في ما يلي نص الخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم الجمعة 6 يناير 2006 إلى الأمة بمناسبة انتهاء مهمة هيئة الإنصاف والمصالحة وتقديم الدراسة حول التنمية البشرية بالمغرب: "الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه، حضرات السيدات والسادة المحترمين، شعبي العزيز، لقد عاهدتك على مخاطبتك، كلما قطعنا مرحلة من مراحل مسيرتك الحثيثة، على درب التقدم. واستقبلنا أخرى بالمزيد من التعبئة والثقة والأمل. بفضل تضافر جهودك، والتفافك حول خديمك الأول. وعندما أتوجه إليك اليوم، فلأن الأمر يتعلق بلحظة تاريخية فاصلة. فنحن نودع نصف قرن من الاستقلال، بنجاحاته وإخفاقاته وطموحاته، في بناء الدولة الحديثة. كما نقدم، بعون الله، على خوض معركة استكمال بناء مغرب الوحدة، والديمقراطية والتنمية. وإذ نستحضر الخمسينية المنصرمة، فإننا لا نريد أن نجعل من أنفسنا حكماً على التاريخ. الذي هو مزيج من الإيجابيات والسلبيات. فالمؤرخون هم وحدهم المؤهلون، لتقييم مساره، بكل تجرد وموضوعية، بعيدا عن الاعتبارات السياسية الظرفية. وهذا لا يعني أننا ننظر إلى هذه المرحلة كماض طواه الزمن. ولا أن نبقى سجناء له. وإنما نعتبرها جزءاً من سجل أمتنا العريق. فنحن حريصون على أن يظل التاريخ، بالنسبة للمغاربة جميعاً، وسيلة ناجعة لمعرفة الماضي، وفهم الحاضر، والتطلع للمستقبل، بكل ثقة. ومن هذا المنطلق، أصدرنا قرارنا بنشر كل من التقرير الختامي، لهيأة الإنصاف والمصالحة، والدراسة حول حصيلة وآفاق التنمية البشرية ببلادنا، وتمكين الرأي العام من الاطلاع عليهما. وعلى هذا الأساس، يتعين علينا جميعا، علاوة على حفظ هذه الحقبة في ذاكرة الأمة، باعتبارها جزءا من تاريخها، استخلاص الدروس اللازمة منها. وذلك بما يوفر الضمانات الكفيلة بتحصين بلادنا من تكرار ما جرى، واستدراك ما فات. بيد أن الأهم، هو التوجه المستقبلي البناء. ذلكم التوجه الإيجابي الذي يقوم على تعبئة كل طاقاتنا للارتقاء بشعبنا، والانكباب على قضاياه الملحة. فما أكثر ما ينتظرنا إنجازه. لاسيما وقد عملنا على أن يأخذ قطار التنمية البشرية سرعته القصوى. غايتنا المثلى ترسيخ دعائم المجتمع التضامني، الذي يكفل الكرامة والمواطنة المسؤولة لكافة أبنائه، في تلازم بين ممارسة الحقوق وأداء الواجبات. وبدون ذلك، لن نكون متجاوبين مع شبابنا، ولا مواكبين لتطور العصر. وبلسان حال أجيالنا الصاعدة أقول : كفى من الأنانية، والانطواء على ذواتنا. وهدر الفرص الثمينة، واستنزاف الطاقات في معارك وهمية. وقد آن الأوان لتدبر حاضر أبنائنا ومستقبلهم. فشبابنا لن يتفهموا عدم تحقيق تطلعاتهم المشروعة للعيش الحر الكريم. ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالتشمير عن ساعد الجد، ومواصلة تضحيات جيل الاستقلال، والمسيرة الخضراء. والمضي قدما في إصلاح شامل، عماده الجيل الصاعد. جيل تحقيق التنمية البشرية، والتمسك بالهوية الوطنية، والوحدة الترابية، والتشبث بالملكية المواطنة. شعبي العزيز، لقد أقدمنا، بكل شجاعة وحكمة وثبات، على استكمال التسوية المنصفة لماضي انتهاكات حقوق الإنسان، التي أطلق مسارها الرائد، منذ بداية التسعينيات، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه. وإننا لنستحضر، بكل خشوع وإجلال، إلحاحه، أكرم الله مثواه، من أعلى منبر البرلمان، في آخر افتتاح له، للدورة النيابية لأكتوبر1998 ، على الطي النهائي لكل الملفات العالقة. كما جاء في نطقه السامي. حتى "لا يبقى المغرب جارا من ورائه سمعة ليست هي الحقيقة، وليست مطابقة لواقعه، ولا تفيده في مستقبله". " وعندما اختاره الله تعالى إلى جواره، واصلنا حمل هذه الأمانة. ضمن مسار نموذجي وفريد، تمت فيه تسوية الملفات الشائكة. وذلكم في إطار التغيير داخل الاستمرارية، التي تطبع نظامنا الملكي. وإني كوارث لسر والدي المنعم، أحمد الله على أن وفقنا للنهوض بهذه الأمانة. وباسم الشعب المغربي قاطبة، فإني أرفع هذه البشرى، لتزفها ملائكة الرحمان، إلى روحه الطاهرة. وتثلج بها قلبه، وأفئدة جميع الضحايا والمتضررين، وكل الأسر المكلومة، التي هي محط عطفنا وعنايتنا. وإذ نشيد بالجهود المخلصة لهيأة الإنصاف والمصالحة، رئاسة وأعضاء، فإننا نكلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتفعيل توصياتها. كما ندعو كافة السلطات العمومية، إلى مواصلة التعاون المثمر مع المجلس، لتجسيد حرصنا الراسخ على تعزيز الحقيقة والإنصاف والمصالحة. وإني لواثق أن هذه المصالحة الصادقة التي أنجزناها، لا تعني نسيان الماضي، فالتاريخ لا ينسى. وإنما تعتبر بمثابة استجابة لقوله تعالى : "فاصفح الصفح الجميل". وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي. إصلاح عميق يجعل بلادنا تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية. وبذلكم نعبد الطريق المستقبلي، أمام الخمسينية الثانية للاستقلال، لتركيز الجهود على الورش الشاق والحاسم، للنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكافة مواطنينا. ولاسيما منهم الذين يعانون معضلات الفقر والأمية، والبطالة والتهميش. ومن ثمة، وفي سياق تفعيل مفهومنا الشمولي لحقوق الإنسان، ومنظورنا الاستراتيجي، القائم على تكامل وتناسق عمل الدولة، فقد أنيط بنخبة من المفكرين والخبراء، إعداد دراسة شاملة، عن حصيلة وآفاق خمسين سنة من التنمية البشرية. ونود التنويه بالذين أشرفوا على هذا الإنجاز الهام، وبالكفاءات الوطنية التي ساهمت فيه. كما نتطلع إلى أن تشكل هذه الدراسة، باجتهاداتها الجماعية والفردية، خير محفز على استعادة النخبة، بمختلف مشاربها، لدورها التنويري، في نهضة الأمة، وانبثاق فكر استراتيجي. فضلا عن فتح نقاش تعددي وبناء، حول مشاريع مجتمعية متمايزة وواضحة. هذه المشاريع التي تظل الهيآت الدستورية والسياسية، والنقابية والجمعوية، هي المسؤولة عن بلورتها وتنفيذها، وفق الإرادة الشعبية الحرة. معشر الحضور الموقر، شعبي العزيز، لقد ارتأيت أن أركز خطابي حول التوجه المستقبلي، لاستكمال المواطنة الكريمة، بتجديد العهد على إنجاز الورش المستديم للتنمية البشرية. وعلى التعبئة الشاملة لطاقات شبابنا، وفسح المجال أمام كل المبادرات المنتجة للثروات الاقتصادية، أو المبدعة في كل مجالات العلوم والفنون، داخل المغرب وخارجه. غايتنا المثلى بناء مغرب تكافؤ الفرص والمسؤولية. وسنظل حريصين على أن تبذل الدولة قصارى جهودها في هذا الشأن. ساهرين على تحقيق الكرامة والعيش اللائق لكل المغاربة. في تضافر للجهود بينها وبين سائر الفاعلين، قطاعاً خاصا ومجتمعاً مدنياً، هيآت وسلطات، أفراداً وجماعات. سبيلنا إلى ذلك ترسيخ فضائل الاجتهاد والاستقامة والاستحقاق. وتفعيل آليات المراقبة والمحاسبة والشفافية، في ظل سيادة القانون، والمواطنة الفاعلة. وسنواصل قيادة سفينة المغرب، في وجهتها الصحيحة، إلى مرسى الأمان والاستقرار، والتقدم والازدهار، بالإصلاحات العميقة والمتوالية. ساهرين على توازن مسارها، وسلامة إبحارها، في المحيط العالمي، بكل ثقة والتزام، وعزم وإقدام. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".