هناك ظاهرة مضطردة يقف عليها الباحث عند دراسته لتجارب التهيئة اللسانية التي خضعت لها حديثا بعض لغات العالم ،وترتبط عادة في انغماس اللسانيين و المتخصصين في التدبير التقني و العملي لإشكالية انتقال اللغة من الوضع الشفوي إلى الوضع الكتابي كأولوية ملحة على حساب جوانب أخرى لا تقل أهمية ،هذا التدبير غالبا ما ينحصر في أمور لصيقة و من صميم اللغة ذاتها و تدخل ضمن مكونات نظامها الداخلي و الوظيفي ،كمعيرة الحرف و الإملائية و توحيد قواعد التراكيب و الصرف و المعجم و تحديث المفردات الجديدة و سد ثغرات في أفق مواكبة اللغة للمستجدات المعرفية و العلمية ،و غيرها من العمليات التي تروم التقعيد و التقنين و التدقيق ،غير أنه سرعان ما تظهر معيقات ذات طابع خارجي و لها علاقة بامتدادات اللغة و استعمالاتها اليومية أو المناسباتية ،فردية أو جماعية ،حيث تحد بشكل أو بأخر من تقدم و نجاح ورش التهيئة اللغوية. فإذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية ،كما ينظر إليها السوسيولوجيون ،فإنها ستشكل ،حتما ،جزءا لا يتجزأ من نسق عام يتداخل فيه ،وبشكل عضوي ،الثقافي و الاجتماعي و الحضاري و الفني و الأدبي و الرمزي و التواصلي و النفسي...تحكمه علاقات متبادلة من التأثير و التأثر ،مما يجعل اللغة ذلك الوعاء الذي يتشرب ثم يعكس كيفية تصور المجتمع لذاته و تصوره للأخر و يعكس طريقة تفكير أفراده و آليات التفاهم الصريحة و الضمنية ،كما يحافظ على أشكال التعبيرات السائدة و الأنماط التواصلية.اللغة إذن هو نتاج تفاعل تجري أطواره داخل الرقعة الجغرافية التي تشغله و بانخراط فعلي و تنشئوي مستمر لأفراد التكتلات الاجتماعية التي تتحدث هذه اللغة ،وبذلك تصبح (اللغة)وسيلة لضمان استمرار الخصوصيات المحلية و الأشكال الأدبية و الثقافية التميزية عما هو سائد لدى التكتلات الاجتماعية الأخرى. ويُبْرِزُ الأدب بكل تحققاته ،كالشعر و النثر و القصة القصيرة و القصة الطويلة و الأحجية و الأمثال ...العلاقة الوطيدة بين اللغة(الظاهر)و النسق السوسيوثقافي(الباطن)لمجتمع ما ،إذ أن الفهم الكلي مثلا لعمق دلالات بيت شعري ينتمي إلى الشعر الأطلسي (تامديازت) أو فهم مغزى مثل شعبي ليس متاحا للكل و لو كان ناطقا أمازيغيا سوسيا أو ريفيا ،ونفس الملاحظة تنطبق على الشعر الأمازيغي لسوس و للريف.فالأدب يختزن أشكال التفكير متعارف عليها في منطقة معينة خاصة عندما يكون غارقا في الترميز و الاستعارات و غيرها من المحسنات الجمالية و الدلالية التي تعطي قيمة فنية و ذوقية لأي عمل كان ،واستيعاب دلالاته يمر عبر اختراق النسق السوسيوثقافي للمنطقة التي ينتشر فيها. من هذا المنطلق إذن ،تبرز بعض الإرهاصات التي يولدها تدبير إشكالية معيرة و توحيد اللغة الأمازيغية في علاقتها بالأدب و في تحقيق رهان الانتقال من لغة شفوية إلى لغة كتابية دون المساس بجوهر الأدب الأمازيغي ،إذا علمنا أن هذا الأخير يُتخَذ ،في الغالب ،معيارا مباشرا للحكم على ورش تهيئة اللغة الأمازيغية خاصة و أن اللغات الشفوية عامة تضمن استمرار معجمها الأصيل و محسناتها اللفظية بواسطة توريث التعبيرات الأدبية ،بما معنى أن السؤال المطروح اليوم ،و الذي يجب أن يكون موضوعا لمؤلفات و مناظرات ،هو كيف يمكن إنجاح معيرة اللغة الأمازيغية دون التأثير على الخصوصيات الأدبية المحلية؟أو بصيغة أخرى ،هل معيرة الأمازيغية تقتل جوهر الأدب الأمازيغي؟ الإجابة عن السؤالين يمكن حصرها في نقطتين أساسيتين:علاقة الأمازيغية المعيار بالأدب ثم كيفية تحقيق الإنتقال من أدب ذو خصوصيات محلية إلى أدب أمازيغي موحد. لا يطرح أي إشكال على مستوى تدبير معيرة اللغة الأمازيغية بمعزل عن الأدب ،وتبصم النتائج المحققة إلى حدود اليوم على نجاعة الاختيار و على السيرورات المنهجية و النظرية و التطبيقية المعتمدة.غير التعقيد يشتد كلما انتقلنا إلى الحديث عن علاقة الأمازيغية المعيار بالأدب. من بين المبادئ الأساسية التي يقرها الاختيار العلمي في تهيئة الأمازيغية ،نجد التقعيد التدريجي للغة ،و يفيد ذلك في المجال التربوي مثلا أن التلميذ الناطق بإحدى فروع الأمازيغية يحافظ على نمط تواصله الأم و خصوصياته داخل الفصل مع الانفتاح التدرجي و المقنن على الفروع الأخرى إلى حين يصبح معه قادرا على التحكم في الأمازيغية الموحدة كتابة و نطقا و فهما و تعبيرا أدبيا ،وبهذا التبسيط يمكن فهم كذلك علاقة الأمازيغية المعيار بالتعبيرات الأدبية المحلية ،فالمعيرة لا تقصي و لا تقتل الخصوصيات المحلية للتعبيرات الأدبية الأمازيغية بقدر ما تحافظ عليها و على استمرارها مع العمل في نفس الوقت على التقريب بينها عن طريق مجموعة من المداخل ،من بينها توجيه الشعراء و المبدعين إلى الانفتاح التدريجي على مختلف الفروع الأمازيغية الأخرى و عدم التقوقع في تحقق لساني وحيد ،وعن طريق كذلك تسريع وثيرة تدريس اللغة حتى يتسنى تكوين جيل قادر على استيعاب كل أبعاد و مكونات الأمازيغية. وحتى يتحقق انتقال ناجح من أدب ذو خصوصيات محلية إلى أدب ذو بعد أمازيغي موحد ،لابد من مراعاة محددين محوريين.فمن جهة ينتصب هاجس توحيد اللغة و من جهة أخرى يوجد هاجس الحفاظ على جوهر الأدب الأمازيغي و هويته و قيمته لدى الناطقين المحليين ،وبقدر ما نستطيع التوفيق بين هذين الهاجسين بقدر ما سنستطيع تحقيق رهان التوحيد المرجو ،وهنا تبرز المسؤولية الملقاة على عاتق المبدعين الشباب و الكتاب الجدد ،خاصة في كتابة الشعر و القصص ،في البحث عن تنمية المشترك و الانفتاح على كل الفروع الأمازيغية و في نفس الوقت الحفاظ على الهوية المحلية للتعبيرات الأدبية و عدم المساس بقيمتها الذوقية لدى الناطقين الذين لم يتعلموا الأمازيغية المعيارية. ولن يتم كسب هذا الرهان الكبير ما لم تتضافر جهود مختلف الأطراف و الفعاليات.وهنا أذكر بالخصوص دور الباحثين و الأكاديميين و الجمعيات الناشطة و معهد الملكي للثقافة الأمازيغية و كل المؤسسات و الجهات ذات الصلة بالأمازيغية و أدبها و ثقافتها بصفة عامة ،في تعبيد أرضية نظرية و مرجعية و معرفية و فكرية قادرة على مواكبة الإبداعات و توجيهها ،فهناك فراغ في هذا المجال ،حيث نجد غيابا لدراسات و أبحاث و لقاءات تنصب جهودها في توضيح الرؤى المستقبلية لجيل المبدعين و توفير خلفيات يمكن اعتمادها من أجل التعامل العلمي و الفعال مع الأدب الأمازيغي في هذه المرحلة الانتقالية.