عدم الانضباط و احترام الآخر، الغش، والعنف والتحرش، والأضرار بالملك العام والبيئة هل أصبحت المدرسة المغربية اليوم تشكل هاجسا أخلاقيا ينضاف لهاجس الهدر و تراجع المستوى التعليمي ؟ وهل أصبح عدم الانضباط واحترام الآخر والعنف والتحرش علامات تميز سلوكات بعض تلامذتنا؟ هل تخلت المدرسة عن وظيفتها التربوية , أم أن تحديات العصر تجاوزت إمكانياتها…؟ إن ما تشهده فضاءات المؤسسات التعليمية اليوم من سلوكات تسائلنا جميعا حول من يتحمل مسؤولية هذا الاختلال في منظومة القيم في مدارسنا ؟ فهل استطاع تقرير المجلس الاعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي حول «التربية على القيم في المنظومة التربوية « أن يجيب عن بعض هذه الأسئلة؟
خلف تقرير المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي, حول «التربية على القيم في المنظومة التربوية» الذي قدمه الاسبوع الماضي ردود فعل مختلفة من طرف المهتمين بالشأن التربوي , فهناك من اعتبره سطحيا ولم يلامس المشكلة من خلال معطيات واحصائيات واقعية , وأنه اعتمد على تقارير مؤسسات وطنية، دون أن يقدم عينة الدراسة التي استند إليها، كما أنه لم يقدم أرقاما أو نسبا محددة تبين ضعف الانسجام في تعامل المدرسة مع قضايا القيم والتربية عليها، وبين من يرى أن هذا التقرير تحلى بالجرأة حين طرح الاشكالية الاخلاقية وجعلها من صلب اهتمامه وأولوياته, والتي ركز عليها رئيس المجلس عمر عزيمان في كلمته التقديمية, بل طالب «بالتصدي الحازم للسلوكات اللامدنية المضرة بالفرد وبالجماعة، التي ما فتئت تتنامى في بعض فضاءات المجتمع، وداخل مؤسسات التربية والتكوين بجميع مستوياتها، من قبيل عدم الانضباط وعدم احترام مهام المسؤولين وعدم احترام الآخر، والغش، والعنف والتحرش، والأضرار بالملك العام وبالبيئة». مما يحتم وبشدة يقول عزيمان الضرورة القصوى لتملك وترسيخ منظومة القيم التي يحددها دستور بلادنا في أذهان وتصورات وتصرفات وسلوكات الأفراد والجماعات والمؤسسات. وأوضح عزيمان، أن التربية على «القيم تسائل اليوم بإلحاح مجتمعنا وتسائل بحدة على الخصوص دور المؤسسات التأطيرية والتربوية وفي مقدمتها المدرسة»و أن «المجلس يعطي الأسبقية في انشغالاته لتنمية القيم الفضلى في الممارسات اليومية للأجيال المتعلمة « عزيمان ألقى المسؤولية في جانبها الكبير للمؤسسات التربوية في حفظ النظام العام داخل المدارس, فحسب رأيه «الدور المركزي، الذي لامحيد عنه، موكول للمدرسة في القيام الأمثل بإحدى وظائفها الجوهرية المتمثلة في التنشئة الاجتماعية المبكرة للمتعلمات والمتعلمين،وفي تربيتهم على القيم الروحية وقيم المواطنة وفضائل السلوك المدني، في تكامل مع باقي تنظيمات وفعاليات الدولة والمجتمع، ولاسيما الأسرة والهيئات السياسية والنقابية والجمعيات المدنية والحقوقية ووسائل الإعلام» محددا الغاية من هذا التقرير في «الحاجة الملحة لبلادنا، في هذه المحطة التاريخية، إلى تكوين المواطن الواعي، القادر على الموازنة بين حقوقه وواجباته، المتشبث بهويته متعددة الروافد وبتاريخه،وحضارته ووطنه، الملتزم بمسؤولياته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، المدرك لمكانته ودوره في المجتمع،المحترم للآخر وللحق في الاختلاف،المنفتح على العصر وعلى الكون.» عبد الغفور العلام عضو اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج والتكوينات والوسائط التعليمية بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أوضح الدوافع التي حملت المجلس على إنجاز هذا التقرير , حيث «كشف الواقع جملة من الصعوبات والاختلالات في مجال التربية على القيم في المنظومة التعليمية والتي تعمل وفق برامج متعددة ومختلفة تفتقر إلى التنسيق وإلى اعتماد مقاربات إدماجية قائمة على ترصيد المكتسبات، وتتميز بمحدودية الملاءمة لأغلب المضامين والوثائق المرجعيات المقدمة للمتعلمين مع المستجدات التشريعية والمؤسساتية والمعرفية الحاصلة في البلاد وعلى الصعيد العالمي. كما أن هناك تفاوتا صارخا بين أهدف البرنامج الدراسي وواقع الممارسة التربوية في المدرسة، «والتي يتم اختزالها في مجرد مادة دراسية، ونادرا ما يتم توظيفها في العلاقات الصفية والحياة المدرسية وسلوكات المتعلمين(ات)» و إلى التعارض وضعف الانسجام بين القيم والمبادئ التي تتمحور حولها المواد الدراسية ذات الصلة المباشرة بالقيم، وبين المضامين الصريحة والمضمرة في مواد أخرى؛ مما يؤدي إلى تضارب في التمثلات واتجاهات السلوك لدى المتعلم(ة)؛ ومحدودية نجاعة الطرق التربوية المعتمدة. التقرير استند على ما جاء في التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2011، الذي أكد على عدم تمكن المدرسة المغربية من التغلب على الهدر المدرسي، مشيرا إلى تداعياته التي تتجلى في تنامي معدلات الإقصاء في أوساط اليافعين والشباب مقابل ضعف الاندماج المدرسي والاجتماعي؛ وارتفاع الأمية بأشكالها المختلفة، وتوسع دائرة الانغلاق الثقافي. بالإضافة إلى تزايد مظاهر الانحراف الاجتماعي والسلوكات اللامدنيةوالتطرف…وعزا هذا الوضع إلى على عدم وضوح منظومة القيم المدرسية وضعف تناغمها وعدم انسجام الأهداف المعلنة والاستراتيجيات التربوية وأجرأتها داخل المقاربة المنهجية، وهو ما يؤثر في تأويل الفاعلين التربويين للقيم وانخراطهم في التربية عليها. التحديات الكبرى أمام المدرسة المغربية لترسيخ التربية على القيم رصد التقرير عدة إشكاليات تمثل تحديات كبرى أمام المدرسة المغربية وإزاء دورها في التربية على القيم، تتمثل في اتساع الهوة بين الخطاب حول القيم والحقوق والواجبات، وبين الممارسة الفعلية لها، بالنظر لاستفحال السلوكات المخلة بالقيم داخل المدرسة وفي محيطها، من قبيل ظواهر العنف بمختلف أنواعه (المادي والنفسي، واللفظي) والغش، والاعتداء، والتهديد، والتعصب، والتمييز بين الجنسين، والانحراف، والتحرش، وعدم احترام الأدوار، والمساس بنبل الفضاء المدرسي والجامعي، وتراجع الالتزام بالأنظمة الداخلية للمؤسسة التعليمية، والإضرار بالبيئة وبالمِلك العام. التقرير لم يغفل التأثيرات الخارجية في استفحال هذه الظاهرة بسبب تزايد حالات الاستعمال المنافي للقيم والأخلاقيات داخل الشبكات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، محذرا من مخاطر استغلال الأطفال والشباب وتعرضهم للاستغلال والتغرير والابتزاز والشحن بالأفكار المتعصبة. تحدي آخر يتمثل في تبني مؤسساتي لبرامج متتالية كبرى للتربية على القيم، مقابل ندرة أو شبه غياب التقييمات المنتظمة لهذه البرامج، مما يضعف سيرورات الإصلاح، ويكون سبباً في هدر الطاقات والإمكانيات، إلى جانب الرهان القوي على أدوار الفاعلين التربويين، مقابل ضعف تكوينهم الأساس والمستمر في مجال القيم والتربية عليها، وما له من آثار على ممارساتهم التربوية وانخراطهم في إنجاح الإصلاحات ذات الصلة، وتأكيد الأدوار الوازنة لمحيط المدرسة في التربية على القيم، مقابل محدودية قدرة المدرسة المغربية على تنمية الشراكات في هذا الشأن، خصوصا في علاقة بتنمية أدوار الحياة المدرسية والجامعية، في علاقة بمشروع المؤسسة. ضعف الانسجام بين القيم والمبادئ التي تتمحور حولها المواد الدراسية ذات الصلة المباشرة بالقيم وبين المضامين الصريحة والمضمرة في مواد أخرى، مما يودي إلى تضارب في التمثلات واتجاهات السلوك لدى المتعلم، فضلا عن محدودية نجاعة الطرق التربوية المعتمدة، بسبب هيمنة ممارسات تعليمية غير ملائمة لأهداف التربية على القيم ولتنمية القدرات العملية وأهداف بناء الذات، لا سيما التركيز على شحن المتعلمين، بالمعلومات، واتسام العلاقة البيداغوجية أحياناً بالسلطوية والعنف. رهانات المجلس على ترسيخ التربية على القيم في المنظومة التربوية يرى التقرير أن نجاح التربية على القيم رهين بضرورة ترسيخ منظومة قيمية، تنسجم مع الخيارات الأساسية للأمة المعبر عنها في دستور المملكة، وتُوازِن بين الحقوق والواجبات، وتجد تجسيدها في الممارسات والسلوكات؛وأن التربية على القيم مسؤولية مشتركة بين المدرسة وبين باقي الفاعلين الاجتماعيين والمدنيين والمؤسساتيين، قائمة على تكامل الأدوار، والاستدامة، وتقييم الأثر؛ – التربية على القيم وظيفة أفقية للمدرسة، ومقوم من مقومات جودتها، لكونها تشمل مختلف الأطوار والأسلاك التعليمية والتكوينية، وتستدعي اندماج مكونات هذه القيم الثقافية والفكرية والدينية والتاريخية والجمالية، وتكامل مقارباتها المنهاجية؛وأن التنظيم المؤسساتي لبنيات العمل التربوي داخل المدرسة وبيئة التعليم والتعلم عاملٌ محوريٌ في نجاح التربية على القيم، وأكثر نجاعة من الخطابات النظرية العامة؛ – جودة التكوين المتين والتأهيل الملائم للفاعلين(ات) التربويين(ات)، بما في ذلك تنمية بيداغوجيات التربية على القيم والقدوة لديهم؛وأيضا البيئة المدرسية الملائمة لجودة التربية والتعلمات، في انسجام مع المواثيق الدولية والكرامة، لازمة للتنمية المستمرة للتربية على القيم. وانطلاقا من تشخيصه لحالة القيم في مدارسنا ,أوصى المجلس الأعلى في المدى القريب، بوضع برنامج عمل وطني وجهوي، وعلى صعيد كل مؤسسة للتربية والتكوين والبحث، يتضمن التدابير والإجراءات الكفيلة بتفعيل المقترحات والتوصيات المتضمّنة في هذا التقرير، بمختلف مستويات المنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي، مع الإشراك الفعلي للفاعلين التربويين والاجتماعيين، والاجتهاد في ابتكار الأساليب المناسبة للتفعيل، مع استثمار أول فرصة سيتم فيها إجراء مراجعة للمناهج والبرامج، لإدماج مقترحات هذا التقرير حول التربية على القيم ضمن المناهج والبرامج المقبلة.كما أوصى بإعداد ميثاق تربوي تعاقدي وطني للتربية على القيم مؤطر للتدابير التربوية والشراكات، وبلورة إطار مرجعي عام لمنظومة القيم المستهدفة ومجالات التربية عليها، وتنويع المقاربات والأساليب في تفعيل المقترحات والتوصيات، مع مراعاة تكاملها وانسجامها وتعزيز أدوار الرصد والتقييم المنتظم.