اندلعت في الفترة الأخيرة معركة لغوية بين أنصار اللغة العربية الحديثة والعامية أو الدارجة المغربية؛ وقد بادر إلى إشعال فتيلها رجل الأعمال المستشهر نور الدين عيوش، أحد دعاة الفرنكفونية الذي سبق له أن نظم ندوة عن "اللغة الدارجة في النظام التربوي"، كان من أبرز توصياتها دعوته إلى تدريس اللهجة الدارجة المغربية في المراحل التعليمية الأولى، باعتبارها اللغة الأم. وحجية هذه الدعوة لم تتحقق لولا مشاركة المفكر المغربي عبد الله العروي، الذي "خرج من برجه العاجي" أو "مقبعه"، كما قالت جريدة "الأحداث المغربية" التي خصها بحوار طويل أعلن فيه رأيه المعارض لهذه الدعوة. تجدر الإشارة إلى أن موقف المفكر عبد الله العروي من ازدواجية العربية المغربية والدارجة العامية ليس جديدا، لقد سبق أن عبر عنه في كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ" عند حديثه عن قضية "التعريب"، وكذلك في كتابه "من ديوان السياسة" الذي تحدث فيه بتفصيل واضح عن رأيه حول العربية المعربة والأمازيغية والدوارج المغربية. لقد تقاطع مع أطروحة العروي جمهرة من المثقفين التنويريين الذين عرفوا بكتاباتهم العلمية التي تدافع عن استعمال اللغة العربية الحديثة وجدارتها في نقل التراث العربي الإنسي، وتحقيق التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع، ونقل المعارف الحديثة، كما كان شأنها في الماضي، عندما تحولت اللغة العربية في الأندلس إلى جسر عبرت من خلاله ترجمة الثقافة اليونانية إلى اللغات الأوروبية. لقد كان من أبرز الأسماء اللامعة التي انخرطت في هذا السجال اللغوي عبد القادر الفاسي الفهري، أحد علماء اللسانيات المرموقين، وعالم الأنثربولوجيا المفكر عبد الله حمودي، وكثير من الباحثين المنتمين إلى الجمعيات المدافعة عن حماية اللغة العربية. أما أنصار الدعوة إلى استعمال الدارجة فيمثلهم نور الدين عيوش بمؤازرة فئة محدودة من "الأكاديميين" الذين أطنبوا في وصف الدارجة المغربية واعتبارها اللغة الأم أو لغة الأم، وذلك بتوظيف هذا اللعب اللغوي لاستمالة عواطف المواطنين باسم نزعة (التمغربيت) الشعبوية، التي اعتبرها عبد الله العروي دعوة من أجل الانغلاق على الذات، "لأن الانتماء إلى المغرب وثقافته الشفوية شيء والانتماء إلى الموروث الثقافي العربي شيء آخر". وزاد: "أكثر من ذلك فأنا أرى أن الانتماء إلى المغرب لا يتعارض أصلا مع الانتماء، ليس إلى المجموعة العربية أو الشعوب العربية، وإنما إلى ثقافة الجاحظ وابن خلدون وألف ليلة وليلة، هذا الموقف لخصته في أربع صفحات ضمن كتابي من ديوان السياسة". (أنظر، جريدة الأحداث المغربية عدد 5135) لقد توجت هذه المعركة اللغوية بتنظيم مناظرة تليفزيونية، شارك فيها عبد الله العروي ونورالدين عيوش، وعرفت، بالرغم من طابعها الثقافي النخبوي، ذروة المشاهدة والمتابعة من المواطنين المغاربة، وانتهت لصالح أطروحة عبد الله العروي، التي تنحاز إلى العربية الحديثة المعربة. تميز هذا النقاش المتعلق بالهوية اللغوية من قبل بعض المشاركين فيه بالخروج عن مقاصده العلمية وتغليب العاطفة الذاتية والدوافع الإيديولوجية السياسوية، خصوصا عند بعض دعاة "السلفية اللغوية" الذين جعلوا من هذا السجال العلمي حول استعمال اللهجة العامية كمقابل للغة العربية الحديثة كأنه معركة موجهة ضد الدين الإسلامي. ولقد تزعم هذا الموقف بعض أنصار الفكر التقليدي المحافظ، الذين صرح زعيمهم للصحافة بأن "الدعوة إلى تدريس الدارجة موجهة ضد الدين الإسلامي". إننا نختلف من منطلق علمي لساني مع وجهة النظر التي تعمل إلى التعلق والتماهي بين الإسلام واللغة العربية، لأن ثلث سكان العالم الإسلامي هم من غير الناطقين باللغة العربية. كما أن مثل هذا الموقف يمانع في حدوث التطور الذي عرفته العربية القديمة أو لغة الضاد، التي ينظر إليها على أنها كينونة جامدة، أو أنها مازالت بنية مستمرة وخالدة منذ نشأتها الأولى؛ بينما نحن ننظر إلى اللغة العربية على أنها كائن حي، يخضع ككل اللغات الإنسانية لقوانين التطور والتغيير. في المقابل نجد أنصار "العدمية اللغوية السياسوية" الذين يتزعمهم رجل الأعمال المستشهر نور الدين عيوش يزايدون على الآخرين بارتباطهم بلغة الشارع والشعب، دون معرفة علمية بالواقع اللغوي أو تقدير للكلفة الثقيلة التي تنتج عن المطالبة بتدريس اللهجات المحلية، على المستوى الاقتصادي والسياسي والتربوي. لكن الملاحظ أن طرح أسئلة التعدد اللغوي والنقاش حول الازدواجية اللغوية من قبل النخب المغربية، سواء في مرحلة الحماية أو ما بعدها، كما فعل المثقفون الشرقيون، لم يعرفه المغرب إلا في فترة متأخرة، لأن الجدل حول علاقة الفصحى بالعامية المغربية لم يكن متضمنا في برنامج النخب الوطنية، سواء في عهد الاستعمار أو غداة حصول المغرب على الاستقلال. ولقد أشار عبد الله العروي إلى هذه الظاهرة المرتبطة بتأخر الوعي الهوياتي عند المثقفين المغاربيين عندما قال في حوار صحافي: "أريد أن أقول إن مشكل اللغة العربية والدارجة والدعوة إلى اعتماد الدارجة بدل العربية لا يطرح إلا في بداية المسيرة الثقافية لشعب معين، (عدد 5134) فإذا كانت هذه الدعوة إلى تبني العامية قد طرحت في المشرق العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، مع رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، أحد رواد النهضة العربية، فإنها -إذا استثنينا بعض المستشرقين العاملين كمستشارين في الإقامة العامة الفرنسية، كوليم مارسي وجورج كولان- لم تظهر في المغرب إلا بطريقة محتشمة وخجولة حتى عقد السبعينيات من القرن الماضي، (بعد الاستقلال دعا بعض المتفرنسين إلى اعتماد الدارجة لغة التعبير الأدبي، وكانوا يدعون إلى ذلك ولا يطبقونه أبدا (من ديوان السياسة، ص57). ويقصد عبد الله العروي بهؤلاء المتفرنسين، "بعض كتاب مجلة "أنفاس" في نسختها الفرنسية، الذين لم يسبق لهم أن مروا إلى الفعل، واكتفوا بالدفاع عن تلك الفكرة دون تطبيقها. (جريدة الأحداث المغربية). لكن أبرز المدافعين عن أطروحة الازدواجية اللغوية في الفترة الأخيرة هو الكاتب الروائي باللغة الفرنسية فؤاد العروي، الذي ألف كتابا صدر عن دار النشر الفنك، بعنوان (الدراما اللغوية المغربية le drame linguistique marrocain) 2010 لم ينتبه إليه المثقفون واللسانيون المختصون في قضايا اللغويات عندما دافع عن الدارجة المغربية ضد استعمال العربية الفصيحة، معتبرا أن أكبر تحد بالنسبة للمغرب المعاصر هو في تأثير الازدواجية على التعليم والإنتاج العلمي. ويرى الروائي فؤاد العروي أن المسألة اللغوية ممثلة في الازدواج اللغوي بين العربية الحديثة والعامية لها الأسبقية في أهميتها على القضايا الاقتصادية والاجتماعية. لقد تأخر الوعي الهوياتي في طرح مسألة التعدد اللغوي بالمغرب، بالمقارنة مع التجارب العربية النهضوية في المشرق. ويمكن تفسير ظاهرة ارتباط المغاربة وتعلقهم باللغة العربية بفعل البعد عن المركز الذي صار عندهم مكانا مقدسا ينظرون من موقعه إلى اللغة العربية القادمة منه نظرة تطابق بين الرسالة الدينية وقناتها الإبلاغية؛ وهذا هو السبب الذي جعل المغاربة، سواء كانوا من الأمازيغ أو العرب، (كمثال دعوة المهدي بن تومرت وعالم النحو الفقيه المكودي) يحيطون علما باللغة العربية ويتجاوزون فصاحة أهل المشرق المنحدرين من مهاد الجزيرة العربية. بينما نجد أن طلائع النهضة العربية في المشرق قد بادروا إلى مثل هذه الدعوات. وكان أهم الدعاة إلى استعمال العامية في أغلبهم من أصول مسيحية، أمثال شبلي شميل أو سلامة موسى وسعيد عقل . أما على المستوى التطبيقي فإننا نجد في لبنان الشاعرين يوسف الخال، صاحب مجلة "شعر"، باللغة الفصيحة، وسعيد عقل، صاحب ديوان "يارا". لكن المفارقة أن هذين الشاعرين لم نتعرف عليهما إبداعيا إلا من خلال كتاباتهما النثرية الفصيحة. أما بالنسبة للمستوى الأكاديمي فهناك العالم اللساني اللبناني أنيس فريحة، الذي حدد شروطا يجب أن تكون مجتمعة حتى تنجح دعوته إلى العامية المشتركة، أهمها (1) أن يكون لهذه اللهجة أدب (2) وأن يتم تداوله بواسطتها (3)، وأن تضبط أحكامها الصرفية والنحوية والصوتية (4)، وأن يتم كتابتها بالحرف اللاتيني (5)، وأن يقبل باستعمالها كل العرب. انظر كتاب "نحو عربية ميسرة" (ص.188). أما عندنا في المغرب فإننا لا نجد من الكتاب الفرانكفونيين، أنصار تدريس الدارجة المغربية، من تجرأ على تبني مثل هذه الدعوة واعتمادها على مستوى التجربة الإبداعية، في محاولة للرقي بالعامية المغربية وتطويريها، كما فعلوا مع "غنيمة" اللغة الفرنسية، التي قاموا بتطويعها واستعمالها على المستوى الإبداعي. كما أن المثقفين الفرانكفونيين عندنا لم يعملوا على التعبير أدبيا بالعامية المغربية كما فعل المثقفون المشرقيون، الذين جعلوا من التأليف الفني على المستوى الإبداعي في مجال السينما والأغنية دعامة لترويج العامية كلغة مشتركة يتداولها المجتمع العربي، من مصر الناصرية إلى المغرب الأعلى؛ بينما بقيت العامية المغربية - نتيجة لانفصال النخب الفرانكفونية عنها، واختيارهم للفرنسية كأداة نخبوية للتواصل -- مجرد لهجة فقيرة لا ترقى إلى تمثيل عوالمنا التخيلية والتصورية، نظرا لاستعمالها التواصلي المحدود في الحاجيات اليومية البسيطة؛ ولهذا يغلب عليها ما يسميه العروي "النزعة الفلكلورية"، التي توجد عندنا في الغناء الشعبي والفكاهة والحوارات في السينما والأعمال التليفزيونية (انظر جريدة، أ.م). يتمثل الفقر اللهجي في عدم قدرة الدارجة المغربية العامية على التعبير عن القضايا الحضارية والمفاهيم المجردة، كالإحساس والتفكير والوجود، إذ لا ترقى اللهجة المغربية إلى مصاف بعض اللهجات الشرقية التي وقع ترويضها، (لاحظ ضعف القاموس العاطفي وفقر الحوارات السينمائية والدرامية باللهجة المغربية، خاصة في المواقف الرومانسية)، لأن النخب عامة، والفرانكفونيين خاصة وتحديدا، من الذين يطالبون بتدريس اللهجة الدارجة، لم يعملوا أبدا على الاشتغال عليها إبداعيا لخدمة الأداء التواصلي. لقد تميز وضع اللغة العربية المكتوبة في المغرب، حتى نهاية القرن الثامن عشر، بالجمود والانحطاط، كما يقول الباحث جاك بيرك، (حيث لم يعد الشعراء يجددون في موضوعاتهم واكتفوا بالاحتماء بأمجاد الماضي، أما المؤرخون فقد انتقلوا إلى كتابة الحواشي، وبالنسبة للغة العربية التي كان يفخر متكلموها بأنها لغة الضاد، فإن هذه الميزة ستتعرض مع مرور الزمن للنسيان). في هذا السياق نجد الأستاذ علال الفاسي يصف واقع اللغة العربية (العامية) في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قائلا: "لازال قسم من سكان الجبال في المغرب لا يتكلم العربية). وهذا الحكم على ضعف امتلاك اللغة العربية الفصيحة والعامية عند المغاربة تؤكده بعض الأمثلة الدالة التي يقدمها المؤرخ عبد الله العروي، عندما يسرد حكاية المؤرخ المغربي الفقيه أكنسوس (الذي كان يرفض كل المحاولات التجديدية من أجل تطوير اللغة العربية، التي دعا إليها أحد المثقفين اللبنانيين الذي كان يقيم في فرنسا. كما أن الفقيه بن إدريس "استغرب كيف استطاع أحد المثقفين المسيحيين أن يمتلك قدرة الحديث باللغة العربية الفصيحة". لكن أمام هذا الوضع المتردي الذي كانت توجد عليه اللغة العربية، يمكن أن نثمن الدور التحديثي الذي قام به رواد السلفية الوطنية المغربية، من خلال كتاباتهم الإبداعية والفكرية، من أجل تأسيس لغة "عربية مشتركة" حديثة أو (lingua franca)، لتحقيق التواصل الفاعل مع الجماهير والتحريض السياسي ضد المستعمر الذي كان يروج للغة الفرنسية، كما وقع عند حادثة (الظهير البربري)، إذ تمكنت السلفية الوطنية من أجل السيطرة على الفضاء السياسي المغربي أن تواجه دعوة المستعمر التي كانت تروج للغة الفرنسية، (لتسهيل السيطرة الفرنسية بالاعتماد على الإقليمية البربرية)، إذ نلاحظ أن الوعي الثقافي الديني المشترك بين الأمازيغ والعرب جعل مثقفي السلفية المغربية يفسرون حادثة "الظهير البربري" بالتأكيد فقط على بعده "العنصري اللاديني" الذي يهدف إلى التفرقة بين العرب والأمازيغ، دون مراعاة أبعاده السياسية والاقتصادية الحقيقية، "التي كانت تسعى إلى إيجاد شروط لتهدئة بلاد البربر وإخضاعها"، كما قال الجنرال ليوطي للسلطان. لهذا يمكننا القول إن مشروع السلفية المغربية منذ حادثة الظهير البربري كان مشروعا لغويا بامتياز، كتب بتعبيرات سياسية، ويمكن اختزاله في الشعار السلفي "لقد كان حرزهم الحريز اللغة العربية، ووسيلتهم هي التعليم". وهكذا ترسخت في الوعي الجمعي المغربي معاني الانسجام والانصهار والوحدة، لأن اللغة العربية عند السلفية الوطنية صارت هي الأساس الأول لتعريف الهوية المغربية، أو كما يقول عابد الجابري "لما كانت روح شعب من الشعوب دائما تتجلى في لغته القومية، فإن الثقافة الوطنية المنشودة في جميع الأقطار العربية لا يمكن أن تستوفي شروط وجودها وأن تقوم بالمهام المناطة بها إلا إذا كانت بلغتنا الوطنية، اللغة العربية. لقد كان التصور السائد للثقافة هو أنها لا تتحدد من حيث الشكل، لا بالأرض ولا بالموقع الجغرافي ولا بالأصل العرقي، وإنما تتحدد أساسا باللغة". لهذا تتعلق اللغة بمتكلميها، فعندما كان مستعملوها أقوياء كانت اللغة العربية قوية، ومن هنا كانت الأمة هي اللغة، واللغة هي الأمة، وفي ضعف الأولى ضعف للثانية، وفي قوة الأولى قوة الثانية. لقد كان التعاطي مع اللغة العربية من لدن السلفية الوطنية يعتمد على رؤية عمودية قائمة على المواجهة مع الأجنبي، أو بين لغة المستعمر ولغة المستعمر. ولقد كان "الظهير البربري" مجرد مصادفة تاريخية، (بأيدي الوطنيين لم يكونوا ينتظرونها)، كما يقول جان لاكوتور، فتحولت عندهم إلى "وثيقة ميلاد الحركة الوطنية المغربية". بدأ وعي الأستاذ العروي بمسألة الازدواجية اللغوية في فترة مبكرة. لقد قام بدراستها في إطار تحضيره لبحث أكاديمي في جامعة السربون.. "ناقشت سنة 1959 في درس الأستاذ رجيس بلاشير بالسربون مسألة اللغة المحكية أو العامية، والتي نسميها نحن "الدارجة"، ترجمة للعبارة الفرنسية Arabe courant، وبعد أن لخصت ما قيل قديما وحديثا، وهو كثير ومتشعب، أكدت أن ما يمنع هذه اللغة من أن تمر بالتطور نفسه الذي مرت به اللغات الأوروبية المنحدرة من اللاتينية، فتنفصل عن العربية الفصحى المعربة، هو بالضبط الحرف. لو أبدل هذا الحرف باللاتيني الذي يضبط المصوتات، لتم الانفصال حتما. ووافقني بلاشير على هذا الاستنتاج"، (من ديوان السياسة ص، 56). لكن موقف العروي بالنسبة لاختيار الكتابة بالحرف اللاتيني يعتبر موقفا ملتبسا ومترددا يقتصر على التمني، (لو أبدل هذا الحرف باللاتيني)، بل يمكن القول إنه في الفترة التي كان يعد فيها بحثه الجامعي لم يكن يخالف الرأي القائل عند الأفارقة مثلا باستعمال الحرف اللاتيني، (لو كان منطق اليسر، منطق الاقتصاد هو المتحكم لدينا، لفعلنا كما فعل غيرنا ولكتبنا لغتنا مهما يكن بالحرف اللاتيني الذي انتشر في جل العالم). ويظهر من خلال هذا الشاهد التاريخي أن اختيار الحرف اللاتيني كان هو الرأي الأقرب، الذي كان يميل إليه الأستاذ عبد الله العروي في فترة الخمسينات من القرن الماضي، لكنه سيتراجع عنه، "بعد اختباره لبعض تجارب الفيتناميين الذين تخلوا عن الحرف الصيني، والأتراك الذين تخلوا عن الحرف العربي، وكذلك الناطقون باللغة السواحلية في إفريقيا الشرقية وباللهجات التتارية في أسيا الوسطى" (من ديوان السياسة ص 74). لكن عبد الله العروي لم يفسر لنا السبب الذي حال دون اختياره تبني الحرف اللاتيني كأقصر الطرق المستقيمة –من وجهة نظره الإيديولوجية - للقطيعة مع التراث والاندماج في الغرب، كما راهن على ذلك دعاة الحركة التحديثية التركية بقيادة كمال أتاتورك.. "لقد وجهت دائما دعوة إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني، ولقد قوبلت دائما بالرفض، بل رفضت حتى الدعوة إلى تعديل الخط العربي لأسباب تقنية اقتصادية، وأكثر من ذلك ثقافية وسياسية"، (ص48) لأن التشبث بالحرف العربي هو "تشبث بالثقافة والخصوصية والأصالة والانتماء وكل محاولة تغيير أو إصلاح تؤدي إلى الفرقة، والعزلة تعني التفريط في تراث عظيم، هو الثمن الذي أدته تركيا الكمالية، كما تعني الانفصال عن مجموعة بشرية تعد سندا وحمى".. لهذه الأسباب، المرتبطة تحديدا بسقف الوعي السائد في مرحلة استقلال المغرب، التي كثرت فيها التحديات المصيرية، سيضطر العروي إلى التنازل عن الدعوة إلى الكتابة بالخط اللاتيني التي كانت أقرب إلى توجهاته التحديثية - للخروج من مأزق ازدواجية الفصحى المعربة والدارجة وترسيمها؛ "أي أن ننزع الثقافة الخاصة منها ونجعلها في متناول العامة"، وذلك بتطبيق "سياسة التعميم والتعريب" (ص 52). لقد انطلق الأستاذ عبد الله العروي، في نظرته إلى المسألة اللغوية في شموليتها، متسلحا بالاعتماد على منهجية العلوم اللغوية (والتاريخ المقارن واجتماعيات الثقافة ص، 210)، مؤكدا أن أزمة المثقف العربي، في علاقته بالمحلي والقومي، "تنحصر في عاملين هما السلوك واللغة، حيث يكنز التراث الثقافي ص172"، لأن المشكل الأساس الذي يعانيه المثقف العربي على المستوى اللغوي، يتمثل في قضية التعريب "التي تهم الوطن العربي بكامله، والتعريب الحقيقي هو استيعاب المفاهيم، لا ترجمة المفردات" (ص، 177). إن مشكلة اللغة العربية أنها مسألة معقدة، "لا يملك أحد لها حلولا سحرية....ولا يوجد مسؤول يقبل أن يخاطر بأثمن كنز يملكه العرب"، ألا هو اللغة العربية، لأن هذا الكنز الحامل للتراث الثقافي يقتضي لزوم التطور التاريخي؛ "لأني لا أتصور مثقفا عربيا مرتبطا بمجتمعه واعيا بقوميته ويتطلع إلى المستوى العالمي، دون أن تتوفر لديه وسيلة للتعبير عصرية وطبيعية"، (ص177)..فاللغة حسب العروي، هي خزان التراث المشترك بين متكلميها، ووسيلة للاستمرارية "مع الماضي ومع الحاضر"، (ص 50).. لهذا السبب لا يمكن المغامرة بالتخلي عنها واستبدالها، كما أنها من أجل أن تحيا وتستمر وتملك القدرة على التفاعل المتكافئ والقدرة الندية على المستوى الكوني لا بد أن يتم تطويعها وتيسيرها كي تنقل المعرفة الجديدة وتكون أداة للتعبير الإبداعي الذي يقدمه العرب إلى العالم. إن أهمية اللغة أنها "مرآة تنعكس فيها أحوال الثقافة والحضارة، فمشكل اللغة هو مشكل التخلف، لا يتصور تقدم حضاري يبقى معه المشكل اللغوي قائما على حاله التي نحياها اليوم، إما يحل وإما يهمل نهائيا"، (ص209).. مضيفا إلى ذلك أنه لا يمكن أن تحل هذه القضية "إلا في نطاق قرار وحدوي". وعندما يتحدث العروي عن القرار الوحدوي فإنه يعتبر أن مثل هذا القرار يجب أن تتكفل به "سلطة قومية، هي وحدها قادرة على حل مشكل اللغة، الذي يعني في الأساس مشكل التخلف"، (ص209 ). يميز العروي بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية، باعتبارهما ظاهرتين اجتماعيتين مختلفتين. إذ تتماهى وتتطابق اللغة المكتوبة عند العروي "مع اللسان المقوعد، الذي يستعمل في المحافل الرسمية"، (ص211).. هناك مستويات لغوية متفاوتة يحصرها العروي "في اللهجات المستعملة في الحياة اليومية"، ثم بجانب اللهجات "قد يوجد مكتوب وهو لهجة وقع عليها الاختيار لسبب من الأسباب، لتكون وسيلة التخاطب الرسمية...قد تكون لهجة الطبقة الحاكمة في البلاد، وقد تكون لغة أجنبية فرضتها ظروف سياسية أو ثقافية أو دينية محددة، تصبح اللهجة المذكورة لسانا، عندما تجري عليها عملية تنميط وقوعدة"، (ص211). وترجع أهمية اللسان المقوعد حسب العروي إلى أنه قادر على القيام "بدور الوساطة"، مادامت اللهجات "تروج في محيطات ضيقة"، وفي مجالات محدودة. ولكي تنتقل هذه اللهجات من محيط إلى آخر، "لا بد من أن تتحول ولو جزئيا إلى اللسان المقوعد، وهذا واضح في تقنين العلوم"، (ص212). إن اختيار العروي للدفاع عن اللسان المقوعد ممثلا في اللغة العربية الفصيحة والمعربة والحديثة ليس بوازع اعتبارات ذاتية عاطفية أو لأسباب متعالية، بل لدوافع إجرائية "نفعية أو برغماتية"، أي كواسطة يقوم بها اللسان المقوعد، "لأنه الطريق الضروري الذي يركبه كل من يريد أن يذيع معارفه وابتكاراته"، (ص213). وتمثل هذه الواسطة الإجراء "الوحيد على المستوى التربوي الأولي..إننا نستعمل هذا الهدف في وقت ستكون الشعوب الشرقية التي تتكلم مثلنا العربية الحديثة ودارجتها قد تجاوزتنا بقرون ضوئية". إن مطلب إصلاح اللغة العربية واجب لازم، كما أن الدستور المغربي ينص على ترسيمها والعناية بها عبر أجرأة قانون إنشاء مؤسسة أكاديمية اللغة العربية، التي أقرها "ميثاق التربية والتكوين"، والتي لن تكون مهمتها دراسة وإصلاح العربية الحديثة وحدها، بل ستهتم كذلك بمعيرة الدارجة المغربية وتهذيبها وتقعيد نحوها وصرفها كما دعا إلى ذلك أنيس فريحة في مقترحه الإصلاحي. وإذا افترضنا جدلا أن مقترح تدريس الدراجة قد تم التوافق حوله، فإن ذلك يتطلب منا مراجعة الدستور، لأن الدعوة إلى الدارجة تعتبر كما يقول عبد القادر الفاسي الفهري "انقلابا واضحا على الدستور. ومادام الدستور الجديد ينص على أن اللغة العربية يجب أن تنتشر وأن تحرص الدولة على دعمها وحمايتها وتعميمها، لأن هناك أشخاص يريدون الانقلاب على الدستور". إن المستهدف هذه المرة من الدعوة إلى توظيف الدارجة في التعليم هو اللغة العربية الحديثة، لقد لاحظنا دينامية في ترسيم الاعتراف باللغة الأمازيغية، من خلال إنشاء المعهد الملكي للأمازيغية، بينما نجد أن قرار دسترة اللغة العربية لم يوازيه تطبيق توصيات "ميثاق التربية والتكوين". لقد جاءت هذه الدعوة إلى تدريس الدارجة متأخرة في زمن العولمة وانفتاح الآفاق بين اللغات والتفاعل بين الثقافات، ما دفع المفكر عبد الله حمودي إلى أن يعتبر أن طرح موضوع الدارجة في هذا الظرف تحديدا مشكل مفتعل لإلهاء الناس "عن المشكل الحقيقي، وهو مشكل التعليم الذي قال عنه عاهل البلاد إن منظومة التعليم فشلت فشلا ذريعا. وعوض الجلوس من أجل التفكير في تطوير التعليم، نجد هناك صراعا بين أطراف مختلفة ولأغراض سياسية لتحويل النقاش ونقله إلى ثنائية الدارجة والتعليم وحرب الفرانكفونيين". إن التعاطي الموضوعي مع المسألة اللغوية يجب أن يتعالى على الحسابات الفئوية الضيقة، وأن يتكتل الجميع أمازيغا وفرانكفونيين وحماة اللغة العربية الحديثة في جبهة واحدة لتحقيق العدالة في الحقوق الثقافية، وربح رهان الولوج إلى مجتمع المعرفة.