إلى متى سنظل نلوك المبررات نفسها التي دأبنا على اجترارها منذ سنوات بخصوص حال سينمانا الوطنية؟ إلى متى سنبقى عاجزين أو متعاجزين عن مجابهة الواقع ووضع كل الحقائق على الطاولة مكشوفة عارية، حتى يتعرف عليها المواطن؟ أليس هو من يدفع الضرائب ومنها تمول هذه السينما؟ هل من حقنا أن نفتخر كذبا بما حققناه من تراكم سينمائي رغم أننا نعي وندرك في قرارة أنفسنا أن هذا التراكم مثقل بالتفاهة والرداءة، وأن ما نصفق له اليوم لا يعدو كونه وهماً في مخيلتنا، ولا يساوي شيئا في جوهره، فعوض الاعتراف بفشل هذه الإستراتيجية وابتكار غيرها، نُصرّ على دفن رؤوسنا في الرمال والاستسلام لثقافة الخنوع التي تعيق بناء هذا الميدان والنهوض به، فالسينما كثقافة إنسانية وفنية وثقافية...مشروطة بعدة معطيات ومعايير وإن لم نستوعبها جيدا، فسنفشل حتما، وقد فشلنا. السينما المغربية حققت تراكما كميا مهما حلّق بنا إلى المرتبة الثانية قاريا بعد جنوب إفريقيا، لكن ماذا بعد؟ أين نحن كيفاً لا كمًّا وسط هذه الخريطة القارية؟ ما نسبة انتشار أفلامنا بين دولها؟ الجواب بكل تأكيد صفر، ورغم إدراكنا لهذا الرقم المفزع، إلا أننا نتباهى به إعلاميا بمناسبة وبدونها، مع تزييفه طبعا. قد نصل إلى 25 فيلما سنويا، لكن هل هذا العدد كاف لتخطي الحدود والوصول إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين خارج البلاد؟ هل هذا العدد يؤهلنا لاحتلال المكانة اللائقة بناء على الخارطة السينمائية العربية حتى لا نقول العالمية. المتمعن في الخطاب الرسمي يعتقد أننا فعلا نزاحم هذه الأخيرة في معاقلها مع أننا لا نزاحم سوى أنفسنا، فقبل أن نوجه بوصلتنا صوب الخارج، علينا أولا أن نتميز داخليا، ونحاول قدر الإمكان احتواء المشاهد المغربي عبر منتوج قابل للاستهلاك، فأغلبية المغاربة لا يشاهدون كل الأفلام المغربية المنتجة سنويا ولا يعرفون عددها ولا أصحابها ولا كم صرف عليها... ولا يهمهم معرفة ذلك أصلا مادامت لا تجذبهم، ولا تحقق لهم الحد الأدنى من المتعة الفنية والفكرية، فالقليل منها يعرض "مهرجاناتيا" أو في قاعات العرض لبعض الوقت، والباقي "يأرشف" ويخزن، في استنزاف صارخ لأموال الشعب، نحن لسنا ضد النهوض بالسينما وتنميتها عبر دعم الدولة لها، بل بالعكس، لكن قبل ذلك يجب أن ننظر إلى نوعية الأفلام المدعمة، وماذا سنحقق من خلالها عبر مخطط شمولي ودراسة علمية جادة قادرة على تحقيق أهدافنا داخليا وخارجيا. كيف لنا أن نثق في هذه المنظومة المشكلة لهذا الميدان ونحن نشهد فشلها الدائم في تحقيق طموح المتتبعين ومعهم الجمهور؟ كيف لنا أن نأتمن لجنة الدعم على خياراتنا، وهي تراوغنا كل موسم لتحصر دعمها بين السيّئ والأسوأ وترمي ما تبقى من فتات للأحسن والأفضل؟ كيف لنا أن نتعلق بسقف آمالنا ونحن أمام مؤسسات وصية تتعامل مع السينما بأسلوب إداري ووظيفي أكثر منه ثقافي وإبداعي؟ كيف لنا أن نتفاءل خيرا ونحن أمام مجال احتكره أشباه الفنانين من مخرجين ومنتجين وممثلين؟ كيف لنا أن نحقق ما حققه الآخرون ومازال بيننا من يستغفلنا ويستولي على أموالنا بداعي الفن لتحقيق مآرب أخرى لا علاقة لها بما يدعيه؟ وخير دليل على ما نقول ما يعرض في صالاتنا و تظاهراتنا من أعمال نخجل من تسميتها أفلاما، أعمال تستبلد عقل وفكر المتلقي، والأدهى من ذلك عرضها في مهرجانات دولية أمام ضيوف كبار لهم وزنهم وقيمتهم، كما حدث مؤخرا في الدورة 15 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، حيث شارك المغرب بفيلمين ضمن فقرة "نبضة قلب"، وهما فيلم "المسيرة الخضراء" للمخرج يوسف بريطل، وفيلم "ليلى جزيرة المعدنوس" لأحمد بولان. قد نتفق على الأول بصفته تجربة ملحمية وطنية تحتوي على الحد الأدنى من مقومات العرض الاحترافية، لكن ماذا عن الثاني، ألم تخجل إدارة المهرجان من عرضه؟ ألم يكن ممكنا الاكتفاء بفيلم المسيرة فقط تفاديا للإحراج؟ الفيلم في غاية السوء للأسف، وقد عبّر أغلب من حضروا العرض عن دهشتهم من مستواه الفني والتقني، بل هناك من غادر القاعة ساخطا ليس على صاحب الفيلم فقط، بل على من ساعد في دعمه وإنتاجه وبرمجته وعرضه. ما ذنبنا نحن المغاربة أن نؤخذ بذنب الجهال في هذا الميدان؟ ما ذنبنا أن تمرغ أنوفنا في التراب بسبب الفاشلين وعديمي المسؤولية؟ ما ذنبنا أن تفرض علينا وعلى ضيوفنا أعمال مخرجين من بين أسوأ المخرجين لدينا؟ بل كيف تدعم أعمالهم رغم تجاربهم الفاشلة السابقة وتعرضها على المَلَإ؟ أليست هذه مهزلة تستوجب التوقف والمحاسبة؟ ألم يكن من المستحسن عدم عرض أي عمل مغربي على أن تعرض مثل هذه التفاهات؟ ويبقى التساؤل الأكبر لماذا رغم انتقاد النقاد لأعمال أحمد بولان السابقة ورفض العديد منهم لأسلوبه الركيك والضعيف في معالجة مواضيعه سينمائيا، يمنح له الدعم مجددا؟ لماذا رغم فشل هذه الأعمال فشلا ذريعا في فرض ذاتها "مهرجاناتيا" لا من حيث المشاركة ولا من حيث الجوائز- أتكلم هنا عن المهرجانات المحترمة والمعترف بها- يزكى من جديد ويمول ليتحفنا بعمل آخر أضعف من سابقيه؟ بربكم ما هي الإضافة التي أضافها هذا المخرج- مع احترامي الكبير لشخصه طبعا- ومن هم على شاكلته للمشهد السينمائي المغربي؟ ماذا استفدنا من وجوده في هذا الميدان؟ ألم يحن الوقت بعد لتغيير معايير الدعم وحذف كل الأسماء الفاشلة التي لا جدوى منها من لوائحه، ودعم أسماء جديدة شابة قادرة على إعطاء نفس جديد وبعث حركية أكبر في هذا المجال؟ مخطئ من ظن أن المغرب لا مواهب إبداعية به، بل به الكثير منها، فقط علينا أن ننفض غبار الفوضى الذي يعتلي هذا الميدان وستنكشف لنا واضحة جلية ساطعة. لا أتكلم هنا عن أحمد بولان وحده، فهو ليس سوى نموذج بسيط من عدة نماذج أخرى، وذكره في هذه الورقة جاء في سياق الحديث عن المهزلة التي حدثت في مهرجان مراكش الذي نعتبره رغم علله واجهة لنا ولإنتاجاتنا المغربية أمام الأجانب، تلك التي على المسؤولين أن يختاروها بعناية ودقة وحساسية أيضا، وكلامي هذا نابع من غيرتي على الفعل السينمائي ببلادنا، ومدى إشعاعه خارجها، فقد حاولت مرارا وتكرارا تطبيق الحكمة التفاؤلية المعروفة ''أن تضيء شمعة صغيرة خير لك من أن تقضي عمرك تلعن الظلام''، فاصطدمت بجدار صلب سلبياته أكثر وأقسى بكثير من مكتسباته، وستظل هذه السلبيات تتقوى وتتكاثر إذا ما استمرينا في جهلنا وتجاهلنا للمواهب القادرة على العطاء، وتشبثنا، في المقابل، بأسماء عفا عليها الزمَن، فكيف لنا أن نراهن على حصان خاسر، وخسارته هذه ظاهرة للعيان حتى قبل أن ينطلق السباق. *كاتب وناقد مقيم في هولندا