امتدادا لما كنا قد تطرقنا إليه في الأعداد السابقة أيها القراء الأفاضل سأحاول التعريج في هذا العدد باقتضاب شديد على بعض الشذرات الفقهية من الحقبة الموحدية.. لقد نشطت الحياة الفكرية العلمية في جميع الميادين وازدهرت بفضل تشجيع الخلفاء الموحدين ومشاركتهم المباشرة فيها، ورعايتهم للعلماء والأدباء، بالإضافة لطابع التحرر الفكري الذي تحلوا به حيث اتسع تفكيرهم المتنور لكل أنواع المعارف، وشجعوا العلوم العقلية أو الحكمية حتى أن عصر الموحدين يوصف بكونه عصرها الذهبي في المغرب كما تذكر جل المصادر، ولنقف معا على "علم الفقه" وهو بيت القصيد فقد ازدهر ازدهارا كبيرا، لكن الملفت للنظر فيه أنه نهض في مظهرين وشاع في مذهبين: المذهب الظاهري الذي كان سائدا في الأندلس والذي كان مفضلا من لدن بعض الخلفاء الموحدين، وخاصة يعقوب المنصور الذي كان يصرح بذلك ويدافع عن كبار شيوخه كابن حزم الأندلسي قائلا عنه: "إن كل العلماء عيال عليه"، والمذهب المالكي الذي كانت له الريادة في كل من المغرب والأندلس منذ قرون خلت، ولم يتمكن أحد من طمسه ومحوه من الوجود أو على الأقل تقويضه رغم الفترات العصيبة التي كان يمر بها.. تذكر المصادر المعتمدة -أيها الفضلاء- أن فكرة حمل الناس على الأخذ بالمذهب الظاهري ونبذ المذهب المالكي كانت موجودة منذ عهد الخليفة الأول الموحدي الذي تشبَّع بأفكار المهدي بن تومرت العقلانية، لكنها لم تنفَّذ بصفة عملية إلا على يد حفيده يعقوب المنصور، ومن المعلوم أن المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية قد مزج بين أفكار ابن حزم الظاهري في دعوته خصوصا ما يتعلق منها بمحاربة التقليد والاحتكار المذهبي، وكان هدفه من ذلك التقليص من نفوذ فقهاء المالكية الذي كان قد استفحل في عهد الدولة المرابطية. عند تأمل الفقه الموحدي تأملا معمقا يلاحظ أنه فقه قائم على النصوص القرآنية والحديثية، وخاصة تلك التي تحضُّ على عصمة الإمام والمهدي المنتظر، والتي في غالب الأمر تكون لا سند لها، ولقد صنفها أغلب العلماء في الأحاديث الضعيفة، لذلك لم تستطع مبادىء الموحدين أن تزاحم مبادىء فقهاء المالكية الذين يعتبرون سُنِيُّون يرون أن "المهدوية" مجرد خُرافة ليس لها سند من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ ومن تم اضمحل واندثر فقه الموحدين بمجرد سقوط دولتهم سنة (667ه). لا أحد ينكر أن المكانة العالية التي تبوئها المذهب المالكي في الأندلس والمغرب كانت بفضل جهود ومساندة الدول المتعاقبة على الحكم حيث كانت تشدُّ من أزره منذ الخطوة الأولى التي نالها الفقيه يحيى بن يحيى الليثي (ت234ه) تلميذ مالك عند الخليفة هشام بن عبد الرحمن الداخل بالأندلس، ولم يتعرض هذا المذهب قط ولا الفقه المتعلق به إلى محاولة القضاء عليه واجثتاثه من الجذور خلال عمره الطويل في الأندلس والمغرب إلا محاولة الدولة الموحدية التقليص من نفوذه الشائع، وليس القضاء عليه نهائيا؛ لأنه كان مغروسا في عقول وقلوب المغاربة الأشاوس؛ ولقد بدأت بوادر هذه المحاولة في عهد الخليفة الأول عبد المؤمن بن علي وابنه يوسف، وبلغت ذِروتها في عهد يعقوب المنصور (580-595ه) الذي جاهر بذلك واشتط وتصلَّب في تنفيذ خطة ابن تومرت ومحاربة علم الفروع قصد الإجهاز عليه؛ وفي هذا الصدد يذكر عبد الواحد المراكشي (ت 669 ه) الذي عاصر الدولة الموحدية أنه "كان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب هذا، يشهد لذلك عندي ما أخبرني غير واحد ممن لقي الحافظ أبا بكر بن الجد"،[1] فاتجه بذلك التعليم الموحدي إلى عدم التقييد بآراء المذهب المالكي في المغرب معتمدا على حرية الاجتهاد في مسائل الفقه بشرط الاستناد إلى أدلة القرآن والسنة وما جرى به العمل، مع منع دراسة كل من "مدونة" الإمام سحنون (ت240ه)، وكتاب ابن يونس الصقلي (ت451.ه) "الجامع"، و"نوادر" ابن أبي زيد القيرواني (ت386ه)، و"المختصر" لأبي سعيد البرادعي كان بقيد الحياة سنة (373ه)، و"الواضحة" لابن حبيب السلمي (ت238 ه).. وغيرها من أمهات المذهب المالكي. عند التأمل في شخصية الخليفة المنصور الموحدي الذي أعلن صراحة الرغبة في القضاء على المذهب المالكي يلاحظ أنه كان شخصية قوية، عالمة متمكنة من الفقه والحديث واللغة، له اجتهادات فقهية كان يرجع إليها فقهاء عصره حيث كان أول خليفة جاهر ببطلان المهدوية، والعصمة، والإمامة، إذ كان ملما بالحديث النبوي الشريف، عارفا بصحيحه فلمس بنفسه ضعف أحاديث المهدوية والعصمة والإمامة مما حبب فيه فقهاء عصره، ولعل تمكنه من العلوم الشرعية ووصوله إلى مرحلة الاجتهاد الفقهي هو الذي أدى به إلى اتخاذ موقفه المشهور من المذهب المالكي السائد عامة ومن الفقه المالكي خاصة، فكان له دورا فعالا في تطور العقيدة الموحدية وجنوحها إلى المذهب الظاهري حيث كانت تعقد محاورات ومجادلات لترجيح المذهب الظاهري على المذهب المالكي؛ ومن هذه المحاورات تلك التي جرت بين يوسف بن عبد المؤمن والحافظ ابن الجد الفقيه الذائع الصيت الذي يوصف بأنه بحر واسع في الفقه حيث يقول: "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه وجدت بين يديه كتاب ابن يونس فقال لي: "يا أبا بكر أنا أنظر هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال صحيحة؟ يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا وأشار إلي بسنن أبي داود، أو السيف"[2] . يستشف من هذه المحاورة التي تداولتها المصادر والمراجع التي أرخت لهذه الحقبة أن الموحدين كان غرضهم محاولة صرف الفقهاء إلى التعمق في دراسة أصلي التشريع الإسلامي وهما القرآن والسنة، مع محاولة استخلاص واستنباط الأحكام منهما، وعدم حصر دراساتهم واجتهاداتهم في مذهب معين، ومن تم التخلص من كتب الفروع التي كانت مستفحلة بقوة، لكن تنفيذ هذا لم يتم في عهد عبد المؤمن ولا في عهد ابنه يوسف اللذان مهدا لذلك بمجادلتهما مع العلماء وتغليب كفة الفقه الظاهري، وطبقت الفكرة عمليا وتعزيريا في عهد يعقوب المنصور الذي "تقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة، وأمر جماعة ممن كانوا عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة: الصحيحين والترمذي والموطأ وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة، فأجابوه إلى ذلك.. فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه.."،[3] كما وصل به الحد إلى الأمر بإحراق كتب أمهات المالكية بعد تجريدها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، كمدونة الإمام سحنون، وكتاب ابن يونس الصقلي، وواضحة ابن حبيب السلمي.. إلى غيره من "أمهات الفقه المالكي" والتي يذكر المؤرخ عبد الواحد المراكشي أنه شاهدها بأم عينه بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال، فتوضع على الأرض ويطلق فيها النار حسب قوله. لعل يعقوب المنصور الموحدي بفعله هذا كان يرمي إلى محو المذهب المالكي من الغرب الإسلامي أو التقليص من شوكة فقهائه وحصر نفوذهم، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والسنة مع العمل على التأسيس لفقه جديد على أساس أصلي التشريع الإسلامي، ويمكن القول أن الفقه استفاد كثيرا من هذه الحركة الظاهرية رغم محنة بعض فقهاء المالكية مع الدولة الموحدية حيث نبغ في هذا العصر فقهاء أفذاذ مجتهدون استنبطوا الفقه من معين الكتاب والسنة، لكن ذلك لم يمنع حركة الفروع من الاستمرار طيلة عهد الدولة الموحدية العظيمة، والانتصار لها فيما بعد حيث أصبحت "القرويين" مركز الدراسة الفروعية الجدلية، وكان لفقهاء المالكية مناهجهم التي لم تنطفىء شعلتها قط في الكتاتيب والمساجد، والزوايا والرباطات، وبمكتباتهم العريقة الزاخرة بمختلف أنواع المعارف الدينية والفقهية واللغوية وغيرها من العلوم التي كانت سائدة في تلك الحقبة التاريخية[4]. انتهت المعركة الفقهية بوضع فقه مؤقت –إن صح التعبير- على أساس الكتاب الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقد الخليفة المنصور أنه قضى على الفقه المالكي وفروعه نهائيا وأنه اجثثه من جذوره، لكنه إذا كان استطاع أن يحاصره على الساحة فإنه لم يستطع أن يقضي عليه ويمحوه من عقول وقلوب الناس الذين ظلوا متشبثين به في عباداتهم ومعاملاتهم المتنوعة، فأضحت الدعوة الموحدية بعد استقرار الدولة الموحدية في شبه جمود تام وفق ما تذكر المصادر والمراجع التاريخية المعتمدة. ونحن بصدد الحديث عن الفقه خلال الفترة الموحدية يجدر لفت أنظاركم -أيها القراء الفضلاء- أن فقه الموحدين الجديد الذي كانوا يدافعون عنه دفاعا مستميتا، لم يكن سوى فقه إمامنا مالك رحمه الله تعالى بعد حذف الأسانيد وآراء الفقهاء المالكية التي كانت سائدة ورائجة منذ القرون الهجرية الأولى، كما أنه رغم إقبال الناس عليه ومحاولة حفظه في حُلته الجديدة ظل فقه الإمام مالك يسير الناس عمليا على هديه ونوره، كما ظل الفقهاء المالكية محترمين يجلهم الكبير والصغير على السواء؛ وما يمكن أن يسجل لصالح الخليفة المجتهد المنصور - وللمجتهد أجران إذا أصاب وأجر إذا أخطأ- أنه بمحاولة صرف العلماء إلى التعمق في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وحثهم على استنباط الأحكام منهما مباشرة فقد أفاد بذلك الحياة العلمية آنذاك فائدة كبيرة بفتح مجال أرحب وأوسع للبحث والتنقيب والدراسة، فظهر الاشتغال بالتفسير وعكف الناس على تفهم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات وتدبُّر فقههما، كما انتشر علم الحديث رواية ودراية، وأقبل الناس على الأخذ عن رجاله والتأليف في علومه المختلفة. ولقد شغف الموحدون بالحديث النبوي الشريف إذ كان إمامهم المهدي بن تومرت محدثا حافظا، غير أنه استند في "مهدويته" إلى العديد من الأحاديث الموضوعة، كما كان الخليفة عبد المؤمن بن علي من المتبحرين في الحديث الشريف أيضا، وركن ابنه يوسف إلى طلب الحديث من أصوله وينابيعه الموثوق بها عند أهل السنة، لكنه لم ينبذ أحاديث "المهدوية" الضعيفة أو الموضوعة وسار على نهج أبيه في احترامها واحترام رسوم العصمة والإمامة؛ لكن الخليفة الثالث يعقوب المنصور كان أشد الموحدين اهتماما بالحديث النبوي الشريف وتقديرا لعلمائه ونبذا لأحاديث المهدوية، وإنكارا لها جهارا مع التركيز على أخذ الحديث النبوي الشريف من منابيعه الصحيحة المتفق عليها، لذلك حرص على استدعاء علماء الحديث ورواته من مختلف الجهات، وأمرهم بتدريسه وتدريس علومه ومصطلحاته؛ ومن أشهر العلماء الذين تم استدعائهم على سبيل المثال لا الحصر محمد بن ابراهيم الأنصاري المالقي يعرف بابن الفخار (511-590ه)، وأبو محمد عبد الله بن محمد الحجري المري (505-591ه)، وأبو الحسن نجبة بن يحيى الرعيني الاشبيلي (521-597ه). أعزائي القراء الأفاضل يمكن القول أن الخليفة المنصور الموحدي أفاد الحركة العلمية ونشطها من جانب علم الحديث وعلومه، وعلم التفسير بتفاسيره المتنوعة المشارب، وأن حادثة حرقه لأمهات الفقه المالكي التي تداولتها المصادر والمراجع لم تؤثر سلبا على ازدهار الحياة العلمية في عهده، بل فتحت الأبواب على مصراعيها من أجل البحث والدراسة والتنقيب، ومن تم لم تقلل من رعاية الدولة الموحدية للجوانب العلمية والفكرية؛ كما أن نشاط الفقهاء المالكية لم ينقطع بصفة نهائية وظل عطاؤهم مستمرا حتى في أحلك الظروف التي مر بها المذهب المالكي، وخير دليل على ذلك تلك المصنفات والدُرر النفيسة التي تزخر بها المكتبات العامة والخاصة ببلادنا الأبية رغم ما ضاع منها بفعل الأيدي والزمان، وأسماء الكثير من الفقهاء الذين ظلوا أوفياء للمذهب المالكي حيث حافظوا على فواعده المتميزة، وصنفوا فيه المصنفات الفقهية القيمة التي مازالت تشهد وتنطق بعظمة الدولة الموحدية في كل شيء، وبأنها دولة شجعت العلم والعلماء ولم تجثث الفقهاء المالكية حاملي لواء المذهب في ذلك العصر الذهبي كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين.. لقد ظل المذهب المالكي متجذرا وراسخا في عقول وقلوب المغاربة دائما، متبعا في عباداتهم ومعاملاتهم على السواء، محميا من لدن الحكام والعلماء على مر العصور بدليل أنه لم يسجل عن أحد من أهل العلم بالمغرب الخروج التام عن مذهب إمامنا مالك رحمه الله تعالى، ولا الأخذ بغيره من المذاهب إلا في بعض الحالات الشاذة التي اضمحلت بمرور الزمان ولم يكتب لها الاستمرار والاستفحال، وكل من سعى إلى ذلك كان مصيره الاندثار ولم يستتب له أمرا.. ولنا في هذا العبر الكثيرة أيها الفضلاء التي يجب الاستنارة والاستئناس بها والاقتباس منها، من أجل الحفاظ على ثوابت بلادنا الأبية من مذهب مالكي وعقيدة أشعرية وتصوف سني، والذود عنها بكل غال ونفيس، وغرسها في عقول فلذات الأكباد منذ نعومة أظفارهم بالقول وبالفعل، وتكوين شخصيتهم على ضوئها.. هذا ما يسَّر الله عز وجل ذكره في هذا المقام، وفي العدد القادم بحول الله وقدرته نتطرق إلى نماذج من الفقهاء المالكية الذين صنفوا في الفقه المالكي وأصوله من الحقبة الموحدية التي توصف بكونها حقبة اضطهد فيها الفقه المالكي وأصوله وفقهائه... وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.. والله من وراء القصد يهدي السبيل ----------- 1.عبد الواحد المراكشي. المعجب في تلخيص أخبار المغرب. تحقيق محمد العريان ومحمد العربي العلمي. ص: 279.ط:7. الدارالبيضاء: 1978م. وانظر: أحمد المقري. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب. تحقيق إحسان عباس. 3/247.دار صادر. بيروت: 1968م. 2.عبد الواحد المراكشي. المصدر السابق. ص: 279. وانظر: عبد الله عنان. دولة الإسلام في الأندلس- عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس- ص: 646. ط: 2. مكتبة الخانجي. القاهرة: 1990م. 3. انظر: عبد الواحد المراكشي. المصدر السابق. ص: 277-278. 4.انظر: عبد الله علام. الدولة الموحدية بالمغرب. ص: 229.ط: 1. دار المعارف. مصر: 1971م.