المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من مظاهر العنف والاضطهاد الفكري .. إتلاف الكتب بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط

( ...) لم تخل مسألة إتلاف الكتاب ومصادرته من التأثير في صياغة العلاقة بين المكتوب وانعكاساته العامة على مجمل البنى الفكرية والثقافية، إذ لم تعد ثقافة الكتاب منتوجاً للاستهلاك فقط، بل غدت مثار نقد وجدل، وصلة وصل بين المؤسسات والنخب الفكرية داخل المجتمع والدولة. فأصبح الكتاب بذلك يجسد رمزاً لقوة وسلطة معرفية وثقافية، تنافست جل المؤسسات والنخب لاحتكار توجيهها، بغية فرض أنواع معينة من أنساق القيم المعرفية والفكرية، والتذرع بهدف الحيلولة دون تجزؤ وحدة الأمة، مما دفع الدولة إلى أن تقدم نفسها نموذجاً مرجعياً يسهر على تنفيذ هذه المهمة عبر مؤسساتها، ومبررة ذلك بوصايتها على سلامة شؤون العقيدة والأمة، بما فيها من جوانب فكرية وثقافية، الأمر الذي يوهمها بشرعية الفعل ويبرر لها سلوك الاضطهاد عبر الإتلاف والمصادرة.
ومن ثمة، فقد استطاع الكتاب اكتساب قيم رمزية، جعلت منه مركزاً للصراع والتدافع، وخولت الدولة لنفسها الحق في السيطرة على توزيع موارد القراءة، عبر استمالة بعض منتجي الفكر للتحكم في منابع الإنتاج، وتسلحت بوسائل عنيفة للردع، وأساليب للمصادرة والإقصاء والتهميش، بل وأحياناً عملت على إنشاء مؤسسات جديدة للغرض ذاته، مثل إنشاء المدارس، لتوجيه فعل القراءة، حتى أضحت ممارسة العنف المادي والمعنوي رديفاً لفعل السلطة. فهل احتكرت السلطة لوحدها هذه الممارسة؟ أم إنها طبعت لغة التواصل بين مختلف أطراف المشهد الثقافي بالغرب الإسلامي؟ وما طبيعة ردود الفعل الاجتماعية والآثار النفسية والذهنية على مسالك العنف والاضطهاد هذه؟
لم تنحصر مسألة إتلاف الكتاب بالغرب الاسلامي في أحداث معزولة، بل إن ذيوعها وانتشارها في مجالات مختلفة عبر أزمنة متعددة ما يبرر وصفها بالظاهرة، على الرغم من اختلاف أسبابها وأدوات تنفيذها وكيفية إنتاجها. كما أنها لم تخضع لتسلسل زمني محدد، بل تجسدت عبر مواسم وفترات متباينة، وفي مجالات مختلفة، وبشكل علني يبطن رسائل مباشرة لمختلف المكونات المناوئة، بل اتسمت بطابع الاحتفالية، وفي أماكن غالباً ما حملت دلالات دينية، فضلا عن أشكال من الإتلاف الأخرى مقنعة أو ضمنية.
أولا: بواعث العنف والاضطهاد
ومن البديهي أن عمليات الكتابة والتأليف اتسمت بطابع الاستمرارية، إذ لم تتوقف منذ بدأت، فأضحى »التأليف غير موقوف على زمان«، في حين لم تخضع عمليات مصادرة وإتلاف الكتب لوتيرة واحدة ولم تتجسد في فترات دورية ولا موسمية، وجرت أحياناً على شكل موجات أثارتها مواقف السلطة الزمنية، أو تبلورت وفق رفض بعض الشرائح الاجتماعية لنوع معين من الكتابة بتأطير من السلطة الدينية أو بتوجيه من غيرها.
وطالما تعرض الكتاب لمحن مختلفة عكست حالة من التوتر والقلق الفكري التي عمت مكونات المشهد الثقافي. وإذا كانت هذه الوضعية تعبر في حد ذاتها عن حالة صحية بامتياز، فإن هذا المخاض أينع صراعا خلفت آثاراً نفسية وذهنية عميقة في علاقة الكتاب بإنسان المنطقة، مما حول منطلقات هذا القلق إلى همم سياسية تدثرت بزي فكري، أزاحها عن محضنها الثقافي، وأفرغ تنافس هذه المشاريع الفكرية من تقديم رؤى مستقبلية قادرة على إقناع مختلف الأطياف الثقافية بلمِّ شملها حول أرضية مشتركة تلبي طموح الجميع، فأضحت هذه المشاريع لقمة سائغة بيد ذوي المصالح الذاتية الضيقة يوجهونها ويستغلونها لتحقيق مطامعهم السياسية، مما فتح باب العنف والاضطهاد على مصراعيه، سواء بمصادرة المصنفات أو إتلافها بالحرق أو تجريم مؤلفها أو قارئها أو حتى حاملها أو ناسخها أو بائعها.
وتعد عملية إحراق الكِتاب كعنف رمزي، مورس بشكل علني احتفالي أحياناً، من أشد أنواع العنف التي مورست ضد الكِتاب، خاصة بما تحمله من دلالات ثقافية تعكس سعي الدولة الحثيث إلى تحويلها إلى فرصة للفرجة، مع ما يخلفه ذلك من آثار ذهنية على الناس، تتناغم بعض ملامحها وفق أحد المهتمين مع ما تميزت به عادات المغاربة والأندلسيين من مبالغة وإسراف في إقامة مظاهر الاحتفالات بالأعياد الدينية ومختلف المناسبات الفلاحية وغيرها، حيث يتم تنفيذ عملية الإتلاف بالحرق بعد تحلق الناس حول كومة من أحمال الكتب لمشاهدتها وهي تحترق، لخلق حالة من التلذذ بأساليب التفنن والتشفي أثناء مشاهد تصاعد اللهب في السماء أثناء صب الزيت عليها، إمعاناً في الإذلال والتحقير وتجريد هذه المصنفات من دلالاتها الفكرية والحضارية، حتى تتحول إلى كومة من الرماد، مخلفة آثاراً ذهنية ونفسية عميقة على المتحلقين حولها، بين الحانق عليها والمتعاطف معها، واللامبالي بأحوالها.
وكيفما كان الحال، فإن هذا الوضع يعكس رغبة شديدة في إثارة حالة من العجز المطلق للكتب التي لا تستسيغها السلطة، ولا تتماشى مع ميولها السياسية، مقابل إبراز السطوة المطلقة لقوتها وقهرها، وهو الشعور الذي تطمع وترغب في إشاعته بين مختلف أوساط المجتمع. وما من شك أن هذا الطابع الاحتفالي لعملية إتلاف الكتب، كان يخلف آثاراً نفسية بعيدة المدى، هدفت السلطة المتلِفة من ورائه إلى أن يتعلم الإنسان أن يرتدع ذاتياً ويضبط سلوكه بنفسه.
ونظراً لوعي الدولة بما حظي به الكتاب كأداة تواصل فعالة من قدرة على التحدي وتجاوز مثل هذه المحن، فقد لجأت إلى أساليب إضافية كالتخويف والتخوين والترويع لكسر شوكة ممتلكيه أو قرائه من المناوئين، وذلك ما يتأكد من خلال الاضطهاد الذي مورس مثلا على ما يناهز 37 مثقفاً بالغرب الإسلامي خلال العهد الموحدي فقط، بسبب علاقتهم العضوية بالكتاب تأليفاً أو قراءة وإقراء.
ومن أجل ذلك، سلكت الدولة سلسلة من العمليات، كان أبرزها إجبار المشتبهين على القَسَم بالأيمان المغلظة، ونذكر بهذا الصدد مقتطف من رسالة تاشفين بن علي سنة 538 ه/ 1143 م لولاته، قال فيها: »متى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها«. وما من شك أن هواجس الدولة المستمرة من سلطة الكتاب، حولت أساليبها القمعية المتعددة تلك إلى آلية ردع لا على مستوى السلوك فقط، بل على مستوى المواقف والنوايا أيضاً، مما يؤكد أن أساليب الاضطهاد هذه تمت بذهنية سلطوية »سادية« لا تؤمن بالحوار أو التعايش مع الأفكار المخالفة.
وعموماً، فقد تداخلت جملة من البواعث التي أسهمت في عملية الاضطهاد عبر المصادرة والإتلاف، فاتخذت فيها رمزية السلطة المصادِرة والمتلِفة مظاهر متعددة، فقد برزت أحياناً في عنف وقمع السلطة الزمنية أو المجتمع أو الفرد، أو حتى سلطة الإيديولوجيا أو العادات والتقاليد، ويمكن أن تتعلق أيضاً بأسباب شخصية لها ارتباط بمقاصد علمية أو نفسية.
ثانياً: مظاهر من التسلط والاضطهاد
سيراً على عادة العرب بشبه الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية، استهل تاريخ المسلمين بريبة وشك في المكتوب والمدون، فآثروا خاصية الحفظ على ما عداها، حتى استثني من ذلك نسخ القرآن الكريم وأتلف ما عداه من حديث نبوي شريف وغيره. وفي مرحلة لاحقة، فرضت الظروف الجديدة التي حلت بالمسلمين جمع وتدوين الحديث النبوي، وباتساع دائرة الأحداث المستجدة ظهرت جملة من الاجتهادات الفقهية ساهمت في انتعاش جملة من الميادين، فكانت الكتابة والتوثيق والتدوين وسيلتها الأساسية في التعبير والتواصل، مستغلة التطور التقني الحاصل في صناعة الورق.
وفي هذا الإطار، برزت نزعات التوجس من بعض المعارف التي احتوتها بطون المؤلفات بدواعي مختلفة، كما هو الشأن في الموقف من كتب الرأي والكلام والفلسفة وغيرهما، ومن ذلك، نذكر النقد الشديد الذي أبداه فقهاء متأخرون بالغرب الاسلامي مثل أبي القاسم بن أحمد البلوي البرزلي (ت. 841 ه/ 1437 م) على نزوع بعض المتقدمين إلى مصادرة كتب علم الكلام بزعم أنها مليئة ب »الضلال والبدع والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، والكفر بتأويل القرآن وتحريفه عن مواضعه، فلا يجوز بقاؤها في ديار المسلمين«، وفي مقابل ذلك، أبطل البرزلي مثل هذه الدعاوى، ودافع بشدة عن أهمية كتب علم الكلام بقوله: »فإذا تصفحت مذاهب الأشعرية وقواعدهم ومبادىء أدلتهم وجدتَ ذلك مستفاداً من الأدلة راجعاً إليها، فمن أنكر قاعدة علم التوحيد، أنكر القرآن، وذلك عين الكفران والخسران«. كما لم تُستثن هواجس السلطة الزمنية التي احتكرت ممارسة العنف متذرعة بذرائع مختلفة، لدرء كل ما من شأنه أن يمس عقائد الناس، وذلك ما يفسر وحدة الظاهرة بالمشرق والمغرب في التوجس من بعض المصنفات من قبل الدولة التي ألزمت نفسها الحزم في التعامل مع بعض الإنتاجات الفكرية، ومن ذلك، تبرز عملية الإتلاف والمصادرة التي لحقت بالمكتبة التي خلفها الأمويون بالأندلس من قبل المنصور بن أبي عامر، رغم ما طال هذا الحدث من تضخيم من قبل البعض مثل ليفي بروفنصال الذي يذكر: »أن المكتبة الخليفية الكبرى قد نقصت كثيراً بعد جمعها بوقت قليل، وذلك عندما أراد المنصور بن أبي عامر أن يضع حداً للشكوك التي كانت تحوم حول صحة معتقده الشخصي، وأن يصد حركة المقاومة التي كانت الأوساط المحافظة في قطبة ترعاها ضده في الخفاء، فاضطر إلى أن يحسم الأمر بحركة مسرحية في تخريب الآثار الفنية (...) فأمر بأن تحرق وتتلف من هذه المكتبة المؤلفات التي تعالج العلوم القديمة، فبعضها إذن قُدم طعمة للنار، وبعضها ألقي في آبار القصر وخبئ في باطن الأرض، وتحت الحجارة أو أتلف بأساليب أخرى«.
ويبدو أن توجس السلطة برر لديها شرعية عمليات الاستنفار لمواجهة مصنفات مناوئها، جاعلة من نفسها سلطة فوقية، عبر مؤسساتها الأمنية والثقافية والقضائية فارضة أنساقاً معرفية وثقافية خاصة، لم تسمح بتجاوزها، فشهرت سيف المصادرة والإتلاف والمتابعة الأمنية.
وعلى غرار ذلك، فقد تعددت مظاهر التسلط على المكتوب والمدوّن عبر سلطة الرقابة وتحجيم القراءة وكان من أبرزها:
1 عنف الدولة (السلطة الزمنية):
على غرار ما ذكر، فقد سعت السلطة الزمنية إلى تسخير مختلف مكونات المؤسسة الدينية في مراقبة المدوّن، وظلت متوجسة من ذيوع ونشر العديد من المصنفات في مختلف المجالات التي تحوي إشارات أو معارف وأفكار قد تخدش أو تشك في شرعيتها، ونحت في ذلك منحى إقصائيا، ولم تسلم هذه النزعة حتى بعض مصنفات مؤرخي الفترة الذين اختلفوا في ضبط تحديد فترات إصدار أوامر إحراق كتب المذهب المالكي خلال العصر الموحدي نموذجا، نظرا لاعتبارها حدثا عرضيا لا يستحق الاهتمام، أو سعيا لمحاولة تغييبها بشكل متعمد، مما أضعف من صحة روايتي ابن أبي زرع واسماعيل بن الأحمر عن عملية الإحراق هذه، فالأول يرجع أمر تنفيذ العملية إلى عهد الخليفة عبد المؤمن بن علي سنة 550 ه / 1155 م الذي رد الناس إلى قراءة كتب الحديث، وأمر باستنباط الأحكام منها، وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم، ومن بلاد الأندلس والعدوة. أما ابن الأحمر فيروي أن أمر إحراق »المدونة« تأخر إلى عهد الخليفة محمد الناصر بن يعقوب (596 - 10 ه / 1199 - 1213)، حيث انتقد عليه فقهاء المالكية إنكار الرأي في الفروع الفقهية، والعمل على محض الظاهرية. ونرجح أن تنفيذ عملية إحراق كتب الفروع لم تتم فعليا إلا على عهد الخليفة يعقوب المنصور (580 - 596 ه / 1184 - 1199م) بعد رجوعه من وقعة الأرك سنة 591 ه / 1195، مستندين في ذلك إلى الإعلان الصريح للخليفة عن ميوله المناوئة لمثل هذه المنصفات علانية وبشكل مباشر في حديثه مع أبي بكر بن الجد (ت.586 ه / 1190)، إذ يروي عبد الواحد المراكشي - الذي عايش هذه الأحداث - عن أبي بكر بن الجد قوله: »لما دخلت على أمير المؤمين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال، أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق، وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا، وأشار إلي المصحف، أو هذا، وأشار إلى كتاب سنن أبي داود، وكان عن يمينه، أو السيف! واستدرك ابن الجد قائلا ,فظهر في أيام يعقوب هذا ما خفي في أيام أبيه وجده« من عنف واضطهاد علني لكتب المذهب المالكي.
كما لا يمكن أن نقلل من مستوى ذيوع وانتشار المصنفات الفقهية المالكية منذ وقت مبكر خلال زمن عبد المؤمن بن علي الموحدي (525 - 559 ه / 1130 - 1163م)، وهو ما من شأنه أن يثني هذا الأخير عن عزمه، رغم عدائه المبطن لكتب الفروع، ويظهر ذلك من خلال تناسل عمليات التأليف والتصنيف في مختلف قضايا المذهب المالكي، فضلا عن القدرة على التكيف والتعايش بتداول ونشر كتب المذهب رغم التحولات الفكرية التي سعى المصامدة للتحكم في آليات انتشارها، إذ لم يرق للخليفة يوسف بن يعقوب (610 - 621 ه / 1213 - 1224) رد الفقيه أبي الحسن بن زرقون (ت.621 ه / 1224م) في مجلس غاص بفقهاء المالكية: »يا سيدي، جميع ما في هذا الكتاب (يقصد كتاب »المدونة«) مبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف، والاجماع وإنما اختصره الفقهاء تقريبا لمن ينظر فيه من المتعلمين والطالبين (...) فانطلقت ألسنة الفقهاء الحاضرين حينئذ، ووافقوني على ما قلت (...) وقام إلى منزله«.
إلا أن ما لم يبده الخليفة رغم امتعاضه، صرح به وزيره لابن زرقون قائلا »أقدمت على سيدنا يا فقيه، فقلت لو سكت للحقتني عقوبة الله تعالى«، مما يسفر أن المحنة العظيمة لكتب الفروع حدثت خلال عهد أبي يوسف يعقوب (580 - 596 ه / 1184 - 1199)، حيث وصلت سطوة السلطة خلال أوجها، لاسيما بعد الانتصار في معركة الأرك سنة 591 ه / 1195)م، وفي مقابل اجراءات الاضطهاد الفكري بالإتلاف في حق أمهات الفقه المالكي، بادر الموحدون إلى تشجيع نشر وتداول المصنفات الحديثية. واحتضان وكسب ود علمائها ورواتها.
وقد استندت السلطة في ذلك إلى أساليب إتلاف ونهب عديدة، كانت تستجيب لطبيعة تأثير هذه المصنفات، مع الأخذ بالاعتبار مستوى مسافة العداء والشقاق بين المؤلف والسلطة، وما كان يتطلبه ذلك من انتماء إلى جهات تتجاذب الشرعية مع العصيبة الحاكمة، ومن ذلك تتضح أسباب إقدام المعتضد بن عباد ملك اشبيلية على إحراق مكتبة ابن حزم الخاصة، وفي نفس المنحى تزامنت ثورة عامة سبتة على يحيى بن شعيب الصنهاجي سنة 788 ه / 1386 مع »نهب منزل محمد المعز الصنهاجي (ت 792 ه / 1390م) فاستخرجت ذخائره وكتبه وغرب في جملة من غرب من أكابر سبتة إلى فاس«، وما من شك أن اثارة ذكر كتبه في هذا المقام دليل على قيمتها وكبر حجمها مقارنة بالذخائر الأخرى.
ولم تقف آثار مصادرة الدولة للكتاب على مستوى الإتلاف المباشر، بل أبدعت أساليب أخرى غير مباشرة، رغبة منها في احتكار توجيه سوق الكتب والمصنفات، إذ يذكر المراكشي أن الحاج المراني ورث عن جده »جملة من كتب صناعة الأحكام« التي وقعت بيده خلال فترة الصراع المرابطي الموحدي، إلا أن الحاج المراني هذا لم يستطع تحصينها والمحافظة عليها لاسيما خلال فترة حكم أبي يعقوب يوسف الموحدي، الذي أخذها منه عنوة من منزله، يروي ذلك بقوله »أرسل إلى داري وأنا في الديوان لا علم عندي بذلك، وكان الذي أرسل كافورا الخصي معي جماعة من العبيد وأره أن لا يروع أحدا من أهل الدار، وأن لا يأخذ سوى الكتب«، مما ينهض دليلا على الآثر الذهبية للكتاب على السلطة، بما عكسته من رغبة في الاستحواذ على منابع ومصادر المعرفة المكتوبة.
كما عرضت الكتب مالكيها من العلماء للمحن والنفي، مما أعوز الكثيرين عن نقل مكتباتهم الخاصة، فتعرضت في أحيان كثيرة للتلف، وخلفت بذلك انعكاسات ذهنية على علاقة الكثيرين بالثقافة العالمة، وذلك بالاتجاه نحو العناية بالحفظ والمشافهة، عوض التأليف والتصنيف، فرغم ما اتصف به عبد الله بن حوط الله الأنصاري من إمامة في صناعة الحديث، فقد »امتحن بالتجول فذهبت أصوله وضاعت كتبه في بعض أسفاره، ولو فرغ للتأليف والتحقيق لعظم الانتفاع بمعلوماته بعده، ولم يكن في زمانه أكثر مسموعا ومن أخيه أبي سليمان«.
2 - التعصب الديني:
عملت السلطة الزمنية جاهدة على استقطاب العديد من علماء الدين لإضفاء الشرعية الدينية على سلوكها، متخذة منهم عصبية اضافية تشهرها في وجه خصومها، صانعة بهم هالة من الشرعية عن طريق التصنيف والكتابة والتدريس والتناظر وغيرها، فقاموا بدور الرقابة و»المخابرات الثقافية«، عبر متابعة الانتاجات الفكرية ووضعها في ميزان ايديولوجيا السلطة الزمنية، التي كانت تمثل روح الشريعة بالنسبة لمواليها، ولذلك فقد قيل حكاية عن أبي العباس بن العريف »كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين«، فألب عليه الأمراء فأظهروا عيوب أقاويله، وشواذ اختياراته وأحكامه، وأحرقوا كتبه ومنعوا الناس من الذهاب إليه أو قراءة ما تبقى من مصنفات له لم يصلها سيف المتابعة.
وفي الاطار ذاته، ولكسب ود السلطة الحاكمة، خول بعض المثقفين لأنفسهم المتمتع بسلطة الرقابة والحجر الفكري والثقافي على القراءة داخل المؤسسات الدينية لاسيما بالمساجد، فأباحوا قراءة نوع معين من الكتب بها مثل مصنفات الوعظ وما شاكلها للعامة، وكرهوا ومنعوا أخرى، بما فيها بعض كتاب التاريخ، مثل »روض القرطاس« الذي أنكر بعضهم قراءته في المساجد رغم ما كان يخلفه من ارتياح عند العامة التي كانت تبتهج بأخباره وتشتهي سماعه.
ولم يقف دور بعض المثقفين عند هذا الحد، بل تشددوا في ضرورة مراقبة عمليات النسخ بدكاكين وأسواق الوارقين، وفي هذا الاطار حذر ابن الحاج من » النسخ في غير العلوم الشرعية«، مما يفسر فاعلية مثل هذه الاجتهادات في إضعاف مستوى ذيوع الكثير من المصنفات ذات الاتجاه العقلاني أو التاريخي مقارنة بنظيرتها من العلوم الشرعية، بفعل انتشار مثل هذه الدعاوي.
ورغم مساعي الاضطهاد والحظر والرقابة فلم يقلل ذلك من انفتاح مؤسسة المسجد على مختلف المصنفات في شتى العلوم، إلا أن ما شهده النصف ه /14 من تسلط وحجر على قراءة بعض الكتب بها. عكس جانبا مهما من جوانب السلطة المرينية وديموغرافيا بالتدهور الكبير للساكنة بفعل ما خلفه وباء الطاعون الأسود سنة 749 ه / 1348م، وتعليميا بفشل سياسة المدارس والعودة إلى أسلوب الكراسي العلمية مع ما تبع ذلك من تغير في أساليب التدريس، في مقابل ذلك تزامن هذا الحجر بالمنطقة مع بوادر »الحركة الإنسية بإيطاليا«، التي بدأت في كبح جماح رقابة سلطة الكنيسة الكاثوليكية على الكتابة والقراءة.
3 - الرقابة الاجتماعية والاقتصادية:
في الغالب ما يتزامن ارتفاع مؤشر النهب والسرقة والسطو مع فترات الفتن والمجاعات، ولم تسلم الكتب من تعرضها لكل هذه الأنواع، بهدف تسعيرها وبيعها، لاسيما وأن ارتفاع أثمانها أحيانا خلال فترات الاستقرار شكل عائلا عند الكثيرين لاكتسابها، فقد سرقت خزانة البلاط الموحدي خلال الفترة المضطربة التي سبقت تولية الرشيد الموحدي سنة 629 ه / 1232م، كلف ابن القطان بإعادة ترتيب ما تبقى. كما تعرضت للنهب ربعات جامع القرويين والكتب التي كانت بخزانته، إبان الفتن والمجاعة التي حلت بفاس أيام القاضي الفقيه يوسف أبي عمران (ت 617 ه / 1220م). وفي ذات الاطار نهب »المصحف العثماني« خلال الحملة الموحدية على تلمسان سنة 645 ه / 1247 م، »ولم يعلم منتهبه قدرا له ولا قيمة فدخل به تلمسان وعرضه على البيع«.
كما لا يمكن أن نقلل من تأثير التوظيف السياسي للعامة التي سخرت في كثير من الأحيان للنيل من بعض المصنفات، فلما قتل ابن محمد بن الحكيم اللخمي عام 708 ه / 1308 م »استولت يد الغوغاء على منازله (...) فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب«.
4 - الرقيب العلمي:
اقتصر هذا النوع من الرقابة على العلاقة البينية للعلماء والمثقفين أو بينهم وبين طلبتهم، وذلك حرصا على تنوع وتعدد مصادر المعرفة، وتوخي أكثر قدر من العملية في الرواية والتلقي، لتجنب الاستهتار بعقول القراء خاصة من الطلبة، وهذا مدعاة لإتلاف بعض هذه المصنفات، لاسيما إذا كانت ذات طبيعة دينية. كما أن مسالك التدريس والإقراء لمثل علم الحديث كانت تتطلب ثقة وضبطا كبيرين، خوفا من التدليس والتزوير بالزيادة أو البتر في الحديث النبوي، ومن أجل ذلك كان الطلاب يحضرون مجالس الدرس مصحوبين بعدة الاستملاء، فيكتبون عن الشيخ، وتضبط أسماء الحضور بالمجلس في محضر يطلق عليه »أصل السماع« يحفظ عند الشيخ وعند طلابه، ليعرف من حضر وسمع ومن لم يحضر وتاريخ السماع، خوفا من توزير وتغيير أسماء الحاضرين بالمحو أو الكشط، وكان من عادة علماء الحديث الذين سلكوا هذا المسلك الإلتزام بعد إتلاف هذه الأصول في حياتهم، بل منهم من يوصي بالمحافظة عليها بعد موتهم صيانة للحديث النبوي.
وفي الإطار ذاته، تطلب التدرج في مستويات التدريس، العناية بضبط المناهج، وتحديد المصنفات القابلة للإطلاع والقراءة، ولذلك رأى بعض الفقهاء أن كتاب أحمد القباب الجذامي الموسم ب «»لب اللباب في مناظرة القباب»«، لا نفع فيه للمبتدئ لصعوبته، ولا يحتاج إليه المنتهي«. كما كان حضور الرقيب العلمي عند بعض المدرسين مبالغا فيه، حيث تعرضت المصنفات العلمية للانتقائية، وإبعاد كل ما يصدم أو يخدش في المعتقدات الدينية، أو إخضاع ذلك للتدرج وفق مستوى تمدرس الطلبة، وذلك ما يستشف من خلال وصية أبي الوليد الباجي (ب. 474ه/10810م) لولديه وهو يحذرهما من قراء كتب الفلسفة والمنطق، لكونها - في اعتقاده - مبنية على الكفر والإلحاد، إلا أنه يستدرك ذلك بقوله: »لو كنت أعلم أنكما تبلغان منزلة المميز، والمعرفة، والقوة على النظر، لحضضتكما على قراءته وأمرتكما بمطالعته، لتحققا ضعف المعتد له، وركاكة المغتر به«. والأمر نفسه يتكرر ويبرز في نازلة أخرى بمراكش تتعلق بابن زهر الحفيد (ت. 596ه/1199م) مع طالبين عنده كانا يشتغلان بصناعة الطب، »فترددا إليه ولازماه مدة وقرآ عليه شيئا من كتب الطب، ثم أنهما أتياه يوما وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق (...) وكان غرضهم أن يشتغلوا فيه، فلما نظر ابن زهر إلى ذلك الكتاب، قال: ما هذا؟ ثم أخذه ينظر فيه، فلما وجده في علم المنطق رمى به ناحية، ثم نهض إليهم حافيا ليضربهم وانهزموا قدامه، وتبعهم يعدو على حالته تلك وهو يبالغ في شتمهم، وهم يتعادون قدامه«.
وجدير بالإشارة إلى أن كثيرا من المشتغلين بالعلم والمعتنين بالكتب سرعان ما تضيع كتبهم و تتفرق بعد موتهم، سواء بالبيع أو تتوزع بالإرث أو غيرهما، فيبقى أمر الكتب مرهونا للمستوى العلمي للورثة وسلوكهم اتجاهها. مما يجعل مستوى التعلم عاملا أساسيا في الإقبال أو الإدبار على سلوك الاعتناء بالكتب أو إتلافها.
وحسبنا أن حركة النقد التي شاعت بالغرب الإسلامي أعطت لمسألة الرقابة والحظر طابعا عقلانيا وارتقت بالكثير من مصنفات العلماء الى مستوى النقد البناء، الرامي إلى الكشف عن عيوب ونقط ضعف الآخر، ومن ذلك ما يستشف من خلال ما جرى من مناظرات علمية بين أبي محمد بن القرطبي (ت. 611ه/1214م) وأبي علي الرندي (ت. 616ه/1219م) حول بعض المسائل اللغوية، حيث ألف الأخير كتابا في الرد على ابن القرطبي أسماه »الخبي في أغاليط ابن القرطبي«. كما ألف عبد الحق بن عبد الرحمان الأزدي المعروف بابن الخراط مصنفا وسمه ب ««كتاب الأحكام الكبرى»« الذي انتقده كثير من معاصريه لاسيما من قبل ابن القطان (ت. 628ه/1231م) الذي رد عليه من خلال تصنيفه لكتاب »الوهم والإيهام فيما وقع من خلل في الأحكام الكبرى«.
5- العنف المذهبي:
غلفت مجمل الصراعات الداخلية بالمنطقة ببواعث مذهبية، حيث سادت خلال العهدين المرابطي والمريني كتب الفقه على مذهب الإمام مالك، في مقابل سيادة المصنفعات الحديثية والأشعرية خلال العهد الموحدي، ولتأكيد ذلك على المستوى الرسمي نذكر رسالة »الفصول« التي أصدرها عبد المؤمن بن علي والتي أكدت على اتخاذ العقيدة الأشعرية مذهبا رسميا للدولة المصمودية، جاء فيها: »ويؤمر الذين يفهمون اللسان العربي ويتكلمون به، أن يقرؤوا التوحيد بذلك اللسان من أوله إلى آخر القول في المعجزات، ويحفظوه ويفضوه، ويلازموا قراءته ويتعدوه، ويؤمر طلبة الحضر ومن في معناهم بقرآءة العقائد وحفظها، وتعاهدها على سبيل التفهم والتبين، والتنبه والتبصر، ويلزم العامة ومن في الديار بقراءة العقيدة التي أولها: (اعلم أرشدنا الله وإياك) وحفظها وتفهمها، و أشمل في هذا لإلزام الرجال والنساء، والأحرار والعبيد، وكحل من توجه عليه التكليف، إذ لا يصح لهم عمل ولا يقبل منهم قول دون معرفة التوحيد«.
ولاستكمال هذه المهمة قام يعقوب المنصور بمصادرة كتب الفروع في مجمل أقطار الغرب الإسلامي بعد معركة الأروك سنة 591ه/1195م، وسعى إلى إحراقها بعد جردها من آيات القرآن والأحاديث النبوية، وحرقت منها أعدادا كبيرة، وكادت عملية إحراق كتب الفروع تنقطع بالمغرب والأندلس بعد ذلك، بفعل التهديدات والعقوبات التي توعد بها، مما يفسر تأثير العنف المذهبي في شيوع نوع معين من المصنفات بل إن كثيرا من أسباب المحن التي تعرض لها الكتاب كان باعثها صراعا مذهبيا، ولذلك كانت للفقيه أبي الحسن بن زرقون (ت. 621ه/124م) علاقة مباشرة بعملية إحراق كتب المذهب المالكي في عهد يعقوب المنصور الموحدي، وشكل كتابه »المعلى في الرد على المحلي والمجلى» لابن حزم ذروة اعتراضه على المذهب الحزمي الرسمي للدولة، مما جر عليه ويلات التعذيب والسجن الطويل بسبتة، فضلا عن إحراق مكتبته.
وحسبنا أن إنكار المصنفات ذات الاهتمام بعلم الظاهر، كانت أهم القضايا التي استأثرت باهتمام الولاية، وتحولت إلى أداة انتقاد لاذع أحيانا لهذه المصنفات، فقد تم الحكم على سير أبي الحسن البكري با»لبطلان، فلا تجوز قراءتها«، لكونها تضمنت عبارات »الإنكار لأقوال الأكابر من أهل الحقيقة، وقصر الأمر على ما علمه ووقف حاله عنده من الشريعة والظاهر، وذلك قصور ظاهر«. ولاشك أن مثل هذا الإنكار يفسر مستوى التعصب الذي اتسم برفض أفكار الآخر، مع ما يعكسه ذلك من غياب لإرادة التواصل والحوار، مما زاد من اتساع الفجوة بين الأطراف المكونة للمشهدين الثقافي والفكري داخل المجتمع.
6- البواعث النفسية:
شكلت التحولات العامة المحيطة بالنخبة المثقفة، جزءا من الذاكرة الحية، وحاول بعض رموز هذه النخبة الانفكاك من ضغط الأحداث المتراكمة إما بالعزلة والتفرغ إلى التأليف، أو التماهي مع الأحداث بالكتابة و التصنيف، مما جر كثيرا منهم إلى المواجهة العلنية والاصطدام بسلطة الدولة التي لم تتوان في تعريضهم إلى مقصلة التعذيب والنفي والتنكيل، الأمر الذي عكس انطواء وعزلة البعض، كرد فعل على رفض الواقع، وتعبير رمزي عن المخاوف التي زرعها الاستبداد وقمع الحريات بتبني آليات العنف، حيث لم يسمح للآخر (أي آخر كيفما كان) أن يبدي وجهة نظره حول التغيرات التي تشهدها المنطقة، مع ما كان يحمله هذا التقهقر من فشل البعض في القدرة علي المواجهة والإقناع بعرض مشاريعهم الإصلاحية، والبعض الآخر إلى درجة متدنية من الانهيار دفعته الي محاولة الانتقام، وتقديم مصنفاته وكتبه قربانا لهذا الاضطهاد الذي مورس بمختلف أشكال التعذيب النفسي والنفي الاجتماعي، فضلا عن الإحساس بالهوان من جراء ضعف التواصل مع المحيط الذي لم يقتنع بجدوى مشاريعهم الإصلاحية، وفي هذا الصدد يندرج إقدام ابن باجة على إحراق بعض كتبه ومصنفاته، ولم يكتف بذلك بل تذكر الروايات أنه مات مسموما.
ونظرا لشدة العنف والاستبداد الذي مارسته الدولة ضد بعض المصنفات، فقد سلك بعض المؤلفين والقراء مسلك »التقية«، وانتحل صفات تدرأ عنهم تتبع ر قابة السلطة، فعلى الرغم مما وصف به الشيخ أبو علي الشلوبيني (ت. 645ه/1247م) من فضيلة وإمامة في النحو، فقد كان ينتحل »غفلة و صورة له في الصورة الظاهرة«، وإمعانا في التقنية كان يلقي ببعض كراريسه في ماء النهر، كما لا ننكر أثر مثل هذه الرقابة في اتساع ظاهرة »المؤلف المجهول« في تاريخ الكتاب بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط عموما.
ومن جهة أخرى, فإن سيف الرقابة على الكتاب لم يقتصر على ممارسة مؤسسات الدولة، بل أخرجت بعض المصنفات جزءا من النخبة المثقفة التي نصبت نفسها سلطة رقابية على بعض المعارف لكسب ود السلطة، وحاولت بكل الوسائل الحد من انتشارها، والتأليب على مؤلفيها أو ممتلكيها، ضاربة عرض الحائط مهمتها الأساسية في النقد البناء بالتأليف والكتابة لإغناء الرصيد الحضاري، لكن جزءا منها تخلى عن وظيفته مثل راشد بن أي راشد الوليدي (ت. 675ه/1276م) الذي أعلن بصراحة قوله: »لو وجدت تواليف القشيري وأبي حامد الغزالي لجمعتها وألقيتها في البحر«.
وحسبنا أن بعضا آخر، على الرغم من علو كعبهم في المجال العلمي واتصافهم بالفقه والنباهة مثل محمد بن يعقوب التميمي بن الحذاء القرطبي، فقد استكان، لدواعي نفسية خاصة، إلى مسلك العبث بمؤلفاته حينا، والاعتقاد في بركتها حينا آخر، وهو ما جعل ابن الحذاء يوصي بأن يجعل في كفنه إلى جانب جثمانه حين موته كتابة الموسم ب »الأبناء على أسماء الله«، فنثر ورقه وجعل بين القميص والكفن« تنفيذا لوصيته. وفي الإطار ذاته تعرضت أكثر تصانيف محمد بن أحمد بن علي الفاسي للضياع »لاشتراطه أن لا تعار لمكي« دون أن يوضح مبررات ودوافع هذا الموقف المتصلب اتجاه أهل مكة. وبالرغم من حجم وتنوع كتب خزانة محمد بن غلبون بن عمر الأنصاري (ت. 650ه/1252م) التي »كانت مملوءة أصولا عتيقة، ودفاتر أنيقة«, فإنها لم تسلم من الضياع »لاختلاله قبل وفاته بمدة«.
ثالثا: بعض ردود الفعل
على أساليب العنف والاضطهاد:
على الرغم من تعدد أساليب العنف الممارس ضد الكتاب بالمغرب والأندلس، فقد أبدع الكثير ممن تعلق به أساليب أخرى مختلفة سعيا إلى تدارك وتجاوز هذه المحن، إما عبر التصدق والتحبيس لنقل ملكيتها وإذاعة أفكارها، أو عبر مسالك التحايل أو الإخفاء أو التمويه أو المداهنة للجهة المتلفة والمصادرة تجنبا لغضبها ونقمتها أوحتى إثارتها أحيانا، فرغم ما وصفت به مكتبة عبد الرحمان بن الملجوم (ت. 605ه/1208م) من عظمة، إذ »لم يكن لأحد من أهل عصره مثلها«، فإنه كان يتوجس خيفة من ضياعها، ولم يجد لها سبيلا للمحافظة عليها سوى »التصدق بها على ابنة له لم يترك عقبا غيرها«. ورغم تشبع الكثيرين بمثل هذا السلوك الاحترازي، خوفا من ضياع مصنفاتهم، كما هو حال ابن الملجوم، فإن مكتبته »تفرقت شذر مذر«، وبيعت بعد وفاته ب 6000 دينار.
وبالمثل فقد خلفت الفتن والكوارث الطبيعة نزعة الخوف والتوجس من ضياع الكتب، وذلك ما يستشف من الآثار التي خلفها وباء الطاعون بمالقة في الأندلس خلال الأيام الأخيرة من ربيع الآخر سنة 750ه/1349م، إذ دفع البعض مثل أبي عبد الله بن أبي الجيش - الذي أصابه الوباء في السنة نفسها - إلى التصدق »بمال كثير وعهد ومع عودة المصنفات الفقهية إلى الواجهة خلال العهد المريني، بدأ تراجع مستوى العناية بكتب الحديث التي لاقت من العناية الكثير على العهد الموحدي، فأصبحت تقرأ في أحيان كثيرة التماسا للبركة، لاسيما منها صحيح البخاري الذي شاعت قراءته بالمغرب فرادى وجماعات في المساجد والتجمعات، لسيادة الاعتقاد أنه يخرج الكرب والشدائد، مما يفسر الإقبال الكبير على مجالس بعض المحدثين إبان حصة ختم قراءته في شهر رمضان، بل لم يتورع بعض سلاطين بني مرين من حضور مثل هذه المجالس. مما يعكس جانبا هاما من الآثار الذهنية التي خلفها مثل هذا الكتاب على المجتمع المغربي الأندلسي.
وبالمقابل فقد كلفت مسألة التقرب من السلطة الكثير من العلماء ثمنا غاليا، وذلك بتقديم الإبداع ضحية للولاء، مما أقصر مهامهم على لعب دور »المخابرات الثقافية« للتصدي لمختلف المصنفات والكتب التي لا تتناغم مع مشروعية الدولة. وكيفما كان الحال فقد استطاعت هذه السياسة كبح جماح ذيوع بعض المصنفات التي تحاشى مؤلفوها نشرها، مما يعكس ذهنية بعض النخب التي ارتهنت لمثل هذا النوع من التوجس، حتى إن ابن سبعين »ألف بمدينة سبتة كتابا لم يطلع عليه غيره«. وبالمقابل رغم المحن التي عرضت »للأيدي نفائس كتب« محمد بن عبد الله بن فرتون (ت. 750 ه / 139 م) بفعل الخدمة السلطانية، فلم يثنه ذلك »ولم يذعر سربه ولا أضعفت النكبة جأشه«، حتى يطأطئ رأسه للسلطة.
ويبدو أن الكرامة الصوفية عكست جانبا مضيئا من الآثار الذهبية لردود فعل المتصوفة اتجاه بعض المصنفات التي اعتبرتها مدنسة، وفي هذا الإطار لم يسلم ابن سعبين من الانتقاد الكرامي لتأليفه كتاب »العارف« رغم احتفاظه به لنفسه دون نشره، فيذكر عن الباديسي قوله: »إن سيدي أبا القاسم والدك قد كاشفني بمكاشفة، وهي أني ألفت كتابا ما اطلع عليه أحد، فأخبرني به، قال أبو عبد الله: فذكرت ذلك لأبي، فقال لي: ذلك الكتاب كتاب سوء وأمرته أن يمزقه فما فعل، قلت: وحبس عليهم كتبه«. وعلى غرار ذلك لم تسلم مكتبة أسلاف أحمد بن محمد المقري (ت. 759 ه / 1358) من الضياع، بسبب »توالي الفتن و وجود السلطان«، ولم يبق منها إلا ما نذر، عول عليه المقري في دروسه وقراءاته. يروي ذلك عن نفسه بقوله: »فها أنذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة، اتخذنا فضوله عيشا وأصوله حرمة، ومن ذلك جملة خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة«. الأمر الذي يعكس الآثار الذهبية للارتباط »العضوي« الذي نسج علاقة الكتاب مع من كابدوا بمختلف الوسائل لتحصينه، مقابل سلوك العفوية واللامبالاة التي وسمت علاقة آخرين بالكتاب. وفي الإطار ذاته، خلفت المحن التي اعترضت الكتب آثارا ذهنية ونفسية على مالكيها، لم يستطع البعض تجاوز آثارها، ولم يندمل جرحها، مثل القاضي أبي الحسن بن القطان (ت.628 ه / 1231) بمراكش الذي »أدركته منيته مبطونا حسرا على ما فقد بداره من مال وكتب (...) بلغت كتبه سبعة عشر حملا، منها بخطه«.
وفي الإطار نفسه لما وصل عبد الرحمان بن موسى الهواري مدينة استجة »أتاه أهلها يعزونه.واظهر بن عباد إعلان تعاطفه مع الشاعر أبي بكر الداني حين أتلفت كتبه بإشبيلة إبان سقوطها بيد المرابطين. ولما استولت الأيدي على ذخائر كتب أحمد ابراهيم بن كعب الثقفي (ت. 750 ه / 1349) وفوائد تقييده عن شيوخه على ما طالت له الحسرة وجلت فيه الرزية، لحق بغرناطة إلى كنف سلطانها الأمير أبي عبد الله بن الأمير الغالب بالله بن نصر فأكرم مثواه وعرف حقه«.
ومن البديهي أن مثل هذا السلوك ينم عن عمق الصلة التي جمعت بين الكتاب ومالكه، مما ولد لدى البعض الشعور بالاعتقاد ببركة الكتب، ومن ذلك أن أصحاب أبي العباس بن ناهض ما إن انتهوا من وضع كتبه على مركب بالبحر حتى سكن وسجا، بعد أن »هال ومنعهم من السفر«.
الذي ظهر له بمغربنا الذي سماه «بد العارف««، وهو كتاب مذموم فيه هذيان كثير، وكفاه قبحاً أن سماه البد، والبد في اللغة: الصنم، وقيل هو الأصنام«.
كما عكست الكرامة الصوفية أبعاداً ذهنية في تصور الولاية لمواجهة وتحدي مختلف أشكال الاضطهاد الفكري، مستخدمة في ذلك مختلف الرموز ذات الارتباط بالكرامات والرؤى والأحلام، ومؤكدة على عمق أواصر هذه العلاقة الساعية إلى انتشال الكتاب من بعض المحن التي مر بها، إذ أن التفكير في النيل من الكتاب حرقاً، لاسيما مع كتاب »الإحياء« لأبي حامد الغزالي من قبل ابن حرزهم، عرّض هذا الأخير إلى الضرب المبرح في المنام »ثمانين سوطاً«، كدلالة على السلطة المعنوية والرمزية التي تميز بها الكتاب وفرض بها نفسه من جهة، وكأسلوب للردع من جهة ثانية، لتوجيه وتحصين موارد المعرفة الصوفية. كما أضفى البعد الكرامي على الكتاب قوة تضاهي أحياناً قوة الطبيعة، وذلك من خلال منحه القدرة على تهدئة هيجان البحر أو إيقاف زحف لهيب النار الذي شب بأسواق طليطلة عند الزاوية التي وضعت بها الكتب بدار أحمد بن محمد الأموي المعروف بابن ميمون، حيث كان وقتها منشغلا بالجهاد، وقد خلف ذلك آثاراً نفسية وذهنية تبلورت في »تعجب الناس من ذلك، وظلوا يختلفون إلى الدار المحترقة في دهشة وتعجب«.
ورغم تعدد أنواع الإتلاف التي عانى من جرائها الكتاب، والتي كانت تنذر بوقوع محاولات إبادة بعض الألوان المعرفية، فقد ابتُكرت أساليب جديدة سعياً لتجاوز مثل هذه المحن، فكلما تفننت الجهة المتلِفة في إبداع وسائل إبادة جديدة للكتاب، كلما وُوجهت بإصرار وعزم على ابتكار أساليب ووسائل للتحدي والإنقاذ، فتباينت مستويات نجاعتها بين النجاح والفشل.
وحسبنا أن تعدد أساليب ووسائل الاضطهاد والتفنن في استعمالها، قوبل بتحدي الإبداع والابتكار لآليات التجاوز والندية. ورغم ما يمكن أن نعتبره إنجازاً لمختلف عمليات الرقابة والحجر والمنع، فإن أهم ما حققته هذه الأساليب لم يتجاوز التقليل من مسألة التراكم المستمر للمعرفة العالمة، لكن دون أن تؤثر إجمالا على استمرار عمليات التأليف والتعلق بقراءة الكتب وتملكها.
عموماً فقد تعددت بواعث العنف والاضطهاد واختلفت عبر عدة أنساق اجتماعية ودينية ومذهبية وسياسية وغيرها، أسست لثقافة عدائية استصغرت سلوك إتلاف ومصادرة الكتاب، وعبرت عن فشلها في القدرة على مسايرة التحولات الطارئة بالمنطقة، مما يبرر عجز الإيديولوجية المالكية عن استيعاب متغيرات الانتقال السريعة من البداوة إلى الحضارة خلال العهد المرابطي، وضعف القدرة على مسايرة واقع تغير نمط العيش به وأصبحت التجارة تشكل عصب وجوده، مما نحا بها نحو التعصب »فلم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِم عِلم الفروع«، مما أكسب مثقفي السلطة من الفقهاء سلطة رقابية، وصلت حد التأليب ضد جل المصنفات المخالفة، عن طريق سلاح التكفير والمروق، حتى »دان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام« وأعرض عن المالكية، حتى »نفقت كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله«، وبذلك تم اتخاذ موقف سلبي من العديد من المصنفات في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف وغيرها.
ومن ثمة، فإن هذا العنف ولّد أزمة ثقافية، كان إحدى أبرز تجلياتها محاربة المصنفات ذات الاتجاه العقلاني، وتضييق مثقفي السلطة الخناق على كل أشكال التعبير، وتكميم الأفواه خلال العصر المرابطي، مما أحدث طلاقاً بين الإسلام الشعبي والإسلام الرسمي. ويتكرر الأمر نفسه بأساليب وأنماط مختلفة بتغير السلطة الحاكمة، مما جعل الثابت في الممارسة هو التعصب للمصنفات المتناغمة مع الإيويولوجيا الرسمية، والمتغير يرتكز على تنوع أساليب العنف والاضطهاد.
وبقدر تعدد أساليب إتلاف ومصادرة الكتاب، فقد سعت الدولة في أحيان أخرى إلى محاولة المصالحة مع الكتاب، لتحسين صورتها عند الرأي العام، عبر التغاضي عن عملية الإتلاف والمصادرة، والزيادة من وتيرة تحبيس الكتب على الخزانات العامة بالمساجد والمدارس، فقد زاد المرينيون من عدد كتب الوعظ المحبسة، ومن بينها كتاب »إحياء علوم الدين« لأبي حامد الغزالي، كما حبس أبو عنان في منتصف القرن 8ه/14م أعدادا كبيرة من كتاب »الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى« للقاطي عياض على مجمل مساجد فاس، مثل جامع الأندلس.
ورغم هذه الإجراءات المتتالية لتحسين صورة تعامل الدولة مع الكتاب، فقد رسخت الثقافة الشعبية في الضمير الجمعي ارتباط انهيار الدول التي امتد نفوذها بالمغرب والأندلس بامتهان الكتاب وتعريضه للاضطهاد، إذ تمت معاقبة المرابطين بعد إحراقهم لكتاب »إحياء علوم الدين«، بزوال ملكهم، على يد محمد بن تومرت الذي التقى أبا حامد الغزالي ودعا له بذلك. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فتذكر بعض النصوص أنه قد ثبتت صحة أقوال الكهنة والمنجمين بخصوص صلب ابن حمدين الذي أصدر فتوى الإحراق. وفي الإطار ذاته صارت محنة كتاب »المدونة« وإحراق كتب الفروع على عهد الموحدين وبالا على دولتهم »وقام أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن عبد الحق المريني، فأخرجهم، من مراكش وأهلكوا إلى الآن«.
وحسبنا أن العواقب الوخيمة لذهنية الرقابة التعصبية المحتكرة، لاسيما من قبل الدولة بممارستها للتضييق على حريات التعبير والنشر، بحجة محاربة كتب البدع مثلا، واستخدامه كمبرر لأجرأة إتلاف الكتب، ومحاربتها بالشبهة، لإخضاء فاعليتها في التثقيف والتوعية، والحد من تأثيرها، وتقييد الحصول أو الوصول إليها، واستباحة مصادرتها، كل ذلك جعل مثل هذا السلوك بالمقابل يشكل دعاية غير مباشرة لمصنفات المناوئين، رفع في أحيان كثيرة من مستوى الاستقطاب الجماعي أو الفردي لقرائها والتعاطف معها.
خلاصة القول فإن ما يسترعي انتباه الباحث هو الآليات النفسية السلوكية لفعل هذه الأساليب القمعية وتأثيرها على ذهنية المجتمع، والتي لم تنأ عن أساليب الترويض والتدجين والتطويع لإخضاع الناس عبر صناعة الخوف بدءا من ضبط سلوكهم الخارجي، وصولا إلى التحكم في ذواتهم وأفكارهم وأحيانا حتى في ضبط توجيه نواياهم، وذلك عبر أساليب العنف والتسلط والقهر التي تتكامل فيما بينها، لتشكل نسقا منظما يتحكم في عمليات الإخضاع والرضوخ، والتي فشلت في كثير من الأحيان بفعل أساليب ووسائل التحدي المبتكرة، وغلبة الطابع البدوي بالعدوتين لاسيما بالمغرب.
عن كتاب «العنف في المغرب والاندلس في العصر الوسيط» الصادر عن دار ملتقى الطرق، نشر المجلس الاستشاري للمغاربة المهاجرين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.