وأخيرا نجح معمر القذافي في مهمته الثورية، وبلور فكره وفلسفته على أرض الواقع، وسيبقى اسمه حاضرا في تاريخ الأمة العربية خاصة والأمة الإسلامية والعالمية عامة بوصفه قائدا ثوريا ترك خلفه أثرا لم يترك أي يابس أو أخضر. إن المعادلة التي تبناها القذافي من أجل أن يبقى حاكما مدى الحياة بدون منصب رئاسة، ليس له فقط بل ولأبنائه أيضا، يجب قراءتها والوقوف عليها لنرى هل هي نافعة لصاحبها وذويه، وهل هي نافعة لوطنه "الذي أحبه ودافع عنه وحده ببندقيته"، وهل هي مجدية للعرب الذين قال لهم ابنه سيف الإسلام "طز فيكم"، أم مجدية للمسلمين والإسلام الذي قال القذافي إنه يحارب في ليبيا الآن من قبل قوات التحالف الدولي! ولا ندري هل ستكون نافعة للقارة الأفريقية بعد أن رفض شعبه أن تبقى ذرية القذافي حاكمة غلى أن تنقرض. لقد قال القذافي في خطابه بعيد ثورة 17 فبراير إنه لو كان رئيسا لرمى استقالته على معارضيه وترك الحكم، غير أنه من أجل ليبيا قال إنه سيمشطها "زنقة زنقة" و"حيط حيط" ليطهرها من الخونة والمهلوسين، إنه ليس حاكما بل هو فقط مجد ليبيا وعزتها وتاريخها ومستقبلها.. هكذا! لقد رسم في خطبه المتتاليات معالم ليبيا التاريخ والحاضر والمستقبل: أنا أو ستبقى ليبيا "حمرة" و"جمرة". الشعب الذي قال إنه يحبه وإنه أبوه والحاني عليه، توعد مطالبيه بالرحيل بالقتل والهلاك بعد أن وصفه بالجردان والقمل، طوق جزءا منه بترسانته الإعلامية وكتابه الأخضر كأنه قرآن لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه، وأشهر على شعبه سيف فلسفته الواحدة التي لا تقبل غيرها، ووضعه كرها وطوعا في قالب واحد. لقد نسي القذافي أنه بشر وليس شيئا آخر، حتى لا أقول إنه الله عز وجل، وأنه سينتهي لا محالة إلى نهاية. فقد أشار على "أنصاره" بأن يرددوا في بداية الثورة "القذافي وليبيا وبس" ولما انتبه تدارك فصاروا يهتفون "الله والقذافي وليبيا وبس". الجزء الآخر من شعبه الذي ضاق بحماقاته طول 42 سنة من الحكم وأراد التحرر منه والالتفات إلى نفسه ودولته وحاضره ومستقبله، أصبح بين عشية وضحاها هو تنظيم القاعدة بعد أن كان القذافي يسخر من سؤال لقناة سي أن أن في العام 2010 بشأن القاعدة بأنها صناعة موجودة في واشنطن فقط. وهنا نحن نرى كيف يصل إلى نتائج نظريته الثورية، لقد بدأ تحالف دولي، تقوده فرنسا وبريطانيا وأمريكا وتشارك فيه دول أخرى، في قصف ما بقي من قدرات وممتلكات وآليات الشعب الليبي وما قال إنه بناه في بنغازي وليبيا "طوبة طوبة". وهكذا قاد حملة مجنونة من صنع فكره الأخضر ولكن بلون وإكراه أحمر للقضاء على مقدرات البلاد وليضعها لقمة سائغة في يد التحالف الدولي وليترك ليبيا "جمرة" حمراء جرداء. ولم يترك القذافي خلفه لا مؤسسات ولا مجتمعا مدنيا ولا قانونا ولا فكرا ولا جامعات ولا مصانع ولا دولة.. بل ترك بلدا كأنه خيمة في صحراء قاحلة ليس فيها أثر ولا تلال ولا مقومات.. ترك الشعب الليبي يبدأ رحلة حياة وبناء بعد فترة هدم امتدت لمدة أربعة عقود، ترك شعبه والشعوب العربية تنتظر ما ستسفر عنه الأيام المقبلة. فهو لم أراد أن يخلد نفسه ليس ملعونا في ليبيا فقط بل في العالم العربي ككل لشدة حرصه على تطبيق نظريته الخالدة: أنا أو الطوفان. هكذا جسد القذافي معادلة بسيطة التأليف والتطبيق ولكنها قوية النتيجة: إما الحرية والمشاركة فالبقاء رمزا للبناء والإعمار والحضارة على مر العصور والأزمة، وإما الاستبداد والعيش الأناني لعقود فيترك اسمه ملعونا على مر الأزمان وأسرته مشردة بين الأوطان وبلده صفرا قحلا يبدأ رحلة بحث عن حياة كريمة بلا طغيان. إنها لعبرة لأولي النهى والأبصار. *مراسل صحيفة "التجديد" في قطر