لا يعنينا عبر هذا المقال أن نخوض في موضوع التمثلات الاجتماعية السائدة لدى العامة من المغاربة، والتي تضع الأمازيغية في سافل الرتب قياسا مع غيرها من اللغات والثقافات المهيمنة بالمغرب، فذلك تحصيل حاصل، ونتيجة طبيعية لتهميش طال قرونا ولا يزال. بل ولا يعنينا أيضا أن نلتفت إلا ما كابده الباحثون الذين اختاروا مواضيع ذات صلة باللغة والثقافة الأمازيغية، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وما عانوه من العنت والصدود من قبل الأساتذة الباحثين بالجامعات المغربية. يعنينا هنا، أن نثير أمرا ذا صلة، بيد أنه أكثر أهمية، باستحضار مبدإ الأولوية في استدعاء المواضيع إلى حيز السؤال. وهو استمرار البحث الأكاديمي المغربي المعاصر (الجاري في قضايا أشكال التعبير السوسيوثقافي) في إنتاج مقولات الهيمنة والتبخيس، تحت مسميات وذرائع مختلفة. سنكتفي عبر هذا المقال بإبراز بعض من تجليات الهيمنة، كما يكشف عنها الفعل الدراسي والبحثي، لا كما تتبلور في شكل أدبيات صريحة. ونلفت عناية القارئ إلى المسلكيات الشاهدة على ذلك كثيرة، قلما تفطن إليها الباحثون، بمن فيهم من يصطف بجوار المدافعين عن التمثيلية المتكافئة لأشكال التعبير الثقافي المغربية. ومنها مثلا أن تسكت لجان المناقشة عن عنونة عدد من البحوث والأطاريح الجامعية بعناوين اختزالية، وهذا أمر مطرد بشكل لافت بجل الجامعات المغربية، وهكذا نقرأ، تمثيلا، في أطروحة الأستاذ أحمد زيادي "الأحاجي الشعبيّة المغربية: مجالاتها وبنياتها ووظائفها ومقارناتها وخصائصها"، مع أن الباحث لم يدرس من الأحاجي إلا المغربية العامية منها. ولو أن طالبا جامعيا تناول الأحاجي الأمازيغية لكان عليه أن يثير ذلك في عنوان البحث ومتنه. ومثل هذا الكلام ينسحب على مجمل البحوث الجارية في الحكاية والشعر التقليدي وغيرها من فنون التعبير التقليدي، حيث يكتفي الباحث بإثارة وسم "الشعبي" أو "العامي" أو "التقليدي" مضافا إليه لفظ المغربي، دون إثارة لغة المتن الأدبي أو اللساني المدروس. ونحن نثير هذه الأجناس دون غيرها من الأنواع الأدبية الحديثة؛ لاشتراك الإنتاج الأمازيغي والمغربي العامي في كثير من الخصائص والصفات، وهو ما يستوجب، بداهة، التعامل الأكاديمي نفسه. وقريبا من هذا أيضا إلزام الباحث في قضايا الأدب الأمازيغي على ترجمة متونه ومدوناته إلى إحدى اللغات ذات التقاليد الكتابية، خلافا لحال الباحث في الأدب المغربي العامي الذي يُخَيَّر النظرين. ملامح التبخيس، وانتفاء شروط الموضوعية نعثر عليها في صلب الدراسات والأعمال الدراسية التي تخرج من رحم الجامعات، فها هو ذا الباحث المغربي حسن نجمي الذي أنجز أطروحته عن غناء العيطة، يسكت عن تاريخ الظاهرة الموسيقية بالمغرب ما قبل الإسلامي، وقد استمسكت به النزعة الوسيطية للزمن (على حد تعبير الأستاذ محمد القبلي)، فيفتتح درسه التاريخي بالحديث عن خيول العرب الأولى، وكأن البلاد قد كانت قبلها قاعا صفصفا لم تطأها أقدام بشر، أو لكأن أهاليها لم يعرفوا شيئا اسمه الشعر أو الموسيقى إلى أن أخذوه عن العرب "الفاتحين". وقد كان خليقا بالباحث أن يسير إلى الماضي قليلا، أو أن يثير الصعاب التي حالت دون ذلك. يخرج من رحم هذه الزلة العلمية، شرط نراه ضروريا لكل دراسة تروم الموضوعية هدفا والرصانة أفقا، وهو شرط امتلاك الباحث في قضايا الموروث المغربي التقليدي للكفايات اللازمة من اللغات والثقافات الوطنية؛ لاعتبار التداخلات البينية القوية القائمة بينها، واستحالة الوقوف على التأويلات المناسبة للنصوص المغربية في حالة عدم امتلاك الباحث للحد الأقصى من المدخرات المعرفية المتصلة بالتنوع الإثنوثقافي للبلد. وبيانا نحن نميل إلى الاعتقاد مثلا بلزوم شرط إتقان الأمازيغية والدارجة المغربية من لدن كل دارس لأشكال التعبير الأدبي التقليدي المغربي (الأمازيغي والمغربي العامي). ولذلك يبدو مثيرا للاستغراب أن يسكت الباحثون الجامعيون عن إثارة هذه القضية القاعدية، وأن يستمر احتضانهم لدراسات تنطلق من نظير هذه المقدمات، وأن ينتظروا الخلوص إلى أحكام استقرائية تدور في فلك الموضوعية. واللافت أيضا أن تجد باحثين متمرسين لا يولون للأمر بالا، وأن يستمر صمت "مؤسسة البحث العلمي-الإنساني المغربية" عن البحث في خصوصية الامتزاج بالمعنى الذي تحدث عنه عبد الله حمودي، بذكر حدود الأثر الذي تخلفه الروافد الثقافية المركزية في بناء الشخصية الثقافية المغربية، وإذا كان لا بد من إعطاء المثال الشاهد، فلا بأس من استدعاء مثال كلام الأستاذ بنسالم حميش، الذي لم يتفوه مطلقا بلفظ الأمازيغية على امتداد حوار طويل أجري معه بخصوص تدريس الدارجة المغربية (حوار صحفي نشرته إحدى المجلات المشرقية وأعادت نشره جريدة مغربية في عز النقاش الذي دار السنة المنصرمة في موضوع تدريس الدارجة)، رغم أن نقاش الجذور والصلات والوظائف الخاصة بالدارجة لا يستقيم عقلا دون استدعاء الأمازيغية، إثباتا أو نفيا، عرضا أو تعرضا، تمثيلا أو قياسا أو تشبيها أو استشهادا. هي بضع ومضات ارتأينا مشاطرة القارئ تبعاتها وآثارها على موضوعية الأحكام، بغاية دعوة الباحثين إلى معاودة النظر في كثير من مسلمات البحث في مجال الغرب الإسلامي، وبخاصة ذلكم الفريق الذي يسارع إلى تأصيل الظواهر الفنية المغربية بربطها ب"أمهاتها" بالمشرق بغير تردد يذكر، وغض الطرف عن الأثر الأمازيغي فيها، أو الأثر المحلي الناتج عن امتزاج الثقافتين العربية والأمازيغية (ومساهمات الثقافات المتوسطية والإفريقية). وهذا التغافل والإعراض لا نتلمسه في العادة لدى الباحثين الأجانب (لا نقصد الدراسات الكولونيالية؛ لأنها موصومة باتهامات إيديولوجية)؛ بسبب حرص معظمهم على التعالي على أي مركزية ثقافية، واتخاذهم نقطة انطلاق تقع على مسافة واحدة من كل اللغات والثقافات المغربية والأجنبية المتنافسة أو المتعايشة في سوق الممتلكات الرمزية. للقضية تبعات ثقافية على قدر من الأهمية، واستمرار التمييز بين اللغتين الوطنيتين في رحاب المؤسسات الجامعية يعطي الانطباع بوجود مقاومات سياسية ذات حسابات غير علمية وغير أكاديمية، وتذكي الاحساس بالغبن لدى كل المدافعين عن التمثيلية المتكافئة لأشكال التعبير السوسيوثقافي المغربية. وبناء على هذا كله يغدو واجبا على الباحثين الأكاديميين في قضايا التعبيرات الثقافية المغربية إعطاء القدوة والمثال في أخذ المسافات الواجبة عن مواضيع البحث، وإعادة الاعتبار إلى المهمش من مجالات الدراسة.