إذا كان الاهتمام المنصب اليوم على المستويات الإجرائية للإصلاح داخل المنظومة التربوية والتكوينية قد اتخذ حيزا لا يستهان به من النقاش في المرحلة الأخيرة، فإن المنظور السياسي العام وأسس ومنطلقات الإصلاح ذاته بقيت خارج نطاق هذا التداول. فاعتماد البعد الحقوقي كمدخل للتنشئة هو حق من حقوق الإنسان يفضي إلى التمتع بحقوق أخرى. وعملية الارتكاز على ثقافة حقوق الإنسان في المنظومة التربوية تأتي في سياق رؤية تطمح إلى أن تشكل هذه المنظومة منطلقا لترسيخ الوعي بالمسؤولية، وأرضية لترسيخ الوعي الجماعي، ومجالا للتربية على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وميدانا لترجمة القيم إلى ميول ومواقف وسلوكات مدنية. فالمفروض، مأسسة التنشئة الاجتماعية على ثقافة حقوق الإنسان، وتملُّك قيمها ومبادئها ومفاهيمها من طرف المكونات المشرفة على التأطير والتوجيه، وأنسنة العلاقات والممارسات داخل فضاءات التنشئة والتكوين، وتنمية التوجهات والمواقف والسلوكات المدنية. إن فكرة المواطنة بمعناها العام، هي شعور جماعي يدركه الفرد من خلال علاقته بالآخرين: من حيث وعي الذات لدى الإنسان من خلال المجموعة، ومن حيث علاقة الفرد بمجتمعه، وما ينتج عنها من علاقات، ومن حيث علاقة الفرد بالدولة وما ينتج عنها من ارتباطات. فللمواطنة ارتباط كبير بالهوية والوعي بالذات، من خلال البعد النفسي للمواطنة؛ عبر الإحساس بانتماء الفرد إلى الوطن، وإلى المجموعة ضمن شعب، وإلى الدولة القائمة على مؤسسات، وما يتبع ذلك من مشاعر مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والواقع المشترك والمصير المشترك. والبعد الثقافي للمواطنة؛ عبر الإحساس بالانتماء إلى ثقافة معينة، والشعور بحضور هذه الثقافة بالذهن والتعاطف معها؛ لأنها البيئة التي يجد فيها المرء شخصيته الثقافية؛ فهو قابل لها ولديه رضى بالانتماء إليها، ومستعد للانفتاح على الإيجابي في كل تجارب بلدان العالم. والبعد المدني والقانوني؛ عبر الوعي بما على الفرد من حقوق وواجبات بصفته مواطنا. ولا يمكننا اليوم الوقوف دون الاكتراث للأسئلة التي تعكس فعلا الانشغال العميق بالواقع التربوي والتعليمي الملتبس على مستوياته الإجرائية، في ارتباطه بمتطلبات وإكراهات واقعنا الاجتماعي والثقافي والحقوقي. رهان التربية والتكوين اليوم هو رهان التعبير عن الانضباط للإرادة المجتمعية العامة، ورهان الإنتاجية والتدبير العقلاني، ورهان رد الاعتبار للمدرسة. وعلى الرغم من الاهتمام الذي يوليه المجتمع المغربي لإصلاح منظومة التربية والتكوين والدعم القوي لتمويل البرامج الإصلاحية التربوية، إلا أنه يتأكد أننا لم نحسن استثمار هذه الفرصة التاريخية. فالمدرسة لا زالت في منأى عن تحقيق الغايات الكبرى؛ مثل: ترسيخ قيم المواطنة الحرة، وتنمية روح المسؤولية، ودعم التنمية الثقافية، والانخراط في سياق البناء الديمقراطي، وملامسة شروط ضمان التماسك الاجتماعي وصيانة الهوية الوطنية المتعددة الأبعاد. وإذا كانت مهمة المدرسة هي التأثير في سلوك الأفراد تأثيرا معقلنا ومنظما، وفق ما يحدده المجتمع، وإذا كان مجهودها يقاس بمدى تحقيقها لمهمتها، فإن معطيات النتائج المحصلة تؤشر على أنها لا زالت غير قادرة على تفجير كل الطاقات الفردية وتحقيق الاندماج المجتمعي وإكساب الناشئة مقومات التنشئة الاجتماعية المتوخاة. لذلك فأي رهان للمجتمع المغربي على المدرسة؟ فالتداول بشأن الرهانات المجتمعية على المدرسة، والمطارحة بخصوص التعاون والشراكة والتأثير المتبادل بين المجتمع والمدرسة، وجعل الفعل التربوي منخرط في سيرورة الحياة والنمو والتوجيه الاجتماعي، ومساهمة المدرسة في تكوين وتنمية شخصية الأطفال وإعادة تشكيل النخب وتجديد دماء المجتمع... كل ذلك لا يمكنه أن يكون حصرا على فاعل دون آخر، فيما يخص تحديد الخلفيات والمنطلقات والتوجهات والاختيارات والأهداف والأولويات التي يجب الاستناد إليها في رسم الاستراتيجيات وخطط العمل داخل المنظومة التربوية والتكوينية. فما هي إذن محددات عملية النمو التربوي التي يرتئيها المجتمع المغربي كأسس ومنطلقات لممارسة المدرسة لمهامها اليوم؟ وكيف يمكننا أن نوفق بين الناشئة المغربية بخصائصها ومميزاتها، كمادة حية تعمل عليها ولها المدرسة المغربية، وبين ما يريده المجتمع المغربي أن تشب عليه؟ وما هي إمكانات وإمكانيات جعل المدرسة تشكل تلك الصورة للمجتمع المثالي الذي يمكن أن يحقق للنشء مطالبه، وفي ذات الوقت يعمل على المساهمة في تحقيق أهداف المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي؟ وما هي طبيعة وشكل الشروط التي ينبغي مراعاتها لتنظيم العملية التربوية داخل المدرسة المغربية للتمكن من إكساب النشء مجموعة كبيرة من المهارات السلوكية والعادات الانفعالية والفكرية والاتجاهات؟ وكيف يمكن للمدرسة أن تكون مراعية لما يمكن أن يكون عليه الأفراد والجماعات من فروقات فيما بينهم، سواء على مستوى العوامل المجالية والبيئية أو على مستوى الاستعدادات والرغبات والميول الفردية والفئوية؟ وتركيزنا اليوم على سؤال رهان المجتمع على المدرسة، هو تركيز اقتضته ضرورة الفصل الإجرائي لموضوعات الاشتغال. لذلك وعلى المستوى المنهجي، لا يعني تداولنا لموضوع التنشئة الاجتماعية إهمالا لباقي الموضوعات المعنية بتقييم مسار الإصلاح على مستوى الحكامة وتدبير المنظومة، والإصلاح البيداغوجي بالتعليم الأساسي والثانوي، والحياة المدرسية، والبحث العلمي والتربوي، واستراتيجية استكمال الإصلاح، والموارد البشرية، ومحاربة الأمية والتربية غير النظامية... بل قد يكون في قلب الاهتمام في سياقات أخرى مستقبلا.