كثيرا ما تثار علاقة اللغة الأمازيغية المعيارية باللهجات المحلية المتداولة،و ذلك في سياق النقاشات الدائرة حول نجاعة ورش معيرة و توحيد الأمازيغية،و تختلف الخلفيات و دوافع إثارتها،بين باحث عن أجوبة شافية و بين من يتخذها مدخلا للتشويش و نشر مغالطات و طمس للحقائق و المعطيات العلمية،في حين يُغَيبَ صوت اللسانيين و الباحثين و فقهاء اللغة المطالبين بإنتاج خطاب موضوعي رزين ذو بعد تواصلي،باعتبار أن تهيئة اللغة الأمازيغية هو بمثابة ورش وطني ضخم يستلزم التوعية أولا و من ثم ضمان أنخراط كل الشرائح الاجتماعية في إنجاحه. في البداية لا بد من الإشارة أن اللغة لا تولد مكتملة،و لا يسعها أن تؤدي كل الوظائف دون أن تمر عبر سيرورة طبيعية تدريجية تنتقل بموجبها من الوضع الشفوي إلى التدوين ثم التطور و الاستمرارية عن طريق التدخل البشري المواكب لها،فلا يمكن للغة كيفما كانت مكانتها أو طبيعتها أن تحيى دون أن يكون للبشر دور في ذلك،و هو ما يعني أن التدخل في اللغة يعد عملية واعية و منظمة و ضرورية،تختلف أشكالها و مناهجها باختلاف بيئة و تاريخ اللغات.و رغم أن تاريخ بعض اللغات لازال في كثير من جوانبه مستعصيا عن الاحاطة الكلية،خاصة في ما يخص كيفية تدبير الإنتقال من الشفوية إلى التدوين،إلا أن التجارب الحديثة قد أفرزت معطيات علمية و عملية مكنت اللسانيين المعاصرين من بناء تصورات و مناهج عن اليات تهيئة اللغة بنجاعة و بدقة. و التهيئة اللغوية هو مفهوم حديث العهد بالسوسيولسانيات،حيث تم استعارته من الأدبيات اللسانية الأنجلوفونية خلال فترة تأهيل فرنسية الكيبيك(بداية النصف الثاني من القرن العشرين)،و شرع في تداوله بدل مفهوم ''التدخل في اللغة''الذي كان سائدا في الدراسات اللسانية الأوربية خاصة في حلقات براغ،ويحيل(مفهوم التهيئة اللغوية)إلى التدخل على مستوى متن اللغة(الحرف،النحو،الصرف،المعجم...)و على مستوى وضع اللغة(الدستور،وظيفة اللغة،رسمية،وطنية.... تتخذ التهيئة اللغوية أشكالا متنوعة،و تخضع لمنهجيات متباينة،فما يصلح للغة معينة قد لا يصب في مصلحة لغة أخرى،و بمعنى أدق،هناك اعتبارات عدة تحسم في نمط التهيئة المناسبة لكل لغة،كالوضع السوسيولساني و الامتداد الجغرافي و ارتباط السياسي باللغوي و تعدد اللهجات و العامل الاقتصادي و رمزية اللغة و علاقتها بالمقدس...و بصفة عامة يمكن إجمال أنماط التهيئة اللغوية التي يمكن اللجوء إليها في المعيرة أو فرض لهجة معينة أو إحياء لغة ميتة ،أو تجميع هجيني لكل الفروع. في حالة اللغة الأمازيغية،خيم هاجس الموازنة بين إعداد لغة معيارية قابلة للتدريس و التدوين و في نفس الوقت توخي الحذر من إمكانية خلق انفصام عن التحققات التداولية المحلية،مما حتم اختيار منهجية تراعي الشروط و مميزات الأمازيغية و المتمثلة في :_الوحدة العميقة للغة الأمازيغية و التي أكدتها الدراسات قديما و حديثا(باسي،شفيق،بوكوس،مجاهد...)،حيث أن اللهجات تحتفظ بالمشترك الذي يصل إلى 60 في المئة حسب دراسة ل سليم شاكر. _الامتداد الجغرافي الواسع للغة الأمازيغية و اختلافات هامشية على مستوى التداول(الفونولوجيا،المعجم.... _اللغة الأمازيغية لغة حية متداولة يتم اكتسابها عن طريق التنشئة الاجتماعية و في غياب الرعاية الرسمية . _مراهنة الفعاليات الأمازيغية منذ البداية على توحيد الأمازيغية و الوقوف ضد المطالبة باللهجات الجهوية. و لهذا فقد كان لزاما أن تتبع المنهجية التي تنبني على تقريب المشترك بين الفروع و تحييد الاختلافات الهامشية،و إدماج الخصوصيات المحلية في نموذج أو قانون لساني يشكل المرجع في التواصل الكتابي و الشفوي،و هذا يطلق عليه المعيرة المتعددة.فمعيرة اللغة الأمازيغية تتيح التوحيد بناء على تعزيز الوحدة العميقة و في نفس الوقت تحافظ على علاقتها بالمتداول اليومي للأمازيغ في مختلف المناطق.و لم يكن ليتأتى هذا التوفيق بين اللغة المعيارية و اللهجات دون اعتمادها على الدراسات المقارناتية و الوصفية و حتى التاريخية لضرورة استيضاح تطور المعيار اللساني في الزمن. و رغم ذلك فإن حدود اتصال بين اللغة المعيارية و اللهجات قد تتسع و قد تضيق،و واه من يدعي المطابقة بينها و إلا فلن يكن هناك حاجة ماسة إلى تدريس اللغة في المدرسة بافتراض أن الناطق يعرف اللغة بكل جزيئياتها.و اللهجات يقتصر دورها على الوظيفة التواصلية البسيطة بين أفراد المجتمع،مما يجعلها تفتقر إلى المفاهيم المجردة و المفردات الفكرية و الفلسفية و العلمية الضرورية لأداء وظيفة الكتابة و التدوين و تخزين المعرفة،أضف ذلك أن جل اللهجات تعاني من التعريب و الدخيل الذي يحجب الكلمات الأمازيغية الأصلية و يجعلها غريبة في نظر بعض الناطقين الذين لا يستوعبون أحيانا أن الكلمة قد تختفي في منطقة معينة لكن يستمر تداولها في منطقة أخرى،و هنا تظهر محدودية قريحة الناطق العادي الذي لم يتعلم الامازيغية في المدرسة في استيعاب كل المعجم الأمازيغي المعياري الذي تم إغناءه عن طريق اللجوء إلى اعتماد الترادف أو التحديث أو الاقتراض و النسخ أو الاشتقاق...و غيرها من العمليات التي يعتمدها المتخصصين لتدارك النقص الحاصل في أي اللغة.و هذه الظاهرة مضطردة في كل لغات العالم،فما يتداول في المنزل أو الشارع لا يطابق ما هو مدرس في المدرسة.