بشجاعة كبيرة، فهو لا يخشى أي سلطة من السلط، لأن هدفه هو تغيير الوضع الفكري، الذي يقدس الجهل والأمية، وفتح الأعين على أسئلة جديدة قد تجرح معتقدات بعض الفئات، ولكن العلم لا يتوقف عن البحث. كان المرحوم يجمع بين الرزانة الأكاديمية وبين الدعوة إلى الإصلاح، مبنية على البحث العميق، والدراسة التي تعتمد على المناهج والمفاهيم الحديثة، مما يجعل قبولها في الغرب سهلا. لقد فقدنا في المرحوم مدافعا كبيرا عن الإسلام، لكن ليس الإسلام الذي لا يقبل التطور والإصلاح، بل إسلام المستقبل القادر على المنافسة والصراع السلمي مع الآخر، بواسطة أساليب العقل وقواعد الحوار والمناظرة الهادئة. *الأديب حسن نجمي: ظل يغذي فكرنا ووجداننا بأعمق الأفكار وأكثرها استنارة ما من شك في أن رحيل المفكر العربي المغاربي محمد أركون يأتي ليعمق إحساسنا بفداحة الفقدان، فترة قصيرة بعد رحيل الركن الفكري العربي المغاربي الآخر محمد عابد الجابري. إلى جانب قراءاتي لأهم أعمال المفكر الراحل سي محمد أركون، التقيته ثلاث مرات على الأقل: واحدة كان اللقاء الأول في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، والثاني في باريس والثالث في الولاياتالمتحدةالأمريكية، داخل مكتبة الكونغريس، حين تجرأت وقدمت له نفسي وسط جمهور خالص من الأمريكيين فقط. وقد زادتني الرغبة التي عبر عنها المرحوم في وصيته بأن يدفن في تراب المغرب، على أرض الدارالبيضاء، تقديرا عاليا لشخصه وفكره والتزامه الأخلاقي الذي لم يتنازل عنه حتى وهو يحضر نفسه لرحلته الأبدية. قد لا يدرك الكثيرون معنى أن يفجع شاعر في رحيل مفكر. و فضلا عن أن أركون كان أحد أركان الفكر العربي الحديث، فقد ظل يغذي فكرنا ووجداننا جميعا بأجمل وأعمق الأفكار وأكثرها إضاءة واستنارة، ما يغذي بالتأكيد نسيج كتاباتنا الشعرية والإبداعية، فالشعر والإبداع والإنتاج الجمالي لا ينفصل عن الحقل الفكري، بل يتغذى منه ويغذيه، هذا إضافة إلى ما كان يميز الراحل الكبير من روح شعرية خالصة، في رؤيته الجمالية للإبداعات والفنون، في شغفه بالحياة الناعمة، وفي اهتماماته بالمنتج الإبداعي العربي، وبالأخص في الغرب الإسلامي، حيث لم يكن ممكنا دائما أن نفصل في شخص واحد، بين بعده الفكري والفلسفي، وبعده الديني والروحي والأدبي والشعري. لذلك علينا أن نعزي أنفسنا جميعا، في المغرب العربي، وفي الأفق الإنساني الرحب، في رحيل أخينا وأستاذنا. *نجيب خداري: اتحاد كتاب المغرب ينعي محمد أركون تلقينا في المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب بتأثر بالغ نبأ رحيل المفكر العربي الكبير محمد أركون، وتشاء الأقدار أن تحصد المنية في الآونة الأخيرة، وعلى التوالي، مجموعة من خيرة مفكرينا وفلاسفتنا وأدبائنا العرب. فبعد الرحيل المفاجئ لكل من المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والأديب المغربي احمد عبد السلام البقالي، والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد، والشاعر المصري محمد عفيفي مطر، والروائي الجزائري الطاهر وطار، يرحل عنا المفكر الجزائري الكبير محمد أركون، تاركا برحيله القاسي فراغا مهولا في الساحة الفكرية العربية والإسلامية. وبرحيل مفكرنا الكبير محمد أركون، تكون الأمة العربية والإسلامية قد فقدت فيه مفكرا كبيرا وأصيلا يصعب تعويضه، بما أثاره فكره وآراؤه وأبحاثه وكتاباته من جدل وأسئلة تبقى مفتوحة على المزيد من التأمل والمناقشة والإثراء، وبما قدمه المفكر الراحل للفكر العربي والإسلامي بعامة من مؤلفات ودراسات وتحاليل فكرية رصينة ومؤثرة في مجال النصوص الدينية، والدراسات القرآنية والإسلامية، أثرت الفكر والمكتبة العربية، بموضوعاتها ورؤاها المخصبة حول الإسلام، والفكر الإسلامي، وإعادة قراءة القرآن، والعلمنة والدين، ونقد العقل الديني، والفكر الأصولي، والإسلام والغرب، ونزعة الانسنة في الفكر العربي وفي السياقات الإسلامية، وغيرها من مجالات الفكر التي ساهم فيها الفقيد بنصيب وافر من العطاء والجدل، متوسلا في ذلك كله بالمساءلة العقلية، وبالرؤية النقدية والتحليلية المعاصرة والجريئة، وبالمناهج العلمية الجديدة، بما هو اختيار عرضه لكثير من الانتقادات وردود الفعل. وعرف الفقيد أيضا بمسيرته العلمية المتنورة، وبريادته في مجال اشتغاله الفكري، وبترسيخه لبعض المفاهيم في الفضاءين العربي والإسلامي، فضلا عن مساهماته اللافتة في الدرس الأكاديمي والجامعي في كبريات الجامعات والكليات في ارويا وأمريكا والمغرب، هذا البلد الأخير الذي اختاره الراحل مقرا لإقامته، وارتضاه مسكنا لمثواه الأخير. ومن أهم المساهمات الفكرية الأخيرة البارزة للفقيد، تلك التي دارت حول الجدل الدائر حول الإسلام والغرب، وهو ما تشهد به حواراته العديدة والمؤثرة، من بينها حواره الشهير مع السياسي الليبرالي الهولندي فريتس بولكستاين حول الإسلام والديمقراطية والعقلانية. ثراء جعل مؤلفاته ومصنفاته تحظى بكثير من المتابعة والدراسة والترجمات الى عديد اللغات، منها العربية. وبهذه المناسبة الأليمة، نتقدم في اتحاد كتاب المغرب بتعازينا لأسرة الفقيد ولأصدقائه وقرائه، في المغرب وفي الوطن العربي والإسلامي، راجين من العلي القدير ان يشمل الفقيد برحمته الواسعة، وان يلهم ذويه الصبر وحسن العزاء. إنا لله وإنا إليه راجعون. * هاشم صالح: محمد أركون ومشروعه كثيراً ما طرح عليّ هذا السؤال: لماذا كل هذا الإلحاح على اركون؟ ألا تعتقد بأنك تبالغ في أهميته؟ وما هو الشيء الذي قدمه للفكر العربي أو الإسلامي؟ وأعترف بأن التساؤل كان يحيّرني ويدهشني في كل مرة، فقد كنت اعتقد بأن الترجمات التي قدمتها حتى الآن (حوالي العشرة كتب وآلاف الصفحات..)، كافية للبرهنة على أهمية هذا المشروع وضرورته بالنسبة للعرب والمسلمين ككل. وأنا واثق من أن هذه الأهمية، سوف تتجلى للناس أكثر فأكثر بمرور الأيام، وإلا فإني أكون قد أضعت خمسة وعشرين عاماً من عمري عبثاً! عندما ابتدأت بترجمة اركون لم تكن مشكلة الأصولية المتعصبة قد أصبحت الشغل الشاغل للناس، كما هو عليه الحال في هذه الأيام، كانوا يضحكون عليك وأنت ذاهب لحضور دروسه في السوربون عن الفكر الإسلامي، كانوا يقولون لك بأننا تجاوزنا مرحلة الفكر الديني وأصبحنا ماركسيين، تقدميين من آخر طراز! فما بالك تشغل نفسك بأشياء قديمة عفى عليها الزمن؟ الشيء الذي كان يثير استغرابي لدى بعض المثقفين العرب «التقدميين»، هو الهشاشة والسطحية، لكيلا أقول المراهقة الفكرية. وكنت أجد عكس ذلك تماماً في الدرس الأسبوعي الشهير لاركون. فالرجل يأخذ التراث الديني على محمل الجد، ويعرف قيمته ووزنه التاريخي، ويعرف أن تجاوزه لا يمكن أن يتم بشكل ناجع، إلا من خلال مقارعته والدخول معه في معركة المصارحة الفكرية المفتوحة على مصراعيها. لماذا نجح مشروع اركون وفشلت كل مشاريع تجديد التراث أو نقد العقل العربي أو سوى ذلك؟ لسبب بسيط، هو انه يذهب إلى المشاكل الأساسية ولا يتحاشاها. ينبغي القول هنا بأن وجوده في جامعة أجنبية، يؤمّن له حرية في التفكير لا يمكن أن توجد في أي جامعة عربية، خاصة عندما يتعلق الأمر بتحليل الفكر الديني، وبالتالي فهناك بعض الأعذار لأصحاب المشاريع الأخرى الذين لا يتمتعون بهذا الامتياز، ويخافون بالتالي من طرق الموضوعات المحرمة، لكن هذا لا يكفي وحده لتفسير سبب نجاح الرجل في تشخيص المشاكل الأساسية للفكر الإسلامي. هناك أسباب أخرى ليس أقلها السيطرة الكاملة على المصطلح والمنهج، ثم المقدرة على تطبيق العلوم الإنسانية على تراثنا العربي الإسلامي من دون أن يبدو ذلك تعسفياً وكأنه مقحم من الخارج، يضاف إلى ذلك الجرأة الاقتحامية لمفكر شديد المراس. من يجرؤ على دراسة ظاهرة الوحي من وجهة نظر تاريخية ومقارنة؟ من يعرف كيف يطرحها من خلال ثلاثة تراثات دينية توحيدية وليس تراثاً واحداً ومن دون أن يقطعها بالضرورة عن مفهوم التعالي؟ من يعرف كيف يطبق على النص القرآني ثلاثة منهجيات متتالية: المنهجية الألسنية أو اللغوية الحديثة، فالمنهجية التاريخية والسوسيولوجية، فالمنهجية الفلسفية؟ بعدئذ تشعر وكأن القرآن قد أُضيء لك من كافة جوانبه واتخذ كل معانيه وأبعاده من خلال ربطه بلحظته التاريخية التي ظهر فيها: أي القرن السابع الميلادي، ثم من خلال ربطه بالنصوص الأخرى التي سبقته، وبعدئذ تشعر وكأنك قد تحررت من أثقال الماضي ونفضت عن ذاتك غبار القرون المتطاولة، بعدئذ تشعر وكأنك قد وصلت إلى المنبع الأساسي، إلى أصل الأصول، إلى غاية الغايات. لذلك قلت أكثر من مرة بأن منهجيته في دراسة التراث تشبه التحليل النفسي بالضبط، فهي تؤدي إلى تحرير الشخصية العربية - الإسلامية من الداخل، ودرجة درجة، خطوة خطوة. إنها تحرر الإنسان المسلم من كل التصورات الخاطئة أو الرؤى الغيبية والأسطورية التي تربّى عليها وتشرّبها بشكل عذب مع حليب الطفولة. لقد تربّى عليها وكأنها حقائق يقينية لا تناقش ولا تمسّ، ثم يجيء اركون لكي يفكّك له كل ذلك حجرة حجرة، وجداراً جداراً، ويقول له كيف حصلت الأمور بالضبط، وعندئذ يفهم عبارة نيتشه المرعبة «آه أيتها الحقيقة، يا أكبر كذبة في التاريخ!»، عندئذ يتمكن من تشكيل صورة تاريخية ناضجة عن تراثه ويحقق مقولة كانط، فيلسوف التنوير الأكبر، ومعلوم أنه كان يعرّف التنوير على أساس انه انتقال البشرية من مرحلة التصور العقلي والتصورات الطفولية الساذجة، إلى مرحلة سن الرشد والبلوغ العقلي. ****** مقتطف من حوار مطول مع المفكر محمد أركون: أطرح قضية الظاهرة الدينية كظاهرة بشرية ولا أكتفي بدراسة ما يخص المسلمين استضاف برنامج روافد بقناة العربية المفكر محمد أركون، حيث انصب الحديث حول مجمل القضايا التي ينشغل أركون بدراستها وبالبحث فيها. قدم له منشط البرنامج علي الزين بالقول إن «الحوار مع الدكتور محمد أركون يستدعي جهداً في الإصغاء يوازي جهده في استنباط المفاهيم والمصطلحات، فهو مفكر موصوف بالصعب فهمه، ولكن حين تجالسه تدرك لغزه في إضاءاته لما ينبغي أن نتبينه في تاريخنا وفي حياتنا الفكرية». في ما يلي مقتطف من هذه المقابلة: * يقول الأصفهاني:إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا وقال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو ترك ذلك لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر، يعني كم من مرة أو كتاب حدث معك هذا؟ - كل يوم، كل ما أكتب صفحة يحدث لي هذا، وتحدث هذه الأسئلة في بالي لأني أريد دائماً أن أضع نفسي في مكان القارئ المتلقي، كيف القارئ يتلقى هذه الجملة التي أكتبها. * أنت من المفكرين الذين صرفوا سنوات عمرهم في البحث وفي الدراسات الإسلامية، مدفوعاً بهاجس أو بهمّ التنوير، بهمّ التحديث بهم القراءة العقلانية للنص التراثي وفق المعايير معايير التاريخ ومعايير اللغة ومعايير علم الاجتماع، يعني السؤال هو لماذا هذا الإصرار دائماً على إعادة قراءة التراث؟ - المشكل الأساسي فيما يتعلق بكتابة تاريخ الفكر الإسلامي هو أننا لا نزال عندما ندّرس تاريخ الفكر الإسلامي، نذكر ما أُطلق عليه لقب العصر الذهبي، ويسمى أيضاً العصر الكلاسيكي للفكر الإسلامي أو للمدنية الإسلامية، وهذا العصر الذهبي ينطلق من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وبعد القرن الثالث عشر ننتقل إلى فترة التقلص فترة التفتت وفترة النسيان، النسيان وهي ظاهرة تاريخية مهمة جداً، بمعنى أن أكثر ما كُتب في الفترة الكلاسيكية لم يعد يُدرس، لم يعد يُقرأ لم يعد يطلّع ويعتني به المسلمون أنفسهم. * لماذا بتقديرك؟ - هذا سؤال تاريخي، يجب على الباحث أن يعتني بهذه الفترة الممتدة من القرن 13 إلى القرن العشرين والقرن ال21 الذي الآن نحن نعيش فيه، لماذا وقع هذا التقهقر وهذا النسيان المتزايد وهذا الانفصال أو القطيعة عن تلك الفترة التي نسميها العصر الذهبي، وهذه الفترة لم يدرسها بعد المؤرخون، المؤرخون الغربيون الذين يعتنون بالإسلاميات، والمؤرخون المسلمون أيضاً لم يعتنوا بها إلى وقتنا هذا، ولذلك لا يمكننا أن نقدم شرحاً كاملاً وافياً لندرك الأسباب التي جعلت المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات الناطقة باللغة العربية لم تهتم بالتراث الكلاسيكي، وأمر آخر أهم مما ذكرنا هو أن الغرب الذي هو قريب منا نحن نعيش في نفس المنطقة، الغرب انطلق في ذاك القرن الثالث عشر في إحداث وإبداع أنواع جديدة من التفكير. وابتدأ الصراع بين الفكر اللاهوتي الذي كان طاغيا، ويراقب يفرض رقابته على سائر العلوم بالغرب ليتحرر العقل العلمي والفلسفي. * هذا الاشتغال على التراث الديني بشكل عام هو من أولويات المفكر النقدي اليوم، فلماذا نجد معظم المفكرين محاصرين تقريباً بالمسائل التراثية؟ هل هذا ناتج إذا صح القول عن همهم في تحرير العقل الفلسفي من طغيان العقل اللاهوتي كما فعل ديكارت سابقاً أو سبينوزا أو فولتير وسواهم في أوروبا؟ - لا أظن أن الكثير منا يعتني حقيقة بتحرير العقل لا من ضغط الفكر الديني، ولكن من ضغط القوى التاريخية كالقوة الاقتصادية، القوة السياسية قوة الأنظمة السياسية الغالبة في مجتمعاتنا، هذه القوة العاملة في إنتاج تاريخ مجتمعاتنا لم ندرسها بعد، لأنها هي التي تكيف عمل العقل العربي اليوم، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين وهو نصف الحروب من أجل الاستقلال، وأيضاً من أجل بناء الدولة الأمة التي كانت الشعوب تتوق إليها، إذن اشتغلنا بالخطاب الإيديولوجي، اشتغلنا بالخطاب للنضال لبناء الأمة وللرد على الغرب الذي ما زال حتى بعد الاستقلال يفرض سلطته الاقتصادية، سلطته الفكرية، إذاً لم نعتن بتشجيع وبتكوين القاعدة العلمية الصحيحة ليتحرر العقل، ليس فقط من طغيان الدين عليه، ولكن من طغيان هذه الدواعي والعوامل التي ذكرتها. * ألا تظن أنه مر الكثير من الزمن ما يقارب 1000 عام من المراوحة في دائرة مغلقة؟ - كنا على وشك الخروج من هذه الدائرة المغلقة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لأننا في تلك السنين طرحنا قضية الاستعمار، وقضية أسباب الاستعمار. الأسباب التي جعلت الغرب يغزوا بلداننا ويستعمرونها ويفرضون سلطتهم وسيادتهم السياسية علينا، هذا بحث علمي، بحث تاريخي ولكن لم نواصل هذا البحث، قد انقطعنا عن هذا البحث بعد الاستقلال، وبعد الاستقلال اعتنينا ببحوث أخرى، كيف نبني أمة تعاصر الأمم المتقدمة؟ كيف نملأ الفراغ الثقافي والعلمي والتكنولوجي الذي يفصل بيننا وبين الدول المتقدمة واعتنينا بهذا، ولكن لم نعتنِ بجانب آخر من الأهمية بمكان وهو الاعتناء بتدريس علوم الإنسان والمجتمع، ولذلك لا نزال إلى اليوم ضعفاء جداً في تدريس مثلاً علم اللسانيات الذي هو علم أساسي بالنسبة لنا، لأننا اليوم نعيش على نصوص دينية مقدسة، من ذا الذي يقرأ هذه النصوص المقدسة الدينية على طريقة علمية، كما كان فخر الدين الرازي مثلاً يستعين بجميع علوم اللسان وعلوم التاريخ وعلوم الطب وعلوم الفلسفة وعلوم اللاهوت وعلوم الفقه ليفسر القرآن، وليكتب ذاك الكتاب الضخم: مفاتيح الغيب، كيف نقرأ القرآن اليوم؟ بأي أسلحة علمية نحوية لسانية معجمية نقرأ القرآن اليوم؟ علماء الفقه أصول الفقه كانوا يفتحون جميع كتبهم في أصول الفقه كانوا يفتحونها بمقدمة على اللسان العربي، لا يتكلمون عن الفقه ولا على أي شيء آخر، لأنهم كانوا واعين بأن مهمتهم أن يقرؤوا نصاً ناطقاً باللغة العربية، اليوم جميع المعلومات التي نكتسبها من الكتب القديمة فيما يتعلق بالنحو العربي مثلاً لا يمكن أن نعتمد عليها، لأن هناك علم آخر جديد عصري يسمى علم اللسانيات. * يجد البعض أنك تكتب بطريقة يصعب فهمها إلا لدى القليل، لدى النخبة أو بعض المختصين في هذا المجال، هل هذا ناتج عن الضرورة البحثية؟ أم هو مثلاً ضرب من الضروب الذكاء الأكاديمي إذا صح التعاطي مع ما نسميه الخط الأحمر؟ - نعم هناك خط أحمر موجود ويؤثر هذا على جميع المواطنين العرب بصفة عامة، وليس فقط المثقفين، هذا موجود وموجود في كل مجتمع حتى المجتمعات الديمقراطية بأوروبا موجود، ولكن النقطة الأساسية هي الأولى التي ذكرتها، وهي ما يقتضيه الفكر العلمي اليوم، اليوم معناه: مواقف العقل المفكر في إطار ليس الحداثة كما تعودناها، لأن الحداثة أصبح لها تاريخ، وأصبح لها فترات متتابعة، والفترات الأولى الآن موضوع تاريخ وليس موضوع ممارسة، ما هو إطار الممارسة للعقل في بداية القرن 21 بعد حادثة 11 سبتمبر، لأن 11 سبتمبر أثرت تأثيراً بليغاً على معاملة العقل مع قضايا المعرفة، غيّرت موقف العقل مثلاً فيما يتعلق بتفسير المجتمعات الغربية، بالبنيات الخاصة للمجتمعات الغربية، والفكر الغربي داخل الغرب الذي يتساءل عن هذه المجتمعات وعن القوة المتعاملة في هذه المجتمعات الأسئلة تغيّرت، ولا بد إذاً من التكيف علمياً مع هذه التغيرات التي تؤثر على المجتمعات، والتي تجعل الفكر مجبر أن يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات الفكرية، التغيرات الفكرية معناه المعجم، معجم الاستراحات مثلاً في علم الاجتماع، في علم النفس في علم اللسانيات الذي كنا نستعمله في السبعينات والثمانينات، غير المعجم الذي يجب أن نفرضه اليوم. أريد أن أفتح هذه الفضاءات الجديدة أمام القارئ العربي، وأمام المدرس العربي في المدارس الثانوية، وأدعو أساتذة المدارس الثانوية أن يقرؤوا مثل هذه الكتب حتى يبلغوها إلى الشبان الذين يقرؤون في الثانويات، وإلا كيف ينطلق العقل العربي من الممارسة التقليدية التي نعيش فيها، والتي تزيد تقهقراً، تزيد تأخر لما نسميه العقل العربي. * طيب لمن يكتب محمد أركون؟ لمن تكتب بخاصة أنك تكتب بالفرنسية وعن قضايا لا تخص الفرنسيين أو الغرب بشكل عام أو مباشر، بل تخص العرب والإسلام؟ - أتوجه إلى جميع من يعتني بالعصر الحديث بتفهم وتفهيم ما يجري في هذا العصر لجميع الثقافات ولجميع الأنظمة الفكرية، المسيحي مثلاً يمكنه أن يستفيد مما أكتبه، البوذي في آسيا والهندوسي في آسيا إذا قرأ ما كتبته في العلوم القرآنية يستفيد منها، لأنني أطرح قضية الظاهرة الدينية كظاهرة بشرية ولا أكتفي بدراسة ما يخص المسلمين، وهذا أيضاً أعمل هذا لأفتح آفاق للمسلمين اليوم، آفاق فكرية ومعرفية، لأننا لا يمكننا أن نتفهم الإسلام إلا إذا قمنا بتاريخ وأنثروبولوجيا مقارنة للأديان المتواجدة والمتحاورة اليوم على مستوى العالم، هذا هو الهدف والمقصد الأسمى كما كان يقول الغزالي. * أكثر من 50 سنة وأنت في باريس، فإلى أي مدى حررتك فرنسيتك من مسألة الرقابة الذاتية؟ أم أن تأثير الموروث ما زال يؤثر على عملية التفكير والإبداع عندك؟ - بما أني لا أريد أن أقطع الصلة أبداً بين القارئ العربي والمسلم، لا يمكنني أن أتحدى هذا القارئ بطرح أسئلة تجرحه، وتجعله يرفض التواصل الفكري والعلمي. لكن دون الإعراض أبداً عن ضرورة النقد والتساؤل ، هذا لا أتخلى عنه مهما كان. الجمهور الذي أخاطبه، ومهما كانت القضية التي أطرحها وأحللها، دائماً يجب أن يكون الموقف النقدي هو الذي يسيّر ويدفع العقل في جميع ما ينطق به ويقترحه، ولكن عندما نخاطب جمهورا مثلاً لا يعرف ما معنى الاستدلال التاريخي بالمقارنة إلى الاستدلال بالخطاب بالميثولوجي هذا هو المشكل. * أنت كل ما تفكر به تستطيع أن تكتبه؟ - أحاول ويجب أن نستمر في الاجتهاد هذا، ولكن اجتهاد على مستوى آخر، غير الاجتهاد الذي تعودناه ولا نزال نكرر أن هناك اجتهادا ويجب أن نرجع للاجتهاد. هذا كلام بعيد كل البعد عن إجهاد العقل. ******* *نبذة عن حياته ولد عام 1928 في بلدة تاوريرت ميمون (آث يني) بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت) حيث درس دراسته الابتدائية بها. ثم واصل دراسته الثانوية في وهران، قبل أن يدرس الأدب العربي والقانون والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر ثم بتدخل من المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون قام بإعداد التبريز في اللغة والآداب العربية في جامعة السوربون في باريس. ثم اهتم بفكر المؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه الذي كان موضوع أطروحته. فارق الحياة في 14 سبتمبر 2010 عن عمر ناهز 82 عاما بعد معاناة مع المرض في العاصمة الفرنسية، ووري الثرى بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء، حسب وصيته. - فكره : يتميز فكر أركون بمحاولة عدم الفصل بين الحضارات شرقية وغربية واحتكار الإسقاطات على أحدهما دون الآخر، بل إمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب من الآخر، وهو ينتقد الإستشراق المبني على هذا الشكل من البحث. - مسيرته الأكاديمية: عُين محمد أركون أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون عام 1980 بعد حصوله على درجة دكتوراه في الفلسفة منها، وعمل كباحث مرافق في برلين عام 1986 و1987 . شغل ومنذ العام 1993 منصب عضو في مجلس إدارة معهد الدراسات الإسلامية في لندن. - مؤلفاته : يكتب محمد أركون كتبه باللغة الفرنسية و بالإنجليزية وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات من بينها العربية والهولندية والإنكليزية والإندونيسية ومن مؤلفاته المترجمة إلى العربية: 1- الفكر العربي 2- الإسلام: أصالة وممارسة 3- تاريخية الفكر العربي الإسلامي أو «نقد العقل الإسلامي» 4- الفكر الإسلامي: قراءة علمية 5- الإسلام: الأخلاق والسياسة 6- الفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد 7- العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب 8- من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي 9- من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ 10- الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة. 11- نزعة الأنسنة في الفكر العربي 12- قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟ 13- الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي 14- معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية. 15- أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ 16- تاريخ الجماعات السرية - الجوائز التي حصل عليها من الجوائز التي حصل عليها: - ضابط لواء الشرف - جائزة بالمز الأكاديمية - جائزة ليفي ديلا فيدا لدراسات الشرق الأوسط في كاليفورنيا. - دكتوراه شرف من جامعة إكسيتر عام 2002 . - جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003