استهلالا أشكر كل القراء الأوفياء على تعليقاتهم المحفِّزة والداعمة التي تُثلج صدورنا، وتنوِّر لنا الطريق، وتدفع بنا للاستمرار في المساهمة مع جريدتنا الإلكترونية الرائدة "ميثاق الرابطة"، ونزولا عند رغبتهم سأبذل قصارى جهدي للاستمرار في التعريف والتذكير بتاريخ بلادنا الأبية وحضارتها المشرقة، من أجل مد جسور التواصل مع الماضي، والاقتباس منه وبناء الحاضر المشرق، وأخذ العبر من حضارة متميزة ما زالت تنطق بعلومها، وفنونها، ومعمارها، وعلمائها وعالماتها، وفقهائها وفقيهاتها، وصلحائها وصالحاتها عبر العصور المختلفة التي عاشتها منطقة الغرب الإسلامي التي ننتمي إليها؛ وفي هذا النطاق سأتحدث في هذا العدد عن اعتناء الموحدين بالمعاهد العلمية، والمجمعات العلمية، والمكتبات، حرصا منهم على نشر العلم بين مختلف شرائح المجتمع، واهتماما منهم بالعلماء على اختلاف مشاربهم ومداركهم. لقد أسس الخلفاء الموحدون المعاهد والمدارس للتعليم بمراكشوفاس وباقي مدن المملكة حرصا منهم على التعلم والتثقيف لكل شرائح المجتمع، وبسَّطوا المساطر لكل من أراد ولوج هذه المعاهد والمؤسسات التعليمية للنهل منها والجلوس إلى علمائها الراسخين في العلم المبرَّزين في التعليم والتربية، ولقد حرص الموحدون على استجلاب العلماء إلى حضرتهم وحشدهم، سواء في بلاطهم أو في المعاهد من أهل كل فن من فنون المعرفة وخاصة أهل علم النظر منهم؛ حيث كانوا يدققون في اختيار العلماء المدرسين واختبار كفاءتهم ومدى تمكنهم وتوسع مداركهم ومشاربهم. ومن المجمعات العلمية التي تفردت بها مدينة مراكش عاصمة ملك الموحدين عن باقي عواصم المغرب وإفريقية والأندلس، "مُجمَّع الطلبة" أو ما يطلق عليه "بيت الطلبة" الذي وضع لبنته الأولى الخلفة عبد المؤمن الموحدي، وهو بيت يُذكِّر "ببيت الحكمة" الذي كان ببغداد على عهد المأمون العباسي، وكان محضنا لأهل العلم من أصليين وطارئين جدد، مما سيسهم في تنوير العقول وتفتُّح الأفكار، واتساع المدارك عند المغاربة الذين وصلوا الدرجات العليا من الثقافة العلمية، والفضل كل الفضل يرجع إلى الموحدين أصحاب "مملكة الطلبة" حسب تعبير ابن صاحب الصلاة[1] ، الذين ازدهرت المعارف على عهدهم الزاهر بما أسسوه من معاهد ومدارس في إفريقية والأندلس. ولقد كان للموحدين مناهج مختلفة في التعليم حسب تنوع مراكز التعليم بالمغرب، فكان هناك منهاج للمدارس التي توسعوا في بناءها في المغرب والأندلس، ومنهاج للجوامع التي كانت تحف بها مملكتهم الشاسعة، وآخر للتعليم الإجباري الذي ابتكره الخليفة عبد المؤمن كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أما بالنسبة للجوامع التي كانت مشهورة في العهد الموحدي وكانت تلقى بها الدروس ويتلقى فيها العلم، فكانت هناك جامع القرويين العتيدة بمدينة فاس، وجامع مدينة سبتة السليبة، وجامع مدينة مكناس، وجامع مراكشالمدينة التي أصبحت عاصمة علم ثانية، مما دفع البعض بتسميتها بغداد المغرب في ذلك العهد؛ بالإضافة إلى مدينة فاس العاصمة العلمية الأولى التي اجتمع فيها علم القيروان، وعلم قرطبة على حد تعبير المراكشي صاحب كتاب "المعجب"[2]. كانت العادة عند الموحدين أن لا ينتصب للتدريس في الجوامع الكبار إلا من انتهت إليه المهارة والرسوخ في العلم والدين في وقته، فيلقون دروسهم ويجيزون الطلبة المتفوقين بإجازات ما زالت بطون الأمهات من الكتب والمصادر المختلفة تشهد بها على عظمة العصر الموحدي الزاخر بالعلم والعلماء، وكانت الدراسة مزدهرة بجامع القرويين مفخرة المغرب وأيقونته المضيئة، ومن مظاهر جامعة فاس الموحدية ارتفاع عدد الرحالين إليها لأخذ العلم بها عما كان عليه الحال في العهد المرابطي، ونذكر من الأندلسيين الراحلين للدراسة بفاس الموحدية على سبيل المثال عبد الحق بن خليل السكوني، وعبد الرحمن بن عفير الأموي الإشبيلي (ت580ه)؛ ولقد كان لهذه الرحلات العلمية المتبادلة بين المغرب والأندلس أثرا واضحا في توسيع الحياة العلمية والفكرية وإثرائها، ولعل من أبرز مظاهر ذلك تلك الأعداد الهائلة من العلماء الذين حفل بهم هذا العصر الذهبي من تاريخ الغرب الإسلامي مقارنة بالعصور السالفة. ومن مظاهر رعاية الدولة الموحدية للعلم والعلوم المختلفة تلك المجالس العلمية أو المجامع العلمية التي كان يعقدها خلفاء وأمراء وولاة الموحدين، ويدعى إليها علماء فطاحلة كبار في مختلف العلوم من المغرب والأندلس، وكان هذا العَلَم لا يسمح له بحضور هذه المجالس إلا بعد أن ينظم له امتحان في العلم الذي يجيده لتحقق من مستواه العلمي، وتتميز هذه المجامع العلمية التي كان يعقدها خلفاء الموحدين بكونها كانت حافلة بالمذاكرة، والمناظرة في أنواع العلوم بين علماء وأدباء، وأطباء وفلاسفة، وكانت هذه المناظرات تفتتح بإلقاء مسألة من العلم يلقيها الخليفة بنفسه، أو يلقيها بعد إذنه بعض الحاضرين في هذه المجالس العلمية؛ كما كانت هناك مجالس الأمراء كمجالس الأمير يحيى بن يوسف بن عبد المؤمن التي كان يحضرها جهابذة العلماء كعبد الواحد المراكشي صاحب كتاب "المعجب" المؤرخ الذائع الصيت، ومجالس الأمير عثمان بن عبد المؤمن في غرناطة سنة (548ه) والذي جمع حوله نخبة من علماء الأندلس منهم الأديب والكاتب محمد بن ابراهيم بن فرقد (ت572ه)، وابن طفيل الطبيب والفيلسوف (ت581ه)، والحافظ بن الجد (ت586ه) الذي وصفه ذو الوزارتين ابن الخطيب السلماني في حفظ الفقه بكونه بحرا يغرف من محيط. والجدير بالذكر أن "فن المناظرات" كان قد ظهر ونمى وازدهر خلال الفترة الموحدية، وكان أول مناظر عند الموحدين إمامهم المهدي بن تومرت الذي كان يناظر علماء المرابطين ويفحمهم بحججه العقلية والنقلية، ثم ارتقى "فن المناظرة" في عهد عبد المؤمن الذي كانت فترته فترة جدال طويل بين الموحدين وبين علماء المالكية حيث كفل الموحدون حرية الرأي وسمحوا بها بين الناس، ولقد ظهرت هذه الحرية بالعدوة الأندلسية أكثر من غيرها في كثرة المناقشات والمجادلات في شؤون العلم عامة، وحول أراء المهدي بن تومرت خاصة. اهتمام الدولة الموحدية بالكتب والمكتبات قامت الدولة الموحدية على أساس العلم كما هو معلوم إذ أن مؤسسها محمد بن تومرت نشأ طالبا للعلم محبا له، محفزا عليه باقي أتباعه المخلصين، وعند استقرار دولتهم كان نشر العلم وتعميمه أبرز السمات التي اشتهرت بها الدولة الموحدية طول عمرها، ولقد كان عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب من كبار العلماء، فحضوا الناس على التعلم، وعقدوا المجالس العلمية في قصورهم، وأحاطوا أنفسهم بمشاهير العلماء والأدباء والمفكرين، وشجعوا ولاتهم في الأقاليم على إنشاء هذه المجالس العلمية وإكرام العلماء وطلبة العلم؛ ومن بين ما اهتم به الخلفاء إنشاء المكتبات والخزائن العلمية سواء في قصورهم أو في الأماكن العامة، وتزويدها بمختلف الدرر العلمية التي كانت تصدر في جميع أنواع العلوم والفنون، فالخليفة يوسف بن عبد المؤمن (558-580ه) مثلا اشتهر بأنه من جامعي الكتب وخزنها في الخزانات العلمية، وكان شغفه وحبه لاقتناء الكتب يتعدى جمع الكتب المتوفرة على الساحة إلى الاقتراح بتأليف كتب في مواضيع معينة، كاقتراحه على الفيلسوف أبي الوليد بن رشد (ت595ه) أن يصنف كتابا يشرح فيه فلسفة أرسطو، وكان لا يفوته أن يستعرض مع جلسائه المؤلفات التي ألفت في عصره، ويأمر باستنساخ ما كانت خزانته الخاصة تحتاجه منها، فيشجع بذلك الناس على اقتنائها والإطلاع على قيمتها العلمية؛ كما سار الخليفة يعقوب المنصور (580-595ه) على نفس منوال أبيه وجده عبد المؤمن فشجع التأليف ونشر الكتب، وراقب الحركة التأليفية عن كثب، حيث كان يسأل عن المؤلفات الجديدة التي ظهرت في أطراف مملكته الشاسعة أو في مناطق أخرى، ويأمر بنسخها ويودعها خزانته التي كان يحرص أن تزخر بالدرر والنفائس التي امتاز بها العصر الموحدي الزاهر. والملفت للنظر أن الأمر لم يكن مقتصرا على الخلفاء الموحدين وحدهم في الاهتمام بالخزانات العلمية والعمل على ازدهارها، بل تعداه إلى ولاتهم على الأمصار الذين كان لهم الفضل الكبير في تنشيط الحركة العلمية عن طريق إنشاء المكتبات في قصورهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر تذكر المصادر والمراجع المعتمدة أنه "من الولاة الموحدين في الأندلس الذين اهتموا بإنشاء المكتبات في قصورهم أبو ابراهيم إسماعيل بن عبد المؤمن الذي ولي إشبيلية من قبل أخيه أبي يعقوب يوسف.. فقد كانت له خزانة كتب كبيرة حرص على تزويدها بمختلف الكتب في كافة فروع العلم، وقد رتب فيها عددا من النساخ تفرغوا لنسخ ما يريده من كتب لإيداعها في هذه الخزانة، وكان على رأس هؤلاء النساخ أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الله بن عفير (ت580ه)"[3]. ولقد كان لاهتمام ولاة الأندلس من بني عبد المؤمن وأحفاده دورا كبيرا في رعاية الجوانب العلمية انعكاسا للاهتمامات العلمية التي عرفوا بها خلال هذا العصر الذهبي، كما كان للمكتبات التي أسسوها وحرسوا على توسيعها في قصورهم دورا في توفير الكتب لطلاب العلم ومحبي العلوم، وهذه المكتبات إن كانت خاصة وأقل عمومية من مكتبات المساجد إلا أنها خدمت الحركة العلمية ونشطتها لأنها كانت مفتوحة لكبار العلماء والأدباء؛ ومن أشهر المكتبات على هذا الشكل تلك التي أنشأها والي غرناطة من قِبل أبي يعقوب الموحدي يوسف بن محمد بن ابراهيم (ت596ه). بلغت قيمة المكتبة عند الموحدين الذروة لاعتنائهم بها وإشرافهم بأنفسهم على مقتنياتها حيث وصفها أديب المغرب العلامة سيدي عبد الله كنون رحمه الله بالغنى والثراء قائلا: "فالمكتبة المغربية في هذا العصر كانت من أغنى المكتبات بالمؤلفات النادرة، وزادها غنى ما كان يضعه المؤلفون كل يوم من الكتب المفيدة في مختلف العلوم، فكانت ثروتها لا تزيد على مر الأيام إلا كثرة.." [4]، فتضخمت المكتبة المغربية لهذا العهد الزاهر وامتلأت بالنفائس من الذخائر فأصبحت تضاهي المكتبة الأندلسية إبان ازدهارها؛ ومما يدل على عظمة المكتبات آنذاك أن "قسم الفلسفة من مكتبة يوسف اجتمع فيه قريب مما اجتمع للحكم بالأندلس.. وكان بمدينة مراكش وحدها من دكاكين الكتبيين مائتا دكان لبائعي الكتب المخطوطة.. وقد جاءت تلك الكثرة الفائقة من العناية الكبرى التي كانت للمغاربة، وفي مقدمتهم الخلفاء الموحدون الذين كانوا مضرب الأمثال في الاهتمام باقتناء الكتب وتملكها"[5]. ولقد بلغ هذا الاهتمام بالكتب والمكتبات إلى حد نزع ملكية المكاتب من أصحابها خشية ضياعها مع تعويضهم عنها والاحتفاظ بها في مكتبتهم من أجل صيانتها والاعتناء بها، كما كان لاهتمام الخلفاء بجمع الكتب حافزا وباعثا على حرص العلماء الذين يعيشون في كنفهم على إهداء ما يؤلفونه لهم لإيداعه في خزائنهم، وتذكر المصادر أنهم كانوا يتسابقون في هذا الإهداء لعلمهم بحب الخلفاء للعلم وللجديد الذي يصدر في مختلف ضروب المعرفة، كما كانت الكتب أيضا ترد على شكل هدايا من الخلفاء الذين عاصروا الدولة الموحدية في مختلف المعمور، كالقائد الباسل صلاح الدين الأيوبي (564-579ه) الذي أهدى للخليفة يعقوب المنصور (585-595ه) مصحفين كريمين من أجل وضعهما في خزانته العامرة. إن عناية خلفاء وأمراء الدولة الموحدية بالمكتبات والخزانات العلمية لم يكن محصورا فقط في إنشائها وجلب الكتب المتنوعة إليها وحث الناس على النهل منها، بل تعداه إلى تنظيمها تنظيما محكما يبعدها عن كل فوضى عن طريق وضعهم لما يسمى ب: "خطة الخزانة العلمية" أو "خطة القيم على الخزانة العلمية" التي تذكر المصادر والمراجع المعتمدة أنها كانت من الخطط الجليلة لدى الموحدين، لا يتولاها إلا عِليَّة أهل العلم وأكابرهم ومن له خبرة ودراية بالكتب والمكتبات، فعلى سبيل المثال استدعى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن الصقر الأنصاري (ت569ه) من مدينة غرناطة وكان قاضيا عليها، وجعله مشرفا على خطة الخزانة العلمية حيث أهلته خبرته في ترتيب الكتب وتنظيمها إلى ذلك، إذ كان يملك مكتبة خاصة به فريدة من نوعها تتحدث عنها المصادر الغميسة، بالإضافة إلى كونه كان أحسن العلماء نظرا في كثير من العلوم، واستنسخ للمكتبة عدة مجلدات ضخام[6]؛ فاستدعاء العلماء من لدن الخلفاء الموحدين لم يكن فقط من أجل المناظرات وحضور المجالس العلمية بل كان أيضا من أجل القيام بمهمة تحت مظلة الدولة، أو لاصطحابهم في غزواتهم من أجل استفتائهم والاستئناس برأيهم، وكذلك من أجل إقراء الجند، ومن هؤلاء العلماء المبرزين الذين صحبوا الجيوش الموحدية إلى إفريقية في عهد المنصور الفقيه محمد بن ابراهيم الأنصاري ابن الفخار (ت590ه)، والفقيه نجبة بن يحيى الرعيني الإشبيلي (ت591ه) رحمهم الله جميعا. ثمة عبر كثيرة –أيها الفضلاء- يمكن لنا اقتباسها من هذه المقتطفات العلمية التي اقتطفتها من بساتين الحضارة الموحدية المغربية والأندلسية، أهمها الاهتمام بالعلم والعلماء، والمعاهد العلمية والمكتبات، مع تكوين جيل يعشق العلم ويبحث عنه سواء في بطون الكتب النفيسة التي تزخر بها بلادنا ولله الحمد والشكر، أو من ينابيعه الفياضة الموجودة بيننا ولله الحمد والمنَّة.. والله من وراء القصد ويهدي السبيل ------------- 1.انظر: عبد الملك بن صاحب الصلاة، المن بالإمامة على المستضعفين، تحقيق عبد الهادي التازي، ص: 122، ط: 3، دار الغرب الإسلامي، بيروت: 1987م، وانظر: حسين بن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، تحقيق محمد علي مكي، ط: 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت: 1990م. 2.انظر: عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد العريان ومحمد العربي العلمي، ص: 238، ط:7، الدارالبيضاء: 1978م. 3.يوسف العريني، الحياة العلمية في الأندلس في عصر الموحدين، ص: 136، مطبعة الملك عبد العزيز، الرياض: 1995م. 4. سيدي عبد الله كنون، النبوغ المغربي، 1/161-162، ط: 2، دار الكتاب اللبناني، بيروت: 1961م. 5.سيدي محمد المنوني، العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، ص: 278، ط:2، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة، الرباط: 1972م. وانظر: لنفس المؤلف، حضارة الموحدين، ط: 1، دار توبقال، الدارالبيضاء، 1989م. 6.انظر: سيدي عبد الله كنون،المرجع السابق، 1/163-164. وانظر: أنخل جنثالت بالنثيا،تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ط:1 ،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة: 1955م.