لمقاربة مشروع الإصلاح التربوي والتعليمي اليوم ببلادنا، وتناول بعض قضاياه الملحة، لابد أن نتوقف لطرح سؤال مركزي وآني حول مدى توفر الشروط الاجتماعية والثقافية الضرورية للإصلاح، خاصة فيما يتعلق بمدى وعي الأسر بدورها واضطلاعها بمهامها التربوية، وانخراطها في معادلة الإصلاح التربوي عبر امتدادات العلاقة مدرسة/ مجتمع، وموقع الأسرة في ذلك. فمن أين سنبدأ، وما حدود وشروط التكامل بينهما ؟ وما السبيل لإنجاح رهان الأسرة والمدرسة لتحقيق إصلاح مشترك وفعلي؟ يكتسي الإصلاح التربوي أهميته باعتبار راهنيته ومشروعية السؤال حول واقع الأسرة ومدى مساهمتها في هذا الاصلاح المنشود باعتبار علاقة الأسرة/ المدرسة كأساس جوهري لكل كيان متصل بالتربية. فأين تكمن إذن اشكالية العلاقة بين الأسرة والمدرسة ؟ هل ترتبط بمشكل التواصل ؟ ولماذا تحولت من علاقة تكامل إلى واقع سمته الغالبة التنافر والتناقض والنشاز ؟ هل تلعب الأسرة بهذا المعنى دورا مكملا ومسهلا للمهمة التربوية للمدرسة، أم أنها تقف أحيانا عائقا أمام نجاعة وجودة الدور والفعل التربوي والقيمي للمدرسة ؟ كل مشروع تربوي لا بد له من مشروع اجتماعي كي يشهد النور، حسب مارسيل بوستيك. ومن المعلوم أن العلاقة بين إشكالية التربية والمجتمع، وبين الأسرة والمدرسة، هي علاقة جدلية، فالأسرة هي الوسط الحقيقي والأولي للتنشئة الاجتماعية للطفل، هي التي تحتضنه وتنمي قيمه، وتمنحه الكفايات الأولى والأساسية للحياة الاجتماعية والإندماج المجتمعي. فهي إذن طرف أساسي وعامل حاسم في تربية وتعليم الناشئة على قيم السلوك المدني الإيجابي والخلاق، التي تجعله منخرطا في محيطه ومجتمعه، وفي فضاء المدرسة ذاتها. كما أن الأسرة هني اللبنة الأساسية في بناء شخصية الطفل المتعلم(ة)، وتكوين مواطن حر واع يملك حس المسؤولية اتجاه ذاته واتجاه الأخرين، باعتباره فاعلا حقيقيا لاكسابه الشخصية الاجتماعية والمناعة الضرورية.( إدكار موران، الفهم الإنساني ). تضطلع الأسرة بمهذا المعنى إذن بمهمة التنشئة الاجتماعية، كما عرفها دوركايم، كما يعرفها السوسيولوجي الكندي غاي روشي Guy Rocher باعتبارها منظومة الإواليات التي تمكن الفرد على مدى حياته من تعلم واستبطان قيم اجتماعية وثقافية سائدة في وسطه الإجتماعي. بهذا المعنى يمكن تصور التنشئة كمنظومة عمليات يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته بما تنطوي عليه من مفاهيم وقيم، تلك التي تعتبر مكونات وركائز نفسية وتربوية في توجيه التفكير والسلوك لدى الفرد المواطن، وهي تنبع من التجربة الإجتماعية وتمثلها الشخصي، ودورها في البناء الإجتماعي وتكوين الشخصية الفردية، ومن تم توجيه رغبات الفرد واتجهاته وتحديد وتقييم السلوك المقبول والمرفوض. من هنا يكتسب كل طفل متعلم هويته في معناها المنتسب الى حاجته للانتماء الى شيء محدد، والتماهي مع صور ومثل معينة، فكل طفل يرتبط بتاريخه وبوسطه الأسري ومحيطه الاجتماعي القريب، ومن تم تتشكل بدرجة كبيرة ملامح شخصيته وسلوكه، واكتساب بنية نفسية خاصة وإرثا بيولوجيا وثقافيا محددا. إن التربية الأسرية في جوهرها عملية قيمية حسب روشي، فمن خلال الأسرة يستطيع الطفل -المتعلم-المواطن أن يتمثل قيم مجتمعه وترسيخ السلوكات الإيجابية التي تمتد الى محيطه القريب ثم إلى المدرسة كفضاء تربوي واجتماعي يحتوي الطفل المتعلم ويمنحه فرصة متميزة لتجسيد مواطنته وهويته الذاتية الاجتماعية، وحسه المواطنتي وسلوكه المدني، مما يؤهله لاكتساب وممارسة قيم المواطنة والمسؤولية والإحساس بالواجب اتجاه المدرسة والمجتمع على حد سواء. ورغم أن المدرسة مؤسسة تعكس أحيانا تناقضات المجتمع، باعتبارها أداة لاعادة إنتاج قيم وثقافة المجتمع، بل وحتى فوارقه، كما يدهب إلى ذلك بيير بورديو، إلا أن المدرسة اليوم وفي ظل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي طالت منظومة القيم، مدعوة إلى فهم وإدراك طبيعة هذه التحولات داخل المجتمع، والاظطلاع بدورها الرئيسي في التربية والتكوين، وخلق الانسجام الاجتماعي، والتنشئة على القيم الكبرى، وإنتاج وتجديد المعنى. يجب أن لا تكون المدرسة مجرد مسرح لما يجري داخل المجتمع، أو رجع صدى لتناقضاته وأزماته أو اختلالاته، من خلال إعادة إنتاج نفس البيانات الاجتماعية والقيمية بشكلها التقليدي، فهي تتوفر على هامش على الأقل رغم كل الإكراهات، يجب اسثماره في اتجاه التجديد والتقويم وتطوير المنظومة الاجتماعية، وتوجيه الدينامية القيمية وفق الاختيارات والغايات المنشودة. ان المدرسة مدعوة اليوم باعتبارها فضاء تطور وتحرر، إلى أداء وظيفتها في التغيير والتجديد ومسايرة التقدم العلمي والتحولات القيمية والثقافية والكونية في بعدها الإنسي والديمقراطي، باعتبارها مؤسسة مجتمعية وحلقة أساسية تتكامل في جوهر رسالتها التربوية والاجتماعية مع الأسرة، وتظطلع أكثر بتقويم تناقضات المخيال الاجتماعي والممارسات والسلوك التربوي، بما في ذلك المكتسب من الأسرة والشارع، في ارتباط وثيق بمشروعية وغايات المشروع التربوي والمجتمعي الذي يبدأ من الأسرة، أو هكذا ينبغي، الى المدرسة نحو بناء نسق مجتمعي تربوي وثقافي يبني مواطن الغد ويرسخ لقيم المواطنة والحداثة. فاذا كانت المدرسة المغربية، اليوم مدعوة لأن تنفتح باستمرار على محيطها المحلي والكوني، وتطور مناهجها وفعاليتها التربوية، فلا يمكن تحقيق ذلك دون جعل الأسرة في صلب اهتمامها باعتبارها الشريك الحقيقي والدعامة الأساسية لتخليق المجتمع وتأهيل وتحرير الإمكان البشري . فلا يمكن تصور مجتمع متماسك ومتوازن ومنسجم مع ذاته ما لم تتغير العلاقة التربوية بين المدرسة والأسرة ، اذ لا يمكن تصور الأسرة كنواة مستقلة وكتنظيم خاص منغلق على ذاته، بل تعتبر بالضرورة بنية مرتبطة بالمدرسة ومحيطها، تتفاعل معه وثؤتر فيه وتثأثر به. وتقتضي هذه المقاربة المتعددة والمتكاملة التفكير والعمل على تجديد هذه العلاقة وتحديثها، لاسترجاع الثقة بين الأسرة والمدرسة، وخلق تصالح سوسيولوجي يمتد بعلاقته التواصلية والتربوية في بعدها التكاملي . إنه من الملح اليوم، رأب هذا الصدع، وإعادة نسج العلاقة بين الأسرة والمدرسة بما يمكن من خلق فضاء تربوي صحي لفائدة الطفل من خلال الإنخراط في الحياة المدرسية التي ينبغي أن تنفتح على مكونات المجتمع، بشكل تتفاعل فيه منظومة ومكونات المجتمع المدني بجميع فعالياته والمؤسسات الحديثة الى جانب الدور الكبير الذي يجب ان يضطلع به الإعلام وكل المؤسسات الفاعلة داخل المجتمع. كما أنه من الضروري إعادة الثقة في المدرسة المغربية وخلق نقاش وطني صريح وجدي لتحقيق تواصل حقيقي بين الأسرة والمجتمع والمدرسة، ولإعادة الاعتبار للدور الحقيقي للأسرة في عملية التربية والتعليم باعتبارها صمام الأمان الذي تفتقده المدرسة اليوم، وهي تعيش مختلف مظاهر السلوكات اللاتربوية، كالعنف والشغب وسوء التقدير والانظباط للقوانين الداخلية وواجبات الحياة المدرسية. لاشك ان الأسرة والمدرسة مدعوتان للعمل معا لمواجهة رهانات وتحديات المرحلة الجديدة، التي تتمثل بالأساس في ضرورة تنمية الوعي بمكانتهما ودورهما الخلاق في نشر قيم المواطنة، وترسيخ مبادىء السلوك المدني والديمقراطي والحداثي، والعمل على تكوين جيل الغد المتعلم والمواطن الذي ننشد تحقيقه، مواطنا مسؤولا وواعيا بواجبه وحقوقه، منخرطا في ورش البناء والإصلاح والتنمية. فلا يمكن الحديث عن أي إصلاح تربوي وتعليمي، ولا عن أي تطور اجتماعي، دون انخراط مؤسسة الأسرة والمدرسة في ورش الإصلاح والتغيير، وما لم ترق الأسرة المغربية بوعيها وحسها التربوي اتجاه المدرسة و المجتمع باعتبارها عامل نجاح المشروع التربوي وليس عامل إحباط أو هدام لأن المدرسة مدعوة أن تلعب دورها التربوي والتواصلي باعتبارها مكملا ومسهلا للفعل التربوي والتعليمي، وليس العكس. يتطلب الواقع التربوي اليوم، ضرورة خلق آليات الوساطة التربوية في الفضاء المدرسي لحل النزاعات والتوترات، وإحداث مراكز للاستماع و للإرشاد والدعم والمساعدة النفسية والاجتماعية لفائدة المتعلمين والمتعلمات، وتطوير آليات التواصل التربوي بين الأسرة والمدرسة من خلال طرق جديدة للتعاقد التربوي، تتحمل فيها الأسرة مسؤوليتها الاجتماعية لتسهيل العملية التربوية وتنظيم الحياة المدرسية وتحقيق النتائج المرجوة. كما يتطلب ذلك نشر ثقافة الحوار والتواصل واشراك الفاعلين والشركاء المدنيين في تنمية الممارسات المدنية داخل المحيط المدرسي، والنهوض بالسوك المدني من خلال مشاريع تربوية توطد لأشكال الممارسة المواطناتية والديمقراطية ونبذ اشكال العنف وترسيخ قيم ومبادىء الحوار البناء والجاد واحترام الآخر داخل الفضاء العام. فنجاح المؤسسة التعليمية التربوية في تربية المتعلم المواطن على قيم المواطنة والسوك المدني رهين بانخراط الأسرة باعتبارها النواة والخلية الأولى للتربية، لذلك فإن أي تقصير في دورها التربوي وتملصها من أداء أدوارها أو الوعي بواجبها التربوي اتجاه المدرسة، يحملها مسؤولية التقصير في أداء واجبها اتجاه المجتمع. كما أن أي إصلاح تربوي رهين بمبدأ التناغم وتكامل الأدوار بين الأسرة والمدرسة لخلق نسق مجتمعي وتربوي منسجم ومتوازن، يبدأ من الأسرة ويمتد الى المدرسة في إطار تعاقد تربوي ومجتمعي يرقى لتحقيق مجتمع متماسك ومنسجم، قادر على الانخراط في مسارات الإصلاح التربوي والتطور الإجتماعي والتنمية المنشودة.
ذ.رُقية أيت حمو *باحثة تربوية، أستاذة بمدرسة بئر انزران، تكوين،أكادير