بسم الله الرحمن الرحيم للشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي مكانة خاصة، ومحبة خالصة في قلوب الملايين من المسلمين الذين يقدرون نبوغه الفكري، واجتهاده الفقهي،ودرايته للواقع،دون أن يعني ذلك موافقته في كل ما يصدر عنه من آراء وتقديرات،وقد انخرط الرجل في الحراك الثوري موجها،ومحفزا،ومسددا،ومحذرا،إلا أنه في خضم ذلك الانخراط لم يكن موفقا في إتخاذ ثلاث مواقف: الأول:عندما اعتبر ما يجري في البحرين ليس بثورة،والانتصار للحق والحقيقة يدفعنا إلى القول:إن الدولة الخليجية يحكمها نظام عائلي عشائري يمارس التمييز ضد فريق من أبناء وطنه،ومن الخطأ إدراج المطالبات بالدمقراطية والمساواة والعدل في خانة المذهبية والطائفية،والأهم أن يختار الشعب من يمثله،وإذا تبين أن المختارين ارتدوا إلى محاور الولاء المذهبي، والطائفي، والقبلي، والعشائري، ما على الناس إلا أن يتحركوا ويثوروا ليأتوا بغيرهم. الثاني:عندما علق على الإجراءات الالتفافية للمخزن المغربي،عبر تعديلات دستورية شكلية لم تمس جوهر النظام،فأشاد الشيخ "بعقلانية وحكمة العاهل المغربي"،دون فحص دقيق منه لبنية الدستور الجديد الذي وسع من صلاحيات الملك،فكان عليه ألا يتدخل في شأن اختلف حوله الإسلاميون المغاربة أنفسهم،واليوم انكشفت اللعبة،واتسم المشهد السياسي بالسكونية والجمود،ما فيه غير تصفية الحسابات،والاستعداد لما هو آت. الثالث:(والمقالة تتناول هذا الموقف) ما قاله في خطبة الجمعة الأخيرة بشكل أظهر الشيخ بغير الوجه المتزن والحكيم الذي اعتاد الظهور به،فالعالم الملتزم لا ينساق مع التقييم العامي لمجريات الأحداث،ولا ينجر وراء الموقف العامي من الأفراد والجماعات ،ويحرص كل الحرص على لم الشمل، والدعوة للوحدة، مهما كانت الصورة قاتمة،وتجليات الاشتباك المذهبي قائمة،ولقد صُدمت وأنا أستمع إلى الشيخ يخطب في المصلين قائلا1: " إيران أيضا عدوتنا عدوة العرب" " الإيرانيون يقفون ضد العرب لإنشاء الأمبراطورية الفارسية" " الإيرانيون والروس يقاتلوننا نحن العرب" " ثلاثة ملايين حاج أدعوهم أن يدعوا الله على الإيرانيين" إن مما تعلمناه من "الصنعة الحديثية" الإمساكَ"بميزان الاعتدال في نقد الرجال" أقول:وكذلك في نقد الدول،فمما لاشك فيه هو أن إيران ارتكبت أخطاء فادحة في أدائها السياسي،وسلوكها المذهبي،وخطابها الإعلامي،وعلاقاتها العامة،وإن الخلاف التاريخي والعقدي والسياسي بينها وبين السواد الأعظم للمسلمين ليس وليد اللحظة،بل هو خلاف قروني تكاد نيرانه تلفح من وراء قراطيس الثرات الفقهي والكلامي للسنة والشيعة،وقد أسال ذلك الخلاف الكثير من المداد ومن الدماء،فهل نريد حل المشاكل أو تعقيدها،إذا فنسبة أحد ما إلى الخطأ أهون من اتخاذه عدوا. ومن العجيب أن يستند العلامة الدكتور القرضاوي إلى توصيف قومي للخلاف مع إيران،وهو التوصيف الذي لا تؤمن به المرجعية الإسلامية،وهو فضلا عن ذلك توصيف تبسيطي يقفز على الواقع؛فثمة آلاف من الشيعة العرب العراقيين،وآلاف من الشيعة العرب اللبنانيين،وجل شبيحة الأسد من العرب العلويين،مما يوقع في الخلط،ويشوش على العقول، وإن مما أسهم في سقوط نظام الشاه سعيه لتكريس التطرف القومي،واعتماد لغة عنصرية ضد العرب،وواجهه علماء إيران وهم في سياق التحضير للثورة بلغة تعلي من شأن الرابطة الإسلامية، ويعتبر مرتضى المطهري أنصع مثال لتلك المواجهة، وقد توسل لذلك بثقافته الإسلامية التاريخية والاجتماعية الواسعة، فقال عن دواعي وجوب الربط بين الهوية الإيرانية ومرحلة ما بعد الإسلام من تاريخ إيران: "إذا تقرر أن يكون الأساس في تعيين حدود الأمة الإيرانية هو العنصر الآري كانت النتيجة في نهاية الشوط الاقتراب من العالم الغربي، وكان لهذا الاقتراب في مسيرتنا القومية والسياسية تبعات وآثار أخطرها الانقطاع عن الأمم المسلمة المجاورة غير الآرية،وعلى العكس من ذلك تماما إذا جعلنا ملاك أمتنا نظامنا الفكري والسلوك الاجتماعي لهذه القرون الأربعة عشر الأخيرة، إذ يكون لنا آنذاك مسيرة وتكاليف أخرى مغايرة لما سبق، ويصبح حينذاك العرب والترك والهند والأندونيسيون بالنسبة إلينا أصدقاء بل أقرباء"2،وممن أدان ذلك المنحى القومي المتطرف أيضا الدكتور علي شريعتي الذي ألمع إلى" توظيف المشاعر الصادقة وأحاسيس المذهب الشيعي في خدمة أهداف حركة شعوبية فرضت على إيران طوقاً من القومية عزلها عن العالم الإسلامي وأقامت بين الشعب الإيراني المسلم وسائر شعوب الأمة الإسلامية جداراً أسود من الحقد والضغينة وسوء الظن بالآخر والتهمة والافتراء والطعن واللعن والتحريف والتزييف والتفسيق والتكفير"3،ويعرض علينا الدكتور غلام علي حداد صورة لاستغلال الكتب المدرسية في ذلك الحين لبث القومية الفارسية وإذكاء مشاعر الكراهية للعرب، فقد ورد في كتاب اللغة الفارسية لدور المعلمين المطبوع سنة 1974م ما نصه: "الملوكية الساسانية انقرضت على أيدي جماعة من أعراب الصحاري،وقد تحول النظم والعمران والرفاه الإيراني إلى الفوضى والخراب وسلب الراحة، واستبدل عرش الملك بالمنبر، واستبدلت أراضي فريدون وكيخسرو وزرادشت وأسفنديار بمساكن الثعالب والنسور، وقد حكم ملاعبو الغربان والأشرار ورعاة الإبل وأكلة اليرابيع على مواطنينا، ومن أخلاط دماء الدهاقين والأتراك والأعراب ظهرت الخيانة والرشوة والخوف وعدم المروءة، وأضحى الفن الوحيد خنق الحريات، وقد رحل الذوق والظرف والجمال والعظمة وحلت الأصول السامية محل الأصول والعادات الآرية"4. لو أن الدكتور يوسف القرضاوي قال:إن إيران بسلوكها السياسي،وأدائها الإعلامي (آخر تجلياته تحريف خطاب الرئيس مرسي) تشعل نيران الفتنة المذهبية لصدق،ولأغناه هذا عن القول:إن إيران عدو للعرب،والمجدي هو أن نُلزم إيران بما تقوله،وأن نفككك أقوالها،ونُقَيِّم مواقفها بتثبت وتأن،فلا عذر لإيران مثلا في أن تطوي كشحا عن الثرات الحسيني المقاوم للظلم والظالمين بوقوفها العنيد مع العصابة الأسدية الإجرامية التي تبيد الشعب السوري،ولا عذر لها قبل ذلك في أن تغض الطرف عن الغزو اللأمريكي لأفغانستان نكاية في طالبان السلفية،وللعراق نكاية في صدام البعثي،وهو السلوك الذي انتقده وأدانه عالم مغربي هو الأستاذ عبد السلام ياسين دون أن يبلُغ به ذلك حدالدعوة إلى اتخاذ إيران عدوا،قال:" " تورطت الثورة الإيرانية وانكشفت مذهبيتها ومصلحيتها الضيقة لما خذلت المجاهدين السنة، ومنعتهم تسهيلات الحدود، وقصرت عونها على الشيعة الذين لزموا ما يشبه الحياد والمهادنة مع الغزاة الروس، لإيران حجتها في هذا الخذلان، تتقدم بأنها في حرب طاحنة، وأنها مطوقة، وأنها لا تستطيع تحدي العملاقين العالميين في نفس الوقت،وهذه حجج تُضعفها وتُفتِّتُها واقعة الانحياز المذهبي، والتحالف الرديء مع نصيرية سوريا أعداء الله ورسوله سفّاكي دماء المسلمين،لا يُقبل من إيران الثائرة الاعتذار بأن الحلف مع سوريا هو البديل الوحيد عن العزلة وسط عالم مجاهر بالعداء مُجمِع على حرب الثورة،ولئنْ كان لمواجهة ثورة إيران عدوَّ الإسلام البعْثي في العراق ما يبررهُ في أعين المسلمين، وهو كون البعثية كفر، فإن الحلف مع البعث الآخر النصيري يزيِّف هذا التبرير".5وأبدى الرأي حول جوانب أخرى جانبت فيها إيران الصواب فقال:"صفحات كالحة من تاريخنا وتاريخ التشيع كان الأولى بالثورة الإسلامية الإيرانية أن تطويَها من موقع القوة وتمدَّ يَدَ التعاون مع الصادقين نابذة الخصوصية الطائفية، لكن إخواننا في نشوة الانتصار عانقوا طائفيتهم، وحملوا مشعل "تصدير الثورة"،يقصدون بتصدير الثورة تصدير بضاعة الطائفية ملفوفة في ثياب الثورة على خلفاء يزيد،وهكذا اشتغلوا بتصفية الحسابات المتأخرة مع معاوية ويزيد، وأثاروا حفيظة كثير من الإسلاميين الذين صفقوا للثورة بحماس، ثم غشيتهم الحيرة لما أسفرت الثورة عن وجه طائفي"6 ،ورغما عن كل ذلك قال:""ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون في النار المستعرة ليزيدوها ضراما إن رجعنا، بالطمأنينة الإيمانية، إلى مبعث الخلاف وميلاد الفتنة بقصد العلم المؤسس لعمل يوحد ولا يفرق، يفتح الجرح ليضع فيه دواء لا لينكيه، فعسى نعلم ونعمل"7 ويلقي بمسؤولية إثارة الاحتقان المذهبي على كثير من الحكام والسياسيين المستبدين من" سلاطين العض قارونات العصر ويزيداته الذين ينفقون أموال المسلمين بسخاء المبذرين، وحَنَق المَوْتورين، لتُنْشَر لتُشعل نار الفتنة؛ وهكذا يجتَرُّ الكتبة الخلاف القروني ليبثوا الوقيعَة بين المسلمين، وليلتحموا مَع الشيعة في نزال دائم بعثوه من القبور،ونفخوا فيه البغضاء المتجددة "8،ويرى أن النهوض بأحوال أهل السنة لن تنفع فيه حملات تكفير الشيعة لأن " المرض العضال الذي لا تزال الأقطار السنية تعاني منه، وهو مرض الحكم الجبري الجائر، لا تزيده الفتاوي الطائشة ضد إيران والشيعة إلا ترسيخا، داء إخواننا الشيعة سرطان الرفض ،فهل يجوز يا قوم أن نحكم بجرة قلم إرضاء للنزوات أو للحكام بفتاوي بئيسة يلتحم فيها الرفض الموروث بالأخطاء الثورية التحاما أبديا ليولد مخلوق بشع وليخلد في ديار السنة حكم الظلمة المارقين"9. إن إيران والشيعة جزء من التعددية الثقافية والمذهبية في إطار المشهد الإسلامي العام،وإذا كانت إيران كدولة تحكمها عدة اعتبارات جيوسياسية ومذهبية،فإنها تخاطر بمستقبل الأقليات الشيعية في الدول الإسلامية الأخرى،وتلك الأقليات يطلب إليها أن تختار بين التحول إلى شبيحة طائفية لا صلة لها بعلي، ولا بالحسن، ولا بالحسين عليهم رضوان الله،أوالاندماج في البلدان التي تقطنها مع الاحتفاظ بخصوصياتها المذهبية والعقدية تحت ظل الإسلام الجامع. إن تدبير العلاقة مع الجوار الإيراني للحيلولة دون نشوب حرب مذهبية طاحنة حاجة ملحة، وضرورة واقعية،ومطمح استراتيجي،وإن خطابات التجييش الطائفي والمذهبي إذا التقت مع الغليان الطقوسي الداخلي،لن ينتج عنها إلا الخصام والصدام والاقتتال، لا سيما ونحن على أبواب شهر محرم الحرام،وإن الطريقة التي يخلد به الشيعة ذكرى كربلاء لا تسهم في تهدئة النفوس،وإنما تسهم في تنزيف الجروح،واشتقاق سلوك الأجيال من أكدار المأساة،كما يجمل تدبير العلاقة مع الجوار التركي الذي اعتمد خيار العودة إلى الشرق بعد اصطدام رغبته في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بالرفض،وأصبح ذلك الخيار شعبيا بتولي حزب "العدالة والتنمية" الحكم. ويؤسفنا أن نقرر أن المملكة العربية السعودية لا تسهم بشكل إيجابي في التخفيف من الاحتقانات المذهبية،وهي مدعوة إلى إجراء إصلاح سياسي عميق،وإلى إعادة النظر في توزيع الثروة،وإلى إعادة النظر في علاقة الدعوة بالدولة،فالثانية طوت تحت جناحها الأولى،وألجأتها إلى مواقع الوعظ البارد،والفقه المنحبس الذي يُشغل الناس بشرك القبور عن شرك القصور،وحَنَّطت الدين،وحولته إلى منظومة لتبرير السياسات الظالمة،وانتزاع بيعة قسرية إكراهية من المواطنين ،وعملت على إشاعة ثقافة المنع لا المناعة،فخضع الكثير من السعوديين لأحكام الإسلام في الظاهر، حتى إذا عبروا الحدود نزعوا جلباب الحياء،ولم تسلم الأنشطة الإسلامية الجادة من التشغيب بإثارة أسئلة "البدعية والسنية"،وهي مدعوة أيضا إلى إعادة النظر في العلاقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ينبئ حال سياستها مع المملكة عن اتفاق سري بين الطرفين تتعهد بموجبه أمريكا بحماية آل سعود مقابل تدفق النفط. * عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ***** 1 http://www.youtube.com/watch?v=anv73psICAg&feature=g-hist 2 مرتضى المطهري، الخدمات المتقابلة بين الإسلام وإيران. ج3. ص: 22، 3 علي شريعتي،التسيع العلوي والتشيع الصفوي 4 د.غلام علي حداد، صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية، ندوة العلاقات العربية الإيرانية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص: 284. 5 عبد السلام ياسين،سنة الله،ص 163 6 العدل،ص 383 7 عبد السلام ياسين،نظرات في الفقه والتاريخ ص 29 8 عبد السلام ياسين،العدل،ص382 9 الإحسان 1/68 ------------------------------------------------------------