كان السياق التاريخي لعهود "السلف الصالح " ومن بعدهم يستلزم مقتضيات معينة في الفكر والنظر والفتوى والأحكام والقضاء... ، غير تلك التي يستلزمها واقعنا الحالي ، ولا يرجع ذلك فقط إلى مستوى المعرفة المتاحة لدى كل جيل ، بل أيضا إلى أوضاع الناس الاجتماعية و خلفياتهم القبلية ، وقناعاتهم الفكرية ، وتوجهاتهم السياسة ، وطرق تفاعلهم مع بعضهم ومع محيطهم الخارجي ... 1 وعلى الرغم من تغير الكثير من المقتضيات وتبدل العديد من الخلفيات بقيت الكثير من آراء السلف واجتهاداتهم تفرض نفسها على الخلف باعتبارها دينا تارة ، وعلما تارة أخرى ، مما أنتج فكرا مشوها كان أحد تمثلاته ظهور سلفيات متعددة توظف قوة السلف لإضعاف الخلف2. مقتضيات التراث وتجارب من سلف : للعهد النبوي مقتضياته الخاصة – المنحصرة في الزمان والمكان - فرضتها ظروف التأسيس السلمي الصبور في مكة ، وظروف الحرب المفروضة في المدينة ، وظروف التشريع المتدرج المراعي لأحوال الاجتماع الإنساني فيهما معا ، وفرضتها ظروف الشخصية النبوية المتفردة بتبليغ خطاب السماء ، ولعهد الخلفاء الراشدين مقتضياته التأسيسية للاجتهاد البشري المسترشد بالوحي لكن المستقل عنه ، حيث – ولأول مرة في تاريخ المسلمين - لم يعد أحد يصرف ما استشكل عليه من أمور دينه ودنياه بالرجوع إلى شخص الرسول عليه السلام ، بل بتحمل مسؤولية الاجتهاد في التفسير والتأويل ، وكان لا بد للقوم أن يفسروا ويؤولوا ، ففعلوا ، لكن لم يكد الناس يتفقون على شيء من اجتهادات الخلفاء ، فهم بالنسبة لأغلب الفرقاء السياسيين لا يستحقون ما استحق الرسول قبلهم من طاعة وتسليم ، وكانت الصدمة قوية ، ولم يكن بالإمكان إلا أن تكون كذلك ، فشتان ما بين هدي النبوة وآراء الرجال ، وعلى الرغم من سعي البعض - منذ أواخر عهد علي - لاستجلاب هالة النبوة وإضفائها على أئمتهم " المعصومين من آل البيت " لتقريب الفجوة أو حسم الخلاف ، إلا أن الأمور قد أتت بنتائج عكسية لا زالت تبعاتها مستمرة إلى اليوم ، وعلى الرغم أيضا من استبدال آراء الرجال بأحكام النصوص على يد الخوارج ، فإن الأمر لم يزدد إلا تعقيدا، فمن الذي يملك أن يميز بين حكم النص وفهم القارئ للنص ومبلغ النص عليه السلام لم يعد موجودا بين الناس ؟ ومعارف استقراء النصوص ومقارنتها والاستنتاج منها لم تتطور بعد ؟ . وكما أن لعهد الخلفاء الراشدين مقتضيات ، فإن للعهود الموالية مقتضيات أخرى ، ففي عهد التدوين 3 مثلا تركزت جهود أغلب العلماء والمفسرين والمحدثين على إنتاج الأعمال الموسوعية الضخمة في السيرة والحديث والتفسير والفقه ...، حيث المبالغة في جمع الروايات في الشعر والأدب كما في القراءات القرآنية والأحاديث النبوية.... مع توثيق ذلك كله وتصنيفه ، وقد بذلوا جهودا ضخمة في استقصاء الروايات المتعددة للمتن الواحد استجابة لنزعات الموسوعية التي تمكنت منهم ، ولم يكد يشغلهم شيء عن الاجتهاد في الجمع ، وهم في ذلك كثيرا ما ضموا ضعيف المرويات إلى صحيحها ، ثم لم يكن ذلك يكفيهم حتى يستوعبوا الموضوعات والمكذوبات ويحيلونها إلى رواتها معتذرين بكون من أسند فقد أحال ، ومن أحال فقد برئت ذمته ، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا اليوم ، هل فعلا ذمة المدونين بريئة ؟ وما الذي يجعلهم يمكنون للأخبار المكذوبة ويرفعون قدرها بضمها إلى كتبهم فيخلدون ذكرها بين الناس ؟ يظهر استدراكنا عليهم منطقيا ، وانتقادنا لهم مقبولا ، لكن مع شيء من التدقيق يتبين أن محاسبتهم وفق مقتضيات واقعنا يحمل قدرا كبيرا من التجني وسوء التقدير، ذلك أن زمن التدوين كان يتطلب من المدون الإحاطة بكل المرويات ، صحيحها وسقيمها ، الصحيح لكي يعتمد في التأريخ والتفسير واستخراج الأحكام ، والسقيم لكي يتم عرض علله والتنبيه إلى مكامنها ، فقد كان الكثير من القصاص والوعاظ وأصحاب الفرق يشيعون في الناس أخبارا ومرويات يختلط فيها الصحيح بالموضوع ، والموضوع بالمنكر ، وكان ذلك يوظف تارة مذهبيا ، وتارة سياسيا ، وتارة عرقيا ، وتارة لمجرد الاسترزاق عن طريق جلب الحضور بالتهويل والإتيان بالعجائب ، وكثيرا ما كانت الرواية تبدأ بمتن صحيح يقحم فيه ما ليس منه ، استغلالا لسنده في غير ما جعل له ، وكان من اللازم أن يستجيب المدونون يومئذ لمختلف هذه التحديات فيركزوا جهودهم في الجمع الموسوعي المستوعب ، ويصحبوا ذلك بالتصنيف في أسماء الرواة لتمكين الباحثين من التمييز بين المقبول منهم والمردود ، فظهرت كتب الجرح والتعديل ، وظهرت المصنفات المتعلقة بأسماء الرواة 4 ، وكتب الطبقات 5 وكتب الأسماء والكنى 6 وكتب التاريخ والوفيات 7 وكتب المؤتلف والمختلف 8 ، وظل التأليف وفق هذا المنهج لقرون تالية ، حتى أفرد البعض مصنفات للأحاديث الموضوعة دون غيرها كابن طاهر المقدسي 9 في " تذكرة الموضوعات " و" الموضوعات من الأحاديث المرفوعات " لأبي عبد الله الجوزقاني 10، وغيرهما مقتضيات التاريخ وإلزامية الأحكام كانت أوامر الرسول ص وتوجيهاته ملزمة للمسلمين إما بصفته مبلغا عن الله ، أو بصفته الاجتهادية ، حيث كان دائم الإنصات لأصحابه والتشاور معهم والأخذ بآراءهم ، فإذا أخطؤوا صحح لهم ، وإذا أخطأ هو نزل الوحي مصححا ومقوما ، وأحيانا معاتبا ، وفي كل ذلك كان عليه السلام هو مصدر الإلزام في جميع أمور الدنيا والدين إما بالإحالة إلى ربه ، أو بالتشاور مع أصحابه ، وبانتقاله إلى الرفيق الأعلى ، ظهرت أساليب متعددة للإلزام ، إحداها الرجوع إلى أقواله عليه السلام وتصرفاته و النظر فيها ، فإذا اتفق الناس على فهم ألزموا به بعضهم ، وقد يتم أحيانا اللجوء إلى القوة لإلزام الناس بحكم معين ، كما فعل أبو بكر مع مانعي الزكاة. ومنذ أواسط القرن الثاني تأكدت الحاجة إلى وسائل ترفع آراء الفقهاء من مستوى الآراء الفردية الخاصة إلى مستوى الأحكام الشرعية العامة الملزمة للحكام وللقضاة والمفتين ..أثناء التعامل مع مختلف القضايا المعروضة عليهم ، ومنها أغلب القضايا الدقيقة في أحكام الزواج والطلاق ، وأحكام البيوع والعقود ،والعقوبات والجنايات ...إلخ، ولم يكن بإمكان الفقهاء ترك ذلك كله إلى ضمائر القضاة والحكام ، بل كان من اللازم العمل على تقييدهم فيما يشبه اليوم مبدأ فصل السلطات ، ولم يكن متاحا يومئذ للفقهاء إلا استخدام الأساليب النقلية والمنطقية المتاحة لهم من أخبار آحاد وقياس وإجماع ومصالح مرسلة ، فبذلك كله ، وبغيره معه 11، تم رفع حجية الآراء الفقهية من مرتبة الاجتهاد الفقهي إلى مرتبة الحكم الشرعي الملزم ، وأحيانا القطعي . وهكذا تم التأكيد على أهمية هذه الوسائل الاجتهادية بصفتها كاشفة عن حكم الله ، وحكم الله ملزم للجميع قضاة ومتقاضين ، حاكمين ومحكومين ، وإذا كان الكشف عن حكم الله في مسألة يستلزم نصا واضحا فيها ، وحيث إن النص لم يكن دوما متوفرا ، فإن سعيهم لرفع آرائهم إلى مستوى الأحكام الشرعية الملزمة - وهو سعي مفهوم ومشروع وفق مقتضيات واقعهم – ألجأهم إلى مسائلة النصوص حول قضايا لم تكن مطروحة وقت التنزيل ، ولم يتناولها النص بأمر ولا نهي ، بل سكت عنها ، ولم يكونوا هم يتحملون هدا السكوت ، فلجؤوا إلى استنطاقه عبر أدوات الإجماع والقياس ... وعلى الرغم من علم السلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة الأحاديث ، إلا أنهم كتبوها وتناقلوها ، وأفرطوا في إيراد أخبار الآحاد الصحيحة منها والواهية... لا جرأة على مخالفة أوامره عليه السلام بل سعيا للخروج من مأزق الحاجة إلى الإلزام ، وعلى الرغم أيضا من علمهم أنه قد نهى عن البحث داخل منطقة الفراغ التشريعي12 فإنهم بحثوا وشرعوا ، لأن مقتضيات واقعهم قد أحوجتهم إلى ذلك . وحتى كل ذلك لم يعد كافيا بمرور العهود وتناسل الأسئلة ، وتعدد مناهج الاستنباط وتضخم الآراء الفقهية ، فاحتاج الواقع إلى ضابط جديد يوجه أحكام الحكام والمفتين والقضاة ، ويلزمهم برأي واحد يتساوى ضمنه الجميع وسط هذا الكم الهائل من الاجتهادات الفقهية في النازلة الواحدة ، وكانت المذهبية هي الأداة الإجرائية المتاحة للفقهاء ، فبها تم الحفاظ إلى حد كبير على ما نسميه اليوم بتكافئ الفرص ووحدة التشريع ، وذلك خلال عهود طيلة تمتد من أوائل القرن الثالث الهجري إلى غاية العصور الحديثة عند بداية التأثر بوسائل التدبير السياسي الحديث المعتمدة على المجالس النيابية المنتخبة التي لها وحدها حق إصدار التشريعات الملزمة للجميع حكاما ومحكومين . وإذا كانت المذهبية قد تجووزت سياسيا وإداريا بظهور المجالس النيابية ومجالس المدن والمجموعات الحضرية والأحزاب السياسية ...وغير ذلك من مؤسسات الدولة الحديثة ... فإنها لا تزال إلى اليوم هي الأداة العملية الواقعية لتدبير الخلاف الديني وتأطير الفتوى في جل أقطار العالم الإسلامي . وبالجملة ، فإن لكل جيل مقتضيات تلزمه بأحكام واجتهادات وإجراءات ، وبتغير الظروف والأحوال والسياقات يلزم تغيير الكثير مما كان معتمدا عليه في السابق ، ومن السلف من حالفه التوفيق ، ومنهم من خالفه ، تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ، ومكاسبها مكاسبنا إن تحملنا مسؤولية التفكير لأنفسنا ولم نفوض ذلك لأحد الهوامش: 1- أغلب ما كانت تلك الخلفيات مستترة غير مصرح بها ، وكان وراء الكثير من آراء الفلاسفة وعلماء الكلام والمفسرين قناعات مذهبية وخيارات سياسية ومماحكات قبلية . 2- انجرت بعض السلفيات إلى ذلك بحسن نية ، وبعضها بسذاجة متعالمة ، وبعضها الآخر بأحقاد دفينة ضد خصومها 3 - البداية الرسمية لعهد التدوين كانت سنة 143 ه في زمن المنصور العباسي حيث صنف ابن إسحاق المغازي ، وأبو حنيفة الفقه ، وصنف مالك الموطا ... 4 -وكتب الجرح والتعديل أنواع ،منها المتخصصة في الضعفاء من الرواة ، مثل"الضعفاء من رجال الحديث" لأبي الحسن المدائني المتوفى سنة 225 ه و"الضعفاء " ليحيى بن معين ت 233ه و"الضعفاء" لعلي بن المديني ت 234ه و"الضعفاء "للبخاري ت 256ه ومنها المتخصصة في الثقات ك"الثقات والمثبتون " لعلي بن المديني و "الثقات " لأحمد بن عبد الله العجلي ت 261ه ومنها الجامعة بينهما ك " معرفة الرجال" ليحيى بن معين و"العلل والرجال " لأحمد بن حنبل ت 241ه 5- ك" الطبقات " لمحمد بن عمر الواقدي ت 207ه والطبقات لأبي عبيد بن سلام ت 224 ه و"الطبقات الكبرى " لمحمد بن سعد كاتب الواقدي ت 230 ه و"الطبقات "لعلي بن المديني وغيرهم كثير 6- وهي كثيرة ويتخللها الجرح والتعديل ، وقد ألف فيها يحيى بن معين السابق ذكره ، وعلي بن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة ت 235ه وأحمد بن حنبل وغيرهم 7- المقصود بها تواريخ الرواة ورجال الإسناد وهي كثيرة جدا ، ومن أوائل ما ألف منها :" التاريخ " لعبد الله بن المبارك ت 181 ه و"التاريخ " لسعيد بن كثير ت 226 ه و" التاريخ " لأبي نعيم ت 229 ه 8- وهي تتناول فنا طريفا له أهميته في سياق فترة التدوين ، حيث تفرد مؤلفات في جمع الأسماء المتفقة في الصورة ، لكن لفظها مختلف ، ومهمة هذا الصنف من التآليف ضبط الأسماء وبيان كيفية النطق بها ، وغالبا ما تعرض لبيان تعديل وتجريح الذين يردون فيها ، والمصنفون في هذا كثر، منهم أبو أحمد العسكري ت 383 ه ، وعبد الغني بن سعيد الأزدي ت 409 ه وغيرهما ...انظر بتفصيل المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل للدكتور فاروق حمادة 9 -ت سنة 507 ه 10- ت سنة 543ه 11 - عمل أهل المدينة مثلا 12- ينظر في حديث: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني