زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آفة الطائفية وحاجتنا إلى ثورة ثقافية وسياسية
نشر في الرأي المغربية يوم 10 - 02 - 2014

تشكل الطائفية أحد العناوين البارزة للصراع الدائر اليوم في المشرق العربي، الذي يستنزف إمكانات شعوب المنطقة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية...، ويحرف معاركها الحيوية والاستراتيجية؛ فبدل أن تتجه الجهود والطاقات إلى معاركة التخلف، والجهل، والتصنيع، والابتكار، والإنتاجية، ورفع القدرة التنافسية اتجاه الأجنبي...، نجد الكل – تقريبًا - مشغولًا ومستنزفًا في معارك الهوية، وأسئلة الانتماء الطائفي، وحسابات «الفرقة الناجية».
إن المعارك الطائفية مهما كانت أسبابها والجهات المسئولة عنها هي – بالتأكيد – عجلات تدور إلى الوراء لا إلى الأمام، وكل من ركبها – سواء أدرك ذلك أم لم يدرك – اختار معاكسة التاريخ، والسير نحو الماضي، ومن ثم فالدينامية السياسية والثقافية التي يعيشها المشرق العربي، وبشكل سافر منذ احتلال العراق سنة 2003م، وإلى الحرب السورية الجارية أطوارها اليوم هي دينامية طائفية بامتياز، رجعت بالأمة عقودا إن لم يكن قرونا إلى الوراء، وشغلتها عن تحدياتها المصيرية، وأضعفت مكانتها في المجال الإقليمي والدولي، ومكنت أعداء الأمة المتربصين بها من فرص للعبث بالمصير الجماعي والفردي للعرب.
إن الردهة التي سقطت فيها الأمة في السنوات الأخيرة بسبب طغيان الروح الطائفية، تطرح على العقلانية الإسلامية أسئلة عميقة وصعبة من قبيل: ما طبيعة الطائفية التي نعاني منها اليوم؟، هل هي من نفس الطبيعة التي عانى منها العرب في بعض الفترات التاريخية أم خلقا جديدا؟، وما هي الأسباب الموضوعية المباشرة وغير المباشرة وراء العودة القوية للتعصب الطائفي في المجال العربي؟، وكيف يمكن تأهيل الجماعة العربية، وانتشالها من المأزق الطائفي، وتجديد صلتها بالعصر وتحدياته التاريخية؟.
من المفاهيم الأساسية التي تكشف عن الوجه البشع للطائفية بالعالم العربي مفهوم الآخر، الدال على الغير، المنافس، المقابل، المختلف...، فمنذ مدة قصيرة كان الآخر في الثقافة العربية ينصرف إلى الغرب الرأسمالي أو الاشتراكي، ويتم التنظير للعلاقة والحوار والإفادة منه باعتباره معطى مفارق للذات العربية، وفي تصورات أخرى كان يقصد بالآخر الغرب المسيحي أو الشرق الكونفوشيوسي.. إلخ. وقد تحدث بعض المفكرين العرب في هذا السياق عن الآخر الذي لم يعد كيانا مفارقا لنا، بل أمسى ممتدا فينا، مشيرين إلى التيارات الاشتراكية والليبرالية التي نشطت في الوطن العربي بعد الاستقلالات الوطنية، أما في ظرفنا الحالي، فقد أصبح الآخر جزءًا من الذات، يعني السني مقابل الشيعي أو العكس، أو المسيحي مقابل المسلم.
فمن أبشع مظاهر الطائفية وشرورها التي يعانيها العرب اليوم، هو انشقاق «نحن»، انشقاقا مذهبيا، جعلنا «عربا سنَّة» و«عربا شيعة» و«عربا مسيحيين»، وهي توصيفات كانت مهملة ولا يلتفت إليها قبل قرابة خمسة عشر عامًا، وقد استتبع هذا الانشقاق مجموعة من الأوصاف السلبية الأخرى من قبيل الرافضة، والكفار، والطائفة الناجية، والمواطنة السلبية، المد الشيعي، المد السني... إلخ.
إن مشكلة الطائفية اليوم، لا تكمن في انتساب بعض العرب إلى مذهبيات معينة، كالمذهب السني والمذهب الشيعي وما إلى ذلك، فهذا أمر طبيعي، وتعايش معه العرب والمسلمون قرونا عديدة، دون أدنى مشكلة، باستثناء أحداث محدودة، كما لا تخلو منه أمة من الأمم، بل المشكلة تظهر عندما يتحول الانتساب الطائفي إلى برنامج سياسي، الغاية منه خدمة الطائفة، وتوظيف الإمكانات السياسية لأجل ذلك، والعمل على توسيع نفوذها على حساب بقية الطوائف، مع ما يعنيه ذلك من تهديد للحريات، وقمع وملاحقة، وتمييز عقدي، وإقصاء... إلخ.
وينشأ عن هذا التحول في مفهوم الانتساب الطائفي انحراف خطير في الصراع الاستراتيجي للجماعة، فبدل الصراع على المصالح الاقتصادية، والموارد الحيوية للأمة، ومكانتها الحضارية بين أمم الأرض، التي تجعله بالضرورة صراعا خارج حدود الأمة، ومع منافسيها الإقليميين والدوليين، يتحول الصراع إلى صراع على الهوية والنسب، الذي يحيل بشكل تلقائي إلى تمايزات الداخل، والهويات المحلية، الشيء الذي يزيد من تأزم الأوضاع، وانحطاطها.
وبناء عليه، فمعضلة الطائفية التي يعاني منها العالم العربي اليوم، نجمت عن تحول «المذاهب» تدريجيا إلى تيارات وبرامج سياسية، وقد ابتدأ هذا الأمر مع ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة في المناطق السنية والشيعية، ولو أن تمايز المرجعية المذهبية لدى هذه الحركات في البداية، لم تكن واضحة، ويدل على ذلك إقبال الحركة الإسلامية الشيعية في بدايتها على المراجع الحركية السنية، أمثال كتابات حسن البنا وسيد قطب وغيرهما. وقد تعرض الباحث اللبناني سعود المولى في دراسة له حول «المرجعية والحزب والدولة المدنية والمواطنة في الفقه الشيعي» لهذه النقطة، وبين بالأدلة هذا التداخل المرجعي بين الحركة الإسلامية السنية والشيعية انطلاقا من المثال العراقي.
ففي الوقت الذي كان ينتظر من الحركة الإسلامية معالجة قضايا النهضة والإصلاح، والتشبث بها، وجدناها تغذي بشكل غير مقصود – في بعض الأحيان – الشعور الطائفي، وخاصة مع تعاظم التأثير السلفي في المراجع التربوية الحركية، فعلى سبيل المثال كان حسن البنا رحمه الله يوصي شباب الإخوان بالتسامح مع الشيعة، وينهاهم عن تكفيرهم، ويعتبر الخلاف بين الفريقين خلافًا في الفروع. وقد تعززت العلاقات بين الطائفتين في الأربعينيات من القرن الماضي، وتحديدا سنة 1948م.
وعموما، إن التفكير في الشأن السياسي والإصلاحي من المنطلق المذهبي، والسعي لتأطير كل الحلول السياسية تأطيرا مذهبيا (شرعيا)، يعزز بالضرورة – مع مرور الوقت - الانتماء المذهبي ويعضده، وهو ما يؤدي في الناحية الأخرى إلى تصاعد حدة الخلاف الطائفي، وخاصة بين السنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين. ولو أن هذا الخلاف كان يخف أواره في لحظات الصراع مع الغرب والكيان الصهيوني، لكنه سرعان ما يعود في لحظات الهدوء، وبمناسبة بعض الأحداث والنزاعات الإقليمية، ومن ثم لم تفلح الحركة الإسلامية في تخطي الحدود المذهبية، بل على العكس من ذلك عملت على إعادة بنائها، وإعادة تعريف السنة والشيعة وغيرها من المفاهيم المرتبطة بهما، وبالتالي سرعان ما تحولت إلى رأس حربة في الصراع الطائفي، ولدينا أمثلة عديدة من العراق وسوريا ولبنان.
لكن المثير للانتباه في هذا السياق، أن الطائفية بالعالم العربي لم تعد خاصة بالإسلاميين، بل تعدتهم إلى تيارات وأنظمة علمانية وحداثية تعتبر شكليا وأيديولوجيا بريئة من تهم الطائفية، غير أنها تستثمر «فوبيا الطائفية» وتستغلها لتجديد شرعيتها السياسية، وتوجيه الرأي العام الداخلي إلى خطر داهم يشكله «العدو الطائفي».
بالإضافة إلى العامل السابق، والمتعلق بالصياغة المذهبية للأجوبة الإصلاحية والتي انتعشت مع ظهور الحركة الإسلامية وتقدمها السياسي، هناك عوامل أخرى ساهمت في تعميق الشعور الطائفي، ودفع العموم إلى البوتقة الطائفية، ومن هذه العوامل:
- احتلال العراق وسياسة التمييز الطائفي التي انتهجها الأمريكيون: لقد استغل الأمريكيون سخط الطائفة الشيعية على نظام صدام حسين لتعزيز تواجدهم بالعراق، وإنجاح مهمة الاحتلال، وكانت العناصر الشيعية في جميع المجالات أوثق العناصر بالنسبة للأمريكيين التي يمكن الاعتماد عليها في تنفيذ السياسة الأمريكية في العراق والمنطقة عموما، وفي هذا السياق أسندت للشيعة أهم المناصب السياسية في دولة العراق بعد الاحتلال، وهو ما أدى إلى حنق السنة عليهم، واتهموهم بالعمالة، وتجلى هذا الموقف في المعارضة السنية العنيفة التي انفجرت بالعراق في شكل مقاومة مسلحة تستهدف الاحتلال والمتعاونين معه، والشيعة عموما. ولم ينته الأمر برحيل الاحتلال بل استمر بعده، وخاصة مع استمرار استئثار الشيعة بمفاصيل السلطة الرئيسة، الشيء الذي أدخل البلد في ظلمة الطائفية، التي أرخت بظلالها على كافة ربوع العالم العربي.
- ثورة الإعلام الفضائي: أتاحت تقنية البث الفضائي التي انتشرت على نطاق واسع بالعالم العربي منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي الفرصة أمام الكثير من المواد الإعلامية الطائفية من الرواج والانتشار، وهو ما استدعى ردودا طائفية كذلك، الشيء الذي جعل عددًا من وسائل الإعلام الفضائي شبه متخصصة في إشاعة الحقد والكراهية الطائفية بين العرب.
- سياسة إيران اتجاه جيرانها بالخليج العربي: إن السياسة الخارجية التي نهجتها إيران مع جوارها الإقليمي منذ الثورة الإسلامية تقريبا، والمعتمدة على التمييز الطائفي، أنعشت الصراع الطائفي في المنطقة العربية، ووسعت من بلائه، وتجلت هذه السياسة بشكل سافر في العراق من خلال دعمها للفصائل الشيعية الموالية لها، وعلى حساب السنة؛ ودعمها للحوثيين في اليمن؛ والتدخل غير الإيجابي في الشأن البحريني، ودعم الحراك الشيعي هناك؛ واحتلال الجزر الإيماراتية؛ وتلويح بعض القادة الإيرانيين باستعمال القوة ضد بلدان الخليج ومصالحها... إلخ. وقد أثارت هذه السياسة المعتمدة على المحور الشيعي مخاوف السنة باعتبارهم سنة، الشيء الذي أذكى الروح الطائفية بالمنطقة.
- موقف إيران الانتقائي اتجاه ثورات الربيع العربي، ودعمها اللامحدود للنظام السوري: أثارت إيران في تعاطيها مع الأزمة السورية الأواصر المذهبية مع النظام السوري على بقية الأواصر الأخرى، وغضت الطرف عن الطبيعة الديكتاتورية والدموية للنظام السوري، الشيء الذي جعلها تنظر بارتياب إلى الحراك الثوري السوري، وتختار منذ البداية معاداته. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل دفعت بأسلحتها ورجال الحرس الثوري إلى ساحات القتال السورية، الشيء الذي ساهم في تحريف الصراع السوري من كفاح من أجل الحرية والديمقراطية إلى صراع طائفي بين شيعة وسنة. وقد أدى هذا الموقف إلى تغذية الفهم والتوصيف الطائفي للموقف الإيراني من الربيع العربي، وخاصة في سوريا.
- سياسة الغرب الحريصة على استمرار الانقسام الطائفي: لقد وجد الغرب في التنوع المذهبي بالعالم العربي، واستعداده للتطور إلى انقسام طائفي تحت تأثير ظروف معينة ثغرة سهلة للتغلغل في المنطقة العربية، واستنزاف ثرواتها، وبسط نفوذه عليها. ومن ثم، فالتدخل الغربي في المشرق العربي كان ولا زال عامل استمرار للانقسام الطائفي، ويثير نشاطه، فالسياسات المنتهجة من طرف القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا... في معالجة الموضوع الإيراني، والموضوع اللبناني لا تستهدف نزع فتيل الطائفية، بل الغاية الرئيسة الحفاظ على مستوى «مقبول» من التوتر الطائفي، الذي يستغل دائما من طرف هذه القوى، ويسهل عليها ابتزاز أطرافه، فعلى سبيل المثال الخوف من إيران أمسى رأسمال تجاري استراتيجي في السياسة الخارجية الأمريكية في المشرق العربي، وعنصرا حيويًا في كل مبادراتها السياسية في المنطقة.
إن آفة الطائفية بالعالم العربي مهما اشتدت وتفشت، فإنها قابلة للعلاج، إذا توفرت الظروف المناسبة لذلك، وإن التطلع إلى وطن عربي وإسلامي خال من النعرات الطائفية مستقبلا أمر مشروع وممكن، وتؤكد لنا تجارب كثير من الأمم في الشرق والغرب مشروعية هذا التطلع، خاصة إذا اقترن بصدق العمل وإخلاص النيات. وفي هذا السياق نعتقد أن تخلِية الكيان العربي المعاصر من النعرات الطائفية متوقف على ثلاث شروط، تشكل قوائم ثورة ثقافية وسياسية لا مناص منها، وهي على التوالي: إعادة بناء مفهوم نحن؛ والإصلاح الديني؛ والحداثة السياسية.
فمفهوم نحن بالمنطقة العربية تعرض لاختزالٍ واستلابٍ كبيرين، فبعدما كان يدل على كل عربي من الماء إلى الماء (المحيط إلى الخليج)، أمسى في السنوات الأخيرة يعني لدى الكثيرين «نحن السنة العرب» أو «نحن الشيعة العرب» أو «نحن المسيحيون العرب»، وقد انعكس هذا الضعف في «نحن» على التماسك العربي، وقدرة العرب على مواجهة التحديات المختلفة المطروحة عليهم سياسيًا وأمنيًا وحضاريًا..، ولا يمكن الخروج من حالة الضعف هاته التي انزلق إليها العرب دون مقدمات في السنوات الأخيرة إلا بإعادة بناء مفهوم «نحن»، واستعادة مضمونه التوحيدي القائم – أساسًا – على الإسلام والتجربة التاريخية المشتركة، والمصير المشترك، فالسنة والشيعة والمسيحيون العرب في الخير والشر سواء، لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء. ولم تكن هذه القناعة الوحدوية في الماضي، وكذلك في الحاضر والمستقبل تعني تخلي كل طرف على خصوصيته المذهبية أو قطع الجسور الممتدة بين هذه الأطراف، أو مصادرة الحريات العقدية والفكرية والإعلامية.
أما فيما يتعلق بالإصلاح الديني؛ فقد تسببت هيمنة نوع من السلفية على الفكر الديني بالعالم العربي في إحياء الكثير من الصراعات التاريخية بين السنة والشيعة، وخاصة السلفية التي وقفت عند أفكار ومواقف أعلام كبار أمثال ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب عند السنة، وآية الله ميرزا جواد التبريزي عند الشيعة، وارتبطت بعلم الحديث أكثر من غيره، وهو ما أدى إلى تكون وجدان مذهبي حاد ومتشدد، سرعان ما تحول إلى نعرة طائفية بحكم الظرف الإقليمي الصعب.
في حين أن الحاجة ماسة بالعالم العربي إلى سلفية تنويرية تسمو بالوجدان الإسلامي عن الخنادق المذهبية، وتميز الثابت والمشترك في الإسلام عن المتحول، وذلك باستخدام موارد علمية مختلفة، وبمناهج تكاملية، تتداخل فيها العلوم الأصيلة (الفقه والأصول والحديث) بالعلوم الحديثة كالتاريخ والسوسيولوجيا التاريخية، والأنثروبولوجيا، واللغويات... إلخ.
لقد فقدت السلفية الكثير من أدوارها التاريخية بسبب الاحتكار الفقهي - الحديثي، الشيء الذي أضعف رسالتها التنويرية، أو اختزلها في شكليات مهما بلغت أهميتها، فإنها لا تغني عن مهام أخرى حيوية تتصل بمصير الإسلام في العصر.
أما القائم الثالث، الذي يعول عليه كثيرا في تجاوز حواجز الطائفية بالعالم العربي هو ترسيخ الحداثة السياسية، فالكثير من مشاكلنا المعاصرة اليوم ناجمة عن سوء فهم مزدوج للماضي والحاضر الإسلاميين، ومن أقوى أمثلة سوء الفهم هاته التي تعاني منها الثقافة السياسية العربية المعاصرة مفهوم الدولة، فالكثير من الناس وبعضهم من النخبة يخلطون بين المفهوم التاريخي للدولة بالعالم العربي حيث كان المذهب أحد الأسس الحيوية للشرعية السياسية، وبين الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها من إرادة الأمة وإجماعها الأغلبي عليها، فاتكاء بعض الدول العربية كالعراق وسوريا أو إيران أو محاصصة لبنان على الطائفية باعتبارها مورد الشرعية (رصيد ثابت)، ينعش الروح الطائفية، ويخصب أرضها. ومن ثم لا سبيل للعرب للخروج من هذا المأزق، وقتل بذور الطائفية في المجال السياسي، إلا بالديمقراطية التي تتيح لكافة أفراد الأمة بغض النظر عن نسبهم الطائفي التعبير عن إرادتهم السياسية؛ والمواطنة الحقة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الوطن الواحد؛ والعدالة السياسية والاقتصادية القائمة على التوزيع العادل للثروات.. وما إلى ذلك.
إن وباء الطائفية الآخذ في الاتساع بالعالم العربي تحت تأثير أزمات حادة أحدثتها بعض الاختيارات السياسية الخاطئة، والسياسات الغربية بالمنطقة العربية، بالإضافة إلى الاختلالات التي أحدثها الربيع العربي تحتاج إلى تضافر جهود الكثير من الفاعلين المؤثرين بالعالم العربي سواء كانوا ساسة أو مثقفين أو مؤسسات أهلية وحزبية...، وفي صلب هذه الجهود يقع الجهد الثقافي والعلمي، الذي نتوقع أن تجنى ثماره الطيبة في جيل الربيع الواعد والطموح.
* المصدر: مركز نماء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.