تعد الاحتجاجات الشعبية المذهلة ضد الحكام العرب الشموليين التي تجتاح المنطقة منذ ثلاثة اشهر مخاضا حقيقيا يؤذن بميلاد شرق أوسط جديد. فلم تنجح محاولات اسرائيل التي ساندتها الولاياتالمتحدة لاخضاع حزب الله وجنوب لبنان عام 2006 عن طريق القصف الجوي في تغيير المنطقة كما توقعت وزيرة الخارجية الامريكية انذاك كوندوليزا رايس. كما لم يكن هناك تأثير يذكر للغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة للعراق قبل ذلك بثلاثة اعوام وروج له الرئيس الامريكي السابق جورج بوش على انه سينشر الديمقراطية في العالم العربي. وأتى التغيير الان من الداخل .. ومن أسفل. واطاح مواطنون عاديون نزلوا الى الشوارع برئيسي مصر وتونس ويقاتل زعيما ليبيا واليمن من أجل البقاء. ويحاول القادة العرب في اغلب الدول تحاشي تحديات حقيقية او محتملة بمزيج من القمع والتنازلات. وقال رشيد الخالدي استاذ الدراسات العربية في جامعة كولومبيا بنيويورك "الحكام مرعوبون ولسبب وجيه .. افزعهم الشعب. يطارد شبح السلطة الشعبية (الرؤساء) المستبدين والملوك." وأخيرا أثبت سكان المنطقة وغالبيتهم مسلمون انهم غير مستثنين من الاتجاهات الديمقراطية التي غيرت اوروبا الشرقية وامريكا اللاتينية ومناطق كثيرة في اسيا وافريقيا في العقود الاخيرة. ونقلت التغطية الإعلامية الحية الاحتجاجات والعنف في اي مدينة عربية الى منازل العرب في كل مكان. وينقل شهود عيان رواياتهم بالهاتف المحمول عبر موقعي يوتيوب وفيسبوك. ويقول بول سالم مدير مركز كارنيجي للشرق الاوسط في بيروت ان الحركة الديمقراطية ستعيد تشكيل العالم العربي بنفس القوة التي فعلتها ايديولوجيات القومية العربية والاشتراكية والشيوعية والاسلام السياسي خلال قرن ونصف قرن. وقال "انه تغيير هائل. التغيير عميق يصيب صميم هويات الناس." وتابع "لا يزال الاسلام هو التيار الاكثر قوة ولكن هذا النموذج تخطاه واستوعبه ليشكل نظاما ديمقراطيا تعدديا يحترم حقوق الانسان ليصبح التيار المهيمن." ولكن الاطاحة بحكام شموليين شيء واقامة انظمة مستقرة لحكومات ذات تمثيل شعبي شيء اخر. ويعتمد النجاح جزئيا على مدى التعامل السليم للحكومات المنتخبة مع المشاكل الاجتماعية والمصاعب الاقتصادية التي تؤجج الى جانب التوق الى الحرية والكرامة الاضطرابات في دول تمتد من الجزائر الى سلطنة عمان. وسيتمكن بعض الحكام العرب من تجاوز العاصفة ويبدو الخطر الذي يتهدد الممالك اقل مما يواجه الجمهوريات حتى الان. والسؤال بعد ثلاثة اشهر من اندلاع أول احتجاجات في تونس هو ماذا سيحدث بعد؟ وتختلف الاجابة من دولة لاخرى. وبصفة عامة اتخذ رد فعل القادة العرب تجاه الاحباطات المكبوتة التي تفجرت في شكل احتجاجات في الشوارع ثلاثة اشكال. انصاع الرئيسان المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن على لقوة الشعب وتنحيا على مضض بعد ان تخلت القوات المسلحة في البلدين عنهما. واستبقت دول اخرى بصفة خاصة في الخليج الاحتجاجات بتقديم رشى يصاحبها في اغلب الاحوال تعهدات باصلاح سياسي. واخيرا لجأت قلة للقوة صراحة للتشبث بالسلطة. ويحتل مقدمة التوجه الدموي الزعيم الليبي معمر القذافي الذي يحكم ليبيا منذ عام 1969 والذي أدى قمعه الدموي للاحتجاجات الى تمرد مسلح. كما كشفت السعودية والبحرين وسوريا واليمن الستار عن قبضة حديدية في مواجهة المحتجين الذين لم ترضهم المنح الاقتصادية. وفي اليمن لا يبدو انه ثمة مستقبل للرئيس علي عبد الله صالح بعد انقلاب عشيرته عليه. وأوضحت السعودية انها لن تتسامح مع اي معارضة في الداخل أو تحد خطير للحكم السني في دول الخليج الاخرى وبصفة خاصة في البحرين التي تقطنها اغلبية شيعية. وأرسلت الرياض الف جندي الى البحرين للمساعدة في قمع أسوأ اضطرابات في المملكة منذ التسعينات. ومن المستبعد ان يقود تغيير عنيف في مجتمعات تعاني بالفعل من انقسامات طائفية وعرقية الى ديمقراطيات وفي دول مثل البحرين وليبيا والسودان وسوريا واليمن ربما يحمل المستقبل انقساما أكبر كما هو الحال في لبنان والعراق. وفي الدول التي عرضت الإصلاح وهي المغرب والجزائر والاردن يتعين الانتظار لمعرفة ما اذا كان القادة سيوفون بتعهداتهم ويتخلون عن سلطات حقيقية سلميا أو سيجدون سبيلا لبث الفرقة بين معارضيهم أو استمالتهم أو اخضاعهم. وقال روبرت سبرينجبورج الاستاذ بالكلية البحرية للدراسات العليا في مونتيري بكاليفورنيا "حتى الان لم يتقدم فعليا اي حاكم عربي بعرض جوهري للاصلاح السياسي للمحتجين." وقال "يبدو اكثرهم قربا العاهل المغربي الملك محمد السادس ولكنه قيد العرض بشكل كبير." وسعيا لاستباق الاحتجاجات كشف العاهل المغربي النقاب في 19 مارس عن تشكيل مجموعة من 19 شخصا اختارهم بنفسه لصياغة تعديلات دستورية بحلول يونيو حزيران من شأنها ان تعزز سلطة البرلمان وتمنح مسؤولين محليين سلطات وتدعم استقلال القضاء. والغى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حالة الطواريء المعلنة منذ 19 عاما وعرض اصلاحات سياسية لم يحددها في فبراير شباط ولكنه لم يذعن حتى الان لمطالبات بتعديل الدستور وتحديد فترات الرئاسة والسماح بتشكيل احزاب جديدة. وقاوم العاهل الاردني الملك عبد الله حتى الان الضغوط من اجل نظام ملكي دستوري او حكومة منتخبة وان اقال الحكومة في فبراير وطلب من رئيس الوزراء الجديد وهو ضابط مخابرات سابق الاسراع بخطى الاصلاح السياسي. ودعا اسلاميون ويساريون وليبراليون بل وشخصيات قبلية بارزة الى تقييد سلطات الملك. ومازالت احتجاجات الشوارع تطالب بالاصلاح لا بتغيير النظام. وبغض النظر عما يحدث في تلك الدول الاخرى فان جميع العرب يراقبون مصر وتونس اللتين تسيران على طريق وعر لتشكيل حكومة اكثر تمثيلا للشعب. ووضع المجلس الاعلى للقوات المسلحة في مصر جدولا زمنيا للعودة للحكم المدني تجرى بموجبه الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام الجاري. كما من المقرر وضع دستور جديد. وشاركت نسبة غير مسبوقة من الناخبين بلغت 41 في المئة في استفتاء اجري يوم 19 مارس اذار واقرت نسبة 77 في المئة تعديلات على الدستور القديم. وفي تونس ابتعد الجيش بالفعل عن المشهد وسيختار الناخبون مجلسا يضم 200 عضو في يوليو تموز يقوم بدوره بانتخاب قيادات مؤقتة ووضع دستور جديد قبل الانتخابات. وأوضح سبرينجبورج ان مثل هذه التغييرات ليست بالسهلة في دول اعتمدت انظمتها القديمة على المحسوبية والاموال لشراء التأييد. وذكر ان التحديات تتمثل في "التحول لتغيير قاعدة القبول الشعبي للحكم من اسس مادية الى اسس سياسة." وقال سبرينجبورج ان جماعة الاخوان المسلمين وفلول الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه مبارك لا زالا يملكان مثل هذه الموارد ويقدمون نقودا ووظائف في مواجهة تعهدات الاصلاحيين الشبان. وأضاف "التغيير يمكن ان يرتد ولكن ليس على الفور. يمكن ان تتغلغل الشمولية ببطء وتقوض الاصلاحات الديمقراطية بشكل تدريجي." ويسر قانون جديد في مصر تشكيل الاحزاب السياسية ويساعد ذلك جماعة الاخوان المسلمين التي كانت محظورة من قبل على تشكيل حزب الحرية والعدالة. ويقول نشطاء من الشبان العلمانيين الذين قادوا الاحتجاجات ضد مبارك انهم يحتاجون مزيدا من الوقت لتنظيم انفسهم قبل الانتخابات اذا ارادوا منافسة الاسلاميين. وعلى الفائز ايا كان ان يعالج مشاكل البطالة بين الشبان وتعطل النمو الاقتصادي وسوء حال التعليم والتي كانت سببا في المطالبة بالتغيير في المقام الاول. وقال فولكر بيرتس مدير المعهد الالماني للشؤون الامنية والدولية مشيرا لنسبة الاقبال الكبيرة على استفتاء التعديلات الدستورية في مصر "الناس سعداء بوجود نظام جديد". وأضاف "ولكن في لحظة ما حين تتبدد الحماسة وتجري الانتخابات سيبدأ المواطنون في المطالبة بالنتائج .. أين الوظائف .." وفككت تونس جزءا كبيرا من النظام القديم بما في ذلك المحيطين ببن علي وحزبه الحاكم ووزارة الاعلام واجهزة امن الدولة. ويتميز سكان تونس البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة بمستوى تعليم جيد وتجانس فيما بينهم ورخاء نسبي. وقال سالم من مركز كارنيجي للشرق الاوسط "ما انجزته مصر أقل. ذهبت العائلة (مبارك) ولكن الحزب الحاكم لا يزال موجودا. حل جهاز امن الدولة ولكن الكثير من المؤسسات لا تزال قائمة. لازالت الحكومة تضم وزراء عينهم مبارك." وربما تكون اصعب عقبة في التغيير في دول مثل مصر صياغة الدور الذي ينبغي ان يضطلع به الجيش. واحتل الجيش المصري مكانا في قلب السلطة على مدار العقود الست الماضية وحتى الان يتردد اصلاحيون يطالبون بالديمقراطية في طرح اسئلة عن دوره في المستقبل. وقال الخالدي "امام المصريين فرصة جيدة جدا للتحول لنظام ديمقراطي ولكن الى اى مدى سينسحب الجيش من السلطة. "الى اي مدى سيحتفظ بمزاياه وهيمنته والصناعات الخاصة به وقطاعه الاقتصادي بل أيضا والى حد ما حق الاعتراض على قرارات مهمة تتعلق بالسياسة الخارجية مرتبطة بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة." واشار سالم لتجارب تركيا المختلطة للتلميح لشراكة محتملة بين الحكومة والجيش في مصر يمكن ان تعزز الاستقرار ان لم يكن حكما مدنيا خالصا في الوقت الحالي. وارغم حزب العدالة والتنمية التركي الذي يجمع بين جذور اسلامية وتوجه حديث الجيش على الابتعاد عن السياسة وهو انجاز حاز اعجاب الاصلاحيين العرب. وقال الخالدي ان النموذج التركي مغر "من حيث ابعاد الجيش عن السياسة مع انتهاج سياسة خارجية مستقلة وقبول فكرة لعب الاسلام دور سياسي ولكن في اطار نظام علماني بالضرورة."