إننا إذ نعرض هذه الاختلالات في صورة عناوين مركزة لدى الاتجاهين المذكورين فإنما بقصد تجاوزها لا ترسيخها، والاتجاه بها الى مركز الثقل الجامع حيث الوحدة والانسجام العام بين مختلف المكونات، في ظل المعاني الكلية لروح العصر والدين معا. إذ لا تناقض بينهما إلا من خلال سوء الفهم والتأويل وسوء الاتباع والتنزيل، حيث ينبغي أن يبقى الشذوذ والغلو على الهامش وفي الأطراف يُقوم تدريجيا أو يبقى ضعيفا ومحدود التأثير. وإذا كان المغرب قد عرف في تاريخه القديم نماذج منها، واستطاع أن يتخلص منها ويتمحض الى اختياراته المذهبية المعروفة، والتي غدت ثوابت وأركانا في أمنه واستقراره ورسخت في عمقه التدين السمح والمعتدل، فإنه في تاريخه الحديث مدعو كذلك الى الحفاظ على تلك المكاسب وصون تلك الاختيارات أمام تيارات الغلو الفكري المتطايرة في الهواء والتي تتنفسها شرائح مختلفة من الناس إذا صادفت منهم محلا فارغا شغلته فقادت ووجهت فكرهم وسلوكهم. ولا يخفى أن تمة جهودا مقدرة وهائلة، وإن كان معظمها صامتا، تقوم بها الجهات الوصية على الشأن الديني والجهات الأمنية المختلفة، تنضاف اليها الجهود التربوية والثقافية والمدنية والاجتماعية.. دعما لمسار التنمية والاستقرار وحفاظا عليه تحت رعاية ملكية سامية وإمارة مؤمنين ناظمة وموحدة للجهود والمكونات معا. وتلك خاصية لا تكاد تتوفر في نموذج من النماذج السائدة من حولنا اليوم وجب دعمها وإسنادها بما يدرأ عنها شبه الغلو والتطرف أيا كان مصدرها ومرجعها. وإن تواجدت بعض من هذه الاختلالات في مكونات من هذا البلد، فلا نشك أن لها القدرة الكبيرة على مراجعتها وتجاوزها كما فعل البعض في جرأة محمودة، لتقديم صورة أمثل على هذا النموذج من التدين الذي عافاه الله مما ابتلى به غيره كي يبقى شاهدا يقدم للبشرية إمكانا من إمكانات إقامة الدين في الحياة. ففيما يتعلق بمظاهر الاختلال المصاحبة للغلو "الديني" نذكر الاختلالات المنهجية والتصورية التالية، علما أن كل عنصر منها يحتاج الى مدارسة وتفصيل للإحاطة بكامل عناصره ونماذجه: 1 الاخلال بمقتضى السياق والنسقية التكاملية بين النصوص. وذلك عن طريق الانتقاء والتجزيئ، وعدم ربط هذه النصوص بسياقاتها: السياق النصي المنشئ والسياق التاريخي الذي يعكس أحوالا من التطور.. مثل (الجهاد، الولاء والبراء، دار السلم ودار الحرب، الخلافة، الدولة، السلف،..). إذ لا يوجد مفهوم يتحرك وحده مستقلا بذاته، وإنما ضمن نسق وشبكة من المفاهيم يمدها ويستمد منها حيث تتشكل الصورة الكاملة وتستحضر العناصر الغائبة. 2 الاخلال بمقتضى اعتبار المقاصد والغايات والحكم من التشريع. وذلك بفهم النصوص والأحكام على ظواهرها، وإحداث أشكال وصور من التقابل بينها واللجوء الى القول بالنسخ في كثير منها ولو كانت أصولا وكليات مقررة، كما هو شأن آية السيف التي "نسخت" أصولا في العدل والرحمة والسلم..، وعدم اعتبار العلل المؤثرة في الأحكام وجودا وعدما، وعدم إعمال قواعد علماء الأصول في التقييد والتخصيص والموازنة والترجيح.. 3 الاخلال بمقتضى فقه الواقع وفقه التنزيل. وذلك بتنزيل النصوص والأحكام على الواقع من غير قدرة على التكييف بما يحقق مقصد الشارع منها، ومن غير فقه بالواقع محل التنزيل، ولا بمقتضيات التنزيل نفسه تدرجا ومرونة وموازنة بين المصالح والمفاسد.. 4 الاخلال بمراتب الأحكام وعدم استحضار هذا المحدد لا على صعيد الفهم ولا على صعيد التنزيل. ويتعلق الأمر بمراتب الأحكام الخمسة (واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات)، وبالكليات الخمس (دينا ونفسا وعقلا ومالا وعرضا).. حيث غدت الأصول والكليات الحاكمة فروعا وجزئيات محكومة.. وحيث غدت الأحكام حلالا وحراما فقط.. وحيث غدا المخالف مبتدعا وفاسقا ولم لا كافرا.. مع استسهال خطير في إصدار مثل هذه الأحكام ولو بمخالفة مقررات الشرع نفسه فيها.. 5 الاخلال بمنظومة القيم ومراتبها كذلك وخاصة أصولها في: العدل والحرية والكرامة والتزكية والرحمة والسماحة والأخوة والمحبة.. وما إليها. حيث غدت أضدادها هي المحددة للعلاقات والتصرفات.. هذا مع اعتبار أصحاب هذا التوجه القيمَ مكملات وليست أساسات وأحكام كذلك، ولهذا تجدهم أشد الناس غلظة وفضاضة في التعامل مع الناس..، هذا فضلا عن عدم اعتبار إعمال العقل والفكر والنظر والابصار والاعتبار.. أحكاما وتكاليف واجبة ولو وردت فيها نصوص، لأن مجالها بناء الانسان والعمران والحضارة والعلوم والآداب والفنون.. وتلك مجالات، كلها أو جهلها، ليست من مشمولات الدين والتدين لديهم.. 6 اختزال التشريع في العقوبات والتعزيرات وكأنها المرادة ابتداء بقلب حقائق التشريع في إقامة الأصول أولا، وفي درء الحدود ما أمكن ولو بالشبهات لا المسارعة اليها.. 7 الاخلال بمقتضى سننية وعالمية وإنسانية الرسالة التي تسع العالمين (الانساني والكوني) بحصرها في فهوم ضيقة لا تكاد تستوعب فرقة من الفرق.. وإهدار النواظم الجامعة من القيم والأحكام المشتركة باعتبارها مداخل أساسية للحوار والتعارف والتعايش بين الأمم والشعوب.. 8 توهم حراسة الدين والتماهي مع الحقيقة الدينية وتبويئ الذات مقام الأفضلية وحرمان الآخرين منها.. علما أن الحقيقة الدينية حقيقة كونية وفطرية يجتهد الانسان في تحقيق كسب مقدر منها لا التماهي الكلي معها، وأنها هي التي تحرسه بتقويم فكره وسلوكه وهدايته الى الحق والصواب.. ولقد كانت قبل أن يكون.. 9 الاخلال بمقتضيات التشريع في مفهوم الجهاد وإجراء الأحكام والتعزيرات بالتصرف فيها على انفراد .. دون الرجوع الى المسؤولين عنها وأولي الأمر فيها.. درء للفتنة والفرقة التي أوقعوا الأمة فيها جراء هذا التصرف الذاتي.. 10 التشديد على النفس في قضايا من العبادات أو المعاملات، وحمل الناس على مثل ذلك وإن لم يرد به شرع، توهما في كمال التدين الذاتي ونقصانه عند الآخرين.. ومن ذلك لزوم أشكال معينة في اللباس والمظاهر التي هي عادات تحولت الى عبادات، وكأن غير المتحقق بها منقوص التدين ومخل بواجبات دينية.. فلو استطاع هؤلاء "المتدينون" تقويم هذه الاختلالات والانخراط في الفهم البنائي الايجابي المنضبط بضوابط الشرع في آفاقه الانسانية والكونية الرحبة، لأسهموا ليس فقط في إصلاح أحوالهم الذاتية، وإنما في إصلاح أحوال البشرية من حولهم التي لم تهتد بعد رغم كثرة التجارب الدينية والمدنية، الى سلوك قويم يحقق سعادتها ويعطي لحياتها ووجودها معنى، ويهذب جشع إنسان آخر ورغبته الجامحة في العلو ولو كان ذلك على حساب أخيه الانسان وعلى حساب مقدرات الكون وجمال الطبيعة. لكن للأسف عندما تتخندق جماعات معينة في خنادق تصنعها بنفسها وتضرب على فكرها أو فقهها سياجات وأسوارا، تحول دون إمكان تلقيحها وإفادتها من تجارب غيرها، تكون بذلك قد أضاعت الفرصة على نفسها وعلى غيرها في الاهتداء للتي هي أقوم وهداية الغير اليها. أما فيما يخص الاختلالات المصاحبة للغلو "اللاديني" فنعرض أهمها كما يلي، علما أن كل عنصر فيها بحاجة كذلك الى مدارسة وتفصيل يستوعب قضاياها ونماذجها المختلفة: 1 الاخلال بمقتضى الفهم الإيجابي لهذا الدين والمسارعة الى تعميم الأحكام وإسقاط تجارب الغير التاريخية عليه في صراع مؤسساتها الدينية والمدنية، وإهمال التعرف على إمكاناته الهائلة في التنمية والتحديث والترشيد والتقويم والعلوم والمعارف.. بتوهم أن تجارب التحديث تنقل كما تنقل البضائع والمفردات، ولا تبنى ضمن مخاض ذاتي وصيرورة متتالية من الاجتهاد والتحولات في اتصال وانسجام مع هوية المجتمع لا في انفصال وقطيعة معها.. ولذلك كانت هذه الأطروحات ومازالت وستبقى نخبوية معزولة عن عمق وهموم المجتمع.. 2 الاخلال بمقتضى التعامل الراشد مع معطيات الحداثة والعولمة والتسليم بكل مقرراتها، بل وطرق أبوابها الرديئة التي هي أعراض مرضية جانبية لم يجد النموذج المنتج لها حلا للتخلص منها، ولتنفيس الاحتقان المترتب عليها، الا تقنينها وإدراجها ضمن نسق الحريات.. ثم السعي الى تعميمها بعد ذلك رغم حركات النقد والاحتجاج ضدها في مواطنها.. في حين يبقى الغائب الأكبر البنى العميقة للتحديث والتنمية والعلم والمعرفة.. التي فيها خاصية التعدي والاشتراك.. 3 الاخلال بمقتضى "التقريب" أو"التبيئة" أو"التكييف".. في نقل واستعارة المناهج والنماذج في الفكر والتربية والحقوق والحريات والمواثيق.. فإذا كان البعض منها لا إشكال في تعميمه لقدراته الوظيفية الاستيعابية والبنائية والتواصلية.. فإن بعضا آخر منها قد لا يلائم اختيارات أو خصوصيات محلية هي رصيد غنى وقوة في الذات.. حيث لا معنى للعالمية والكونية الا باعتبار الخصوصيات المتنوعة المشكلة لها، أما الشكل والنمط الواحد فاستبداد وهيمنه مغلفة.. 4 الاخلال بمقتضى الاختيار الجماعي في الحريات خصوصا، وذلك عن طريق دعم "النزعات" الفردانية أو الأقلية.. ولو على حساب الأكثرية. وإذا كان مبدأ المواطنة لا يقاس ولا يُقوم بأغلبية ولا أقلية، فإن الوفاء للوطن، أي وطن، يقضي باحترام وتوقير اختياراته التي تشكل أعمدة استقراره.. فإذا كانت الجماعة قد اختارت بحرية ورسخت اختيارها لقرون، فلا معنى ولا مبرر للتشويش عليه باختيارات أخرى بدعوى الحرية نفسها.. وللأفراد أن يختاروا ما شاءوا لأنفسهم.. 5 الاخلال بالمقتضى التشاركي التفاعلي والتواصلي مع الغير من خلال توهم امتلاك مفاتيح وأزرار النهضة والتحديث والتطور.. وإصدار أحكام قيمة تجاه الغير وكأنه غير معني بها.. وكذلك توهم أن لا علاقة للدين بالنهضة والحضارة، في حين أن أصول الحضارات الكبرى ديانات لايزال تأثيرها فيها منذ النشأة الأولى الى اليوم.. فلو استطاع هؤلاء "اللامتدينون" تقويم هذه الاختلالات والانخراط في الفهم والبناء الايجابي لهموم الأمة والمجتمع، لأسهموا في تقليص هوة التباعد وتقوية مركز الثقل محل الوحدة والاجماع، بدل التقاطب الثنائي بالمصادرة على مفاهيم الأصل فيها الحياد. فكلما تحصن "الحداثي" ب (المعاصرة والتطور والكونية..)، الا وتحصن "التراثي" ب (الأصالة والماضي والخصوصية..)، وورثوا الخصومة للأجيال. فالأصل في التجارب أيا كانت، تاريخا ماضيا أو حاضرا غيريا، استلهامها لا استنساخها. والاغتراب في الزمان أو في المكان واحد وإن اختلفت مرجعيات المغتربين، كما أن رفع "الشعارات" التي لا مضامين علمية ولا عملية لها لدى الاتجاهين معا، أمر لا يسمن ولا يغني من جوع الا في سياق التعبئة والتجييش المؤقت الذي لا يلبث يتلاشى أمام أول اختبار صلب. ونظن أن النموذج المغربي معافى كذلك من هذا الغلو، وإن وجدت نماذج منه فمحلها الهامش والأطراف كسابقتها، وتبقى الدينامية والحركية التي يعرفها المجتمع بين مختلف مكوناته ايجابية في معظمها يحفز بعضها بعضا ويقوم بعضها البعض الآخر.. وإنما الطموح هو تجاوز ما أمكن من تلك الاختلالات كلها، نحو واقع أمثل يصون المكتسبات وينميها في الآن ذاته.. لا يكتفي بالاستقرار وإنما يعمل على استدامته واستمراريته. *كلية الآداب، بني ملال - رئيس المجلس العلمي المحلي للمدينة