لا يمكن فهم ظاهرة الإسلام المعاصر أو ما يسمى بالأصولية إذا لم ينتبه الدارس إلى انغراسها في التاريخ، وأنها ليست وليدة عوامل ظرفية آنية، بل هي ظاهرة معقدة تستخدم معجما دينيا منتقى بعناية، وتمارس طقوسا وشعائر مضبوطة من أجل إضفاء المشروعية على ممارساتها السياسية. وعليه، يتعين على الباحث- لفهم هذه الظاهرة- أن يلجأ إلى العلوم الاجتماعية، وأن يوظف المنهج المقارن (مقارنتها بالأصولية المسيحة مثلا) لأنه السبيل المساعد لفهمها وتفهمها. فالأصولي هنا وهناك هو ذلك الشخص الذي يرفض وضع أصول "الإيمان" على محك النقد. وعندما يلتجئ إلى النص الديني، فإنه يقتطع منه جزءا (آية) ويوظفه توظيفا يخدم أهواءه. وبذلك يساهم في عملية التحويل على غير وعي منه، ويصبح هذا الانزياح أصلا أصله المفسرون والفقهاء، وأسبغوا عليه أصولا إلهية بواسطة القياس. فنشأ بذلك الخطاب الأصولي أو ما أصبح يعرف بالأصولية. فالأصولية إذن من هذا المنظور تعني حسب أركون تحويل الخطاب الديني المنفتح إلى أصل لكل قانون صحيح ينبغي ان يوجه فكر وسلوك البشر ويسطر لهم طريق النجاة. ولعل غياب مراجعة نقدية لهذه الأصولية ساهم في إبقائها متبوئة لكرسي الزعامة داخل الحركات السياسية الأخرى، وأصبحت تشكل مرجعا أساسيا للمسلمين اليوم، وبدأ الفكر النقدي يضمر على حساب الفكر الوثوقي الضارب بجذوره في الماضي. فالحركات الإسلامية المعاصرة هي مدينة لا لسيد قطب أو لحسن البنا أو لدعاة الإصلاح في القرن التاسع عشر الميلادي فحسب، بل يمكن الرجوع بها إلى ما قبل ذلك التاريخ، أي إلى السلفي ابن تيمية (1328م) أو الغزالي (1111م) أو حتى الشافعي (820م). فهذا الأخير هو واضع الأصول (أصول الفقه)، ومعه يمكن تلمس بداية نشأة عقل إسلامي. إلا أن أصولية اليوم هي غير أصولية الأمس، لأن هناك عوامل لم تكن موجودة قبلا ساهمت في نشأتها. ولعل من بينها ظاهرة العولمة باعتبارها فعلا ساهم بكيفية أو بأخرى في توليد رد فعل ضدها تمثل في مواقف وردود أفعال الحركات الأصولية ضدها. كما أن لهزيمة 1967 وفشل الناصرية والتجارب القومية، واندحار الاتحاد السوفياتي والانفجار الديمغرافي وسوء التنمية، والآثار المدمرة للاستعمار والتيه الثقافي، أثرها البارز في نجاح هذه الحركات الأصولية. وهناك من الدارسين من يربط انبثاق هذه الحركات الأصولية بالشرائح الوسطى من المجتمع العربي قبل تفككها وتشظيها في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، حيث أدانت الكل عربيا وغربيا. فكانت بذلك تعبيرا عن وضعية متأزمة في وجه التقدم العربي. هناك إذن عوامل داخلية وأخرى خارجية تحكمت في انتشار الحركات الأصولية واستقطابها لفئات اجتماعية واسعة ولعل الخيبات المتعددة والمآسي المتكررة التي حاقت بالشعوب العربية والإسلامية والتناقضات والصراعات الناتجة عن أنماط الحياة الجديدة، هي التي دفعت بهذه الحركات الأصولية إلى أن ترفع شعار "الإسلام هو الحل" وترفض ما عداه، منخرطة في مواجهة مع الحداثة. فهل تشكل الحداثة فعلا أداة خطيرة في نظر الأصولية يجب محاربتها؟ أم يجب التعامل معها بمنطق براغماتي يمارس الترقيع والبتر؟. صحيح، هناك رأي شائع يرى أن هذه الحركات الأصولية هي رد فعل ضد الحداثة يتسم بالرفض وبالحنين إلى الأصول. إلا أن هذا الرأي يتضمن حكما مسبقا يتعين تصحيحه. فالأصولية هي فعلا رد فعل ثقافة تقليدية ضد الحداثة كحضارة وثقافة، لكنه رد فعل تكيفي وتوفيقي. فالأصولية تدخل مع الحداثة في علاقة مركبة حبلى بالمساومات والتنازلات. فالتقليد يتزيا بالحداثة ليستمر، فيما تتلبس الحداثة التقليد لتفرض ذاتها كما يرى الدكتور محمد سبيلا. ولعل من مفارقات هذه الأصولية هو أخذها بمادية الحداثة (وجهها التقني) ورفضها لثقافتها (أي للروح الفلسفي الضمني الثاوي وراءها). فهي تقبل المعارف في مجال العلوم الحقة، وترفض المذاهب الفكرية والفلسفية المعاصرة كالماركسية والتحليل النفسي ... وتدعو إلى أسلمة المعرفة في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما أنها في المجال السياسي تقبل باللعبة الديمقراطية (الدخول في الانتخابات وقبول فكرة الدستور والأحزاب وتداول السلطة)، إلا أن قبولها بها يفقدها كثيرا من مصداقيتها، وينزع عنها، كما يرى بعض الدارسين، صفة الإسلام، ذلك أن الإسلاموية والديمقراطية لا يمكن إطلاقا أن يجتمعا. فالإسلاموي يستمد تشريعه من الله فيما يستمده الديمقراطي من الشعب. وربما كان شعور الأصولي بهذه المفارقة هو ما دفعه إلى الدعوة إلى قبول الديمقراطية شريطة أن تتم أسلمتها. فما المقصود بأسلمة المعرفة في خطاب الإسلام السياسي المعاصر؟ وما هي مهمتها ؟. تروم أسلمة المعرفة تقديم فهم أصولي للمعرفة يحجم بعدها الكوني ويربطها بتصور معين يلغي ما عداه. فأسلمة المعرفة هي بهذا القصد تقديم فهم خلاصي للمعرفة الإسلامية إبستمولوجيا وسياسيا. ومهمتها تتمثل في استحضار خطابين اثنين: خطاب سجال وخطاب إيجاب. فالأول ينقض المناهج العلمية الموظفة لتحليل المجتمع والسياسة بدعوى الخصوصية. والثاني يقوم على حصر وقائع التاريخ في دائرة المنظور الإسلامي تلبية لمشروع سياسي يربط بين التاريخ والمآل. وهنا ينكشف الوجه الإيديولوجي لأسلمة المعرفة وعمقها اللاعقلاني، باعتباره موقفا طاغيا على الحياة السياسية وعلى الخطاب الإيديولوجي العربي. وسيستثمر التيار الأصولي المعاصر هذه المقولة الإيديولوجية ليروج لخطاب لاعقلاني باتر ومبتور. وقد أحيت الخمينية وحركات الإخوان المسلمين بمصر، هذا الاعتقاد بوجود هذه الاستمرارية في التاريخ، مفسرين التاريخ الأرضي باللجوء إلى التعالي وموظفين الدين لأغراض سياسية. فهذه الحركات الإسلاموية ذات الطابع الفسيفسائي المعقد تملك قدرة هائلة على تعبئة الجماهير وعلى تحريك المتخيل الاجتماعي وتغذيته، معتمدة التطبيق الحرفي للدين، رافضة كل تأويل يربط النص بمشروطيته التاريخية. وقد بدأ الإسلام السياسي يفرض نفسه على الساحة العربية والإسلامية والدولية منذ ظهور جماعة الإخوان المسلمين بمصر سنة 1930، وجماعة التبليغ في الهند عام 1928، والجامعة الإسلامية العالمية سنة 1962، ومنظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969. ومنذ ذلك الحين (أي بداية السبعينيات) بدأ يتضاعف عدد الحركات الإسلامية وتزامن صعودها مع نهاية الإيديولوجيات العلمانية في الغرب، وكذا مع نهاية اليقينيات في مجال العلم البحت. وأصبحت الأصولية الإسلامية هي القطب المضاد للغرب ولحداثته، بعد انهيار الشيوعية كما يصرح بذلك محمد أركون. ولفهم هذه الحركات الأصولية ولوضعها في إطارها التاريخي الصحيح يجب عدم الالتفات إلى منطوق خطابها، بقدر ما يجب التنقيب في البياضات والمسكوت عنه فيه. كما يجب البحث كذلك في أصولها الثقافية والنفسية واللغوية من خلال إدراجها في الحركات الأصولية لمجتمعات الكتاب، لأن المنهج المقارن يسعفنا كثيرا في فهم هذه الظاهرة، لأن الديانات التوحيدية تنخرط جميعها في نفس الفضاء العقلي الوسيط، وبالتالي فهناك ثوابت أو قواسم مشتركة تحيل إلى الظاهرة المدروسة. كما تجب الإشارة كذلك إلى وظائف الأصولية في ظل نظام العولمة. هذا مع الإشارة إلى مواقف المسلمين فيما يتعلق بظاهرة الأصولية. وإذا كانت هذه النزعات الأصولية تحفظ لنفسها حق الدفاع عن الهوية الإسلامية خوفا من الضياع في عالم العولمة، فإن القراءة النقدية تقتضي تفكيك الخطاب الأصولي ومحاولة القبض على آليات اشتغاله التي تجسدها دعوة الرجوع إلى الأصول، أي أصول الفقه وأصول الدين. فتفكيك العقل الإسلامي هو الذي سيسمح لنا بالدخول في النظام الثقافي والفكري للحداثة التي قلنا سابقا أن الأصولية تتعامل معها بطريقة انتقائية. وهذا النقد هو الذي سيحد من مزاعم الأصولية امتلاكها نموذجا مثاليا للمجتمع الإسلامي الذي تحلم به، والذي تترجمه عبارة "العودة للأصول" لأن هذه العبارة كما يعبر عنها في الخطابات الإسلامية المعاصرة ليست سوى أثر منحرف للوضع السياسي الذي تتخبط فيه الجماهير ويعكس أيضا الفراغ الثقافي في الفكر الإسلامي المعاصر. ولعل محاولة الأصولية "تأصيل الأصول" سواء من خلال نظرية تطبيق الشريعة التي ينادي بها التيار المعتدل، أو من خلال نظرية"الحاكمية" التي يؤمن بها التيار الجهادي أو المتطرف، هو ما جعلها تسقط في فخ العنف وتعمل على شرعنته. فالعنف حسبها جهاد وهو ليس سوى حرب مقدسة تستهدف ثني الأمم عن غيها والعودة بها إلى الإسلام الطاهر والنقي. فالمسملون الأول كانوا يمارسونه باسم الدين، في حين لم يكن الجهاد سوى وسيلة للتوسع الجغرافي، أي عبارة عن غزوات كان ينفذها الرحل ولكن لطفوها بأوامر القرآن حسب عبارة بات يور Bat Yor. لذا يدعو أركون ?في هذا المقام- إلى إعادة قراءة الآية الخامسة من سورة التوبة قراءة حداثية، تأخذ بعين الاعتبار احتياجات الإنسان المعاصر، مصفية الحساب مع القراءة المتحفية الفاقدة لكل روح. وهذا ما نبه إليه "مالك شابل" في أحد اقتراحاته السابعة والعشرين(27)، حيث كان يروم تقديم تفسير جديد للنص الديني يأخذ بعين الاعتبار التاريخ في الحسبان، ويجيب عن الأسئلة المطروحة من لدن المسلمين في الوقت الراهن، ويقطع الطريق على أطروحة الأصوليين التي تهدف إلى استدماج الحداثة في الإسلام التقليدي. كما يستهدف هذا التفسير الجديد، تجديد الفهم وأدوات المعالجة، حتى يصبح نظرية كاملة مستقلة بذاتها، تساهم في تعميق وعي المسلم وتحسيسه بقضاياه ومطالبه، وتقطع الطريق على الفهم الأصولي الذي بدأ يترسخ منذ القرن (13م). فمنذ لحظة السلاجقة في القرن (11م) بدأت تطفو على السطح ظاهرة معاداة الفلسفة والاتجاه العقلاني التي تعود إلى "ابن بطة" والخليفة القادر وستتوج مع الغزالي وابن تيمية وابن الصلاح، وبدأ التعليم التقليدي الدوغمائي يهيمن في الساحات العمومية. ولتفكيك الخطاب الأصولي بأثوابه المتعددة ?إذ ليس هناك فرق بين خطاب إسلامي معتدل وآخر متطرف، فهما وجهان لعملة واحدة. وإذا ما كان هناك من فارق بين النمطين فلا يعدو أن يكون فارقا في الدرجة لا في النوع- يتعين الوقوف على منجزات الحداثة الغربية والتعريف بها كما يقول أركون عبر نقلها بواسطة برامج التعليم إلى العرب المسلمين وآنذاك سنشجع حركة تنويرية ستساهم في تفكيك العقل الإسلامي التقليدي ومحاصرة المد الأصولي وجعله يعيد النظر في منطلقاته ومبادئه. وأولى المهام المنوطة بهذا المشروع هو قراءة التراث قراءة حداثية، تستهدف إضاءة الماضي في ضوء الحاضر، لا قراءة إسقاطية كما يفعل الأصوليون، وإنما قراءة واعية بحدودها ومجال صلاحياتها، إذ كيف يمكن تكوين هوية إسلامية إذا لم تكن لدينا معرفة علمية بالماضي، علما أن الدول الأصولية التي تستمد مشروعيتها السياسية من الماضي والتي لا تهمها هذه الدراسة العلمية للماضي، تقضي وقتها في مصادرة الكتب التي تحاول إضاءته. معنى هذا أن كل نزعة تحديثية لا تجد مكانا لها في الخطاب الأصولي أو في ذهنية التحريم هذه كما يسميها المفكر صادق جلال العظم. فالإسلاميون هم أعداء التحديث، بمعنى أن نظرياتهم ما ضوية يستحيل تطبيقها في الحاضر، ممارسين استراتيجية الرفض على كل ما هو جديد. وهم من جهة أخرى ضحايا هذا التحديث المبتور في البلاد العربية. كما أن من مهام هذا المشروع الأركوني كذلك، جعل المشروع الحداثي الغربي محل مساءلة ونقد، وذلك بإبراز جوانبه المشرقة قصد الإفادة منها وتطويرها وإبراز مثالبها قصد تجاوزها. ويسعى العقل الاستكشافي إلى أن يتبوأ مكانة مرموقة على حساب العقل الإعلامي التواصلي (الأداتي) الذي أفرزته العولمة. فمهام هذا العقل متعددة. فهو يمارس التحليل والمقارنة والنقد والتفكيك لكل أنظمة الفكر والتراث الثقافي المكتوب أو الشفهي والذي كان قد انتشر وتنافس في حوض البحر الأبيض المتوسط، بمعنى ينبغي أن ينصب التحليل والنقد على الظاهرة الدينية في تمظهراتها التوحيدية الثلاثة بمعيار أنتربولوجي يعتمد منطق المقارنة لا بهدف المفاضلة، ويربط العنف بمكونيه الآخرين: المقدس والحقيقة، ولا يفصله عن بعده التاريخي.