سبق أن أشرنا باختصار شديد إلى عظمة الدولة الموحدية في فن الإعمار والتشييد حتى وصفت بكونها أكبر دولة معمارية في ذلك العصر الزاهر، ووصف المغرب في عهدها بكونه بلاد الخيرات والعمائر، ويعود ذلك إلى ما كان ينعم به عصرهم من استقرار سواء على الصعيد الحكومي أو الإقليمي مما سهل في توفرهم على الوقت الكافي من أجل بناء المنشآت الرفيعة والأبنية العظيمة التي ما زالت تشهد على عظمتهم واهتمامهم بالعمران، كمنارة «الخيرالدة» بمدينة اشبيلية التي تسحر العين المجردة التي تنظر إليه، والتي تعتبر من أعاجيب الدنيا حسب تعبير بعض المصادر التاريخية التي مازالت إشبيلية تفاخر بها إلى يومنا هذا، ولقد استعمل الموحدون الأجُر والحجر الصالح المميز في بناء هذه المنارة الخلابة التي أشرف على بنائها مهندسون أفذاذ ما زال التاريخ يذكرهم ويذكر إبداعاتهم ولمساتهم الرائعة، كالمهندس الشهير أحمد بن باسة الاشبيلي، والمهندس المغربي علي الغُماري، والمهندس العريف محمد بن المعلم، والمهندس ابن جبير إلى غيرهم من المهندسين الأكفاء الذين زخر بهم العصر الموحدي مما يدل على ازدهار علم الهندسة لديهم، ويمكن ملاحظة أثر المهندسين الأندلسيين وبصماتهم في عمائر بلاد المغرب في هذا العصر وما بعده بوضوح ظاهر للعيان، إذ كان لانتصار يعقوب المنصور الموحدي في الأندلس وقهره للصليبين أكبر أثر على الفن المعماري حيث أضفى عليه طابعا خاصا وحقق بتناسق مع مدرسة القيروان التجانس الفني بين الشرق والغرب، وتجلى ذلك في روائعه الفنية وبدائعه المتميزة التي تنطق نطقا بكونه أعظم وأروع بناء شهده العصر الموحدي الزاهر حيث تظهر الهندسة المعمارية الموحدية في أبهى وأجل معالمها في مساجد مراكشوالرباط و«الخالدة» وباقي المنشأت الأخرى..[1] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 . كما اهتم الموحدون ببناء الأسوار حول المدن ذات الطابع الإسلامي الخالص، وقد تبقت أجزاء كثيرة منها بمدن الأندلس الرطيب كتلك التي مازالت قائمة في مدينة «أَلمِْيريْة» من سور خَيْرَان العَامِري، وفي «قَاصْرِيش» هناك أجزاء من سورها الموحدي، وفي «بَطلِيُوس» بعض الأجزاء من السور الموحدي.. ومن أروع ما خلده التاريخ للخليفة المنصور الموحدي مسجد «الكتبية» بمراكش الذي بناه على غرار مسجد «الخيرالدة» باشبيلية، وحرص أن يكون في أبهى صورة وأروعها فجمع فيه الطراز الأندلسي المغربي حتى وصفه أحد المستشرقين بكونه يعادل في بنائه روائع الجامع الكبير بقرطبة، كما "..أن عددا من رؤوس الأساطين في الكتبية هي من أصل أندلسي، فالأعمدة الأربعة التي تساند قوس المحراب من مخلفات الفن الأموي.. فجامع الكتبية يشكل متحفا حقيقيا للأعمدة الموحدية التي ينيف عددها على الأربعمائة والتي ما زالت تحتفظ بأصالتها المتجلية في عبقرية الفنان الأندلسي الموحدي ومهارة يد الصانع المغربي.."[2] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 . والملاحظ أن المنارات في العهد الموحدي قد تختلف في حجمها لكنها متشابهة في هيكلها حيث يصعد إليها بواسطة طريق مائل تدور حول قاعات مغطاة بالقبب، وتعتمد الزخرفة عل الكتابة الكوفية والأشكال الهندسية كالأقواس أو الرسوم التي تحاكي الزهور والنخيل والصدف. وإذا كان الموحدون في بنائهم لمنارة إشبيلية و«حسان» قد حصلوا على الحجر الصالح المتين فقد بنوا منارة «الكتبية» من الأجر إذ أن حجر "جليز" لم يكن فيما يبدو ملائما لبناء هذه المنارة[3] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 الخلابة التي مازالت شامخة شموخ الجبال تشهد على مهارة الصانع المغربي الأندلسي. كما يتجلى تقدم وتطور فن العمارة والهندسة في عهد الخليفة المنصور أيضا في كونه أنشأ في جامعه بمراكش المقصورة والمنبر ".. (الأوتوماتكيين) وكان موضوعين على حركات هندسية بحيث يبرزان لدخوله دفعة واحدة ويغيبان لخروجه كذلك..والذي صنعهما هو الحاج بعيش المهندس الذي بنى جبل الفتح لعبد المؤمن.."[4] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 أما بالنسبة للمدن أعزائي القراء الكرام فمدينة «الرباط» أو «رباط الفتح» التي أسسها يعقوب المنصور وأكمل بنائها بعد أن كانت بلاطا ورباطا للجند وضع لبنته الأولى كل من عبد المؤمن وابنه يوسف تعتبر من المعالم الخالدة التي تركها الموحدون شاهدة على العصر، وفي ذلك يذكر عبد الواحد المراكشي مؤرخ العصر أنه: ".. شرع في بنيان المدينة العظمى التي هي على ساحل البحر والنهر من العدوة التي تلي مراكش، وكان أبو يعقوب هو الذي اختطها ورسم حدودها وابتدأ في بنيانها فعاقه الموت المحتوم عن إتمامها، فشرع أبو يوسف في بنيانها إلى أن تم سورها وبنى فيها مسجدا عظيما كبير المساحة واسع الفناء..ولم يتم هذا المسجد إلى اليوم لأن العمل ارتفع عنه بموت أبي يوسف، وأما المدينة فتمت في حياة أبي يوسف وكملت أسوارها وأبوابها وعمر كثير منها.." [5] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 وزينها الأمراء بالقصور والمنتزهات، وكان يعقوب المنصور ينوي إتخاذها عاصمة ملكه. ومن الأثار الرائعة المتبقية بها من عهد الموحدين السور الجميل المحيط بها، وباب الأوداية الخلابة، وباب الرواح، وجامع حسان الشامخ الذي يوصف بأنه أعظم مسجد بالغرب الإسلامي إلا أن بناءه لم يتم مع كامل الأسف، وتذكر المصادر المختلفة أن الموحدين كانوا يستعملون في بناياتهم مواد مختلفة كالحجر المنحوت في «صومعة حسان»، والأجر في «الخالدة أو الخيرالدة»، والطوبياء في «سور الرباط»، كما أشار أحد الباحثين المعاصرين في الحضارة المغربية أن مدينة الرباط قد شيدت بحجارة المعابد الرومانية القديمة[6] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 ، وأنها في بنائها كانت تحمل مسحة التجديد إذ بنيت على هيئة مدينة الإسكندرية المصرية في الاتساع، وبمناسبة تخليد انتصارات المنصور العسكرية في الأندلس، فالمنصور رحمه الله كان يراعي في منشأته المعمارية تخليد ذكريات غزوات الإسلام العظيمة كما فعل بعد انتصاره في موقعة «الأرك» الشهيرة حيث بنى منارة إشبيلية الخالدة[7] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 . إن مدينة رباط الفتح وجامعها الهرم الشامخ الذي يرحب بك وأنت قادما إليها ويودعك وأنت تاركا لها يشهد على دولة عظيمة وحضارة زاهرة يحق لنا أن نفتخر بها ونفاخر بها ونقتبس منها، فهذا العلم الخالد بناه مهندس مغربي أندلسي شهير ونُسب إليه هو أبو جعفر أحمد بن حسان القُضاعي البلنسي ثم المغربي المدفون بالرباط سنة (598ه)، وهو نفس المهندس الذي عمل الشكل الهندسي لاستخراج القبلة ليعقوب المنصور بمراكش، ولقد كانت الهندسة –الحيلة- الهوائية والمائية شائعة في هذا العهد بالمغرب[8] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 . تجدر الإشارة أيها القراء الأفاضل أن فن الهندسة كان له شأوا كبيرا في عصر الموحدين بحيث تجد العديد من المهندسين العمالقة التي تذكرهم المصادر الدفينة والذين تركوا بصماتهم الهندسية في كل جانب من الحياة، فمثلا هندسة الري في عصر الموحدين بلغت الذروة من الازدهار وخصوصا السواقي وجلب المياه حيث "..أبدع الموحدون في جلب المياه وتصريفها وهكذا جلب عبد المؤمن الماء من «عين أغبولة» إلى المباني التي أنشأها في مكان الأوداية الحالية، كما نقلوا الماء إلى مكناس من «عين تاجما» على بعد ستة أميال، وإلى إشبيلية من «قلعة جابر» في عهد المنصور، وإلى «حدائق الخلافة» بمراكش من أغمات.. ونقل المنصور الماء إلى أسفي من «تساوت» بواسطة ساقية كبيرة.. ونقل المنصور الماء إلى «عدوة الأندلس» بفاس من باب الحديد.."[9] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 ؛ كما أسس يعقوب المنصور الباني المجدد القناطر في مختلف أنحاء مملكته الشاسعة وحفر عدة مطافيء، وبنى الملاجيء من منطقة سوس إلى «بني مدكود» بطرابلس كما تذكر عنه مختلف المصادر والمراجع، وكان اقتباسهم من الأساليب الأندلسية لاسيما في بناء السواقي وجلب المياه ووضع القنوات من أجل نقل المياه، وهذا ما اتبعوه في نقل المياه إلى مدينة سلا ومدينة رباط الفتح. في ذات السياق اعتنى الموحدون ببناء المدارس عناية كبيرة لا مثيل لها وكيف لا وهم يوصفون بأصحاب «مملكة الطلبة» الذين ازدهرت المعارف على عهدهم بما أسسوه من معاهد ومدارس في إفريقية والأندلس، ولقد اقترن إسم الخليفة عبد المؤمن بن علي وحفيده يعقوب المنصور بكثير من المدارس المنشأة في هذا العصر الذهبي، منها ما أسسه عبد المؤمن بمراكش كالمدرسة الملحقة بقصره والتي كانت تخرج الضباط والولاة، والمدرسة العامة لتعليم الأمراء الموحدين، ومنها المدرسة التي أنشأها بالرباط من أجل تعليم فن الملاحة والحربية، ولقد اعتنى عبد المؤمن عناية خاصة بالجيش والأسطول فكانت هذه المدارس الحربية تدرس الفنون الحربية على اختلاف أنواعها ومشاربها. ومن أهم مناهجها الدراسية التدريب على استعمال الأسلحة على اختلافها. أما الخليفة المغوار يعقوب المنصور فقد أسس مدارس كثيرة بالمغرب والأندلس وإفريقية مازالت تشهد على عظمته وحنكته العالية وحصافة رأيه التي كان معروفا بها رحمه الله تعالى، منها مدرسة المسجد الأعظم بسلا والتي مازالت باقية إلى يومنا هذا تشهد على أن هذا المسجد كان يضاهي القرويين في الضخامة وكان يعتبر من معاهد العلم المقصودة[10] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 ، والمدرسة التي أسسها بالمدينة التي اختطها خارج مراكش وحافظ التاريخ على اسمها، والمدرسة التي حبسها بمراكش مع دارا للسكنى على أبي العباس السبتي دفين مراكش.. ومن فرط اهتمام الخلفاء الموحدون ببناء المدارس والإشراف عليها واستدعاء العلماء الفطاحلة من أجل تنظيمها كما فعل عبد المؤمن مع ابن رشد الحفيد الذي استدعاه من أجل الاستعانة به على تنظيم بعض المدارس، أصبح بناء المدارس تقليدا مُتبعا من أفراد الشعب الذين بادر البعض منهم إلى إنشاء المدارس في المدن، والشيخ أبي الحسن الشاري ومدرسته التي أنشأها بمدينة سبتة السليبة يعتبر نموذجا مثاليا على هذا الاهتمام الذي لم يقتصر على الخلفاء الموحدين وحدهم بل تعداه إلى أفراد الشعب الذين كانوا يقدرون ويشجعون النهج الذي اتبعه الخلفاء الموحدون في الاعتناء بالعلم والعلماء والمدارس والجوامع والمعاهد التي تدرس بها العلوم المختلفة. للإشارة -ونحن نلامس هذا الموضوع- فإن المرابطين أول من اهتم وأسس المدارس بالمغرب من أجل نشر العلم وتعليمه لكل من يريد النهل من منبعه الأصلي، إذ أسس يوسف بن تاشفين مدرسة «الصابرين» بمدينة فاس، وكان المرابطون يحرصون على بناء المدارس ملحقة بالمساجد لإيواء الطلبة ويرفقونها بمرافق السكنى والدراسة والمطالعة مع تجهيزها تجهيزا كاملا، ومن أبرز مدارس المغرب في العهد المرابطي مدارس مدينة سبتة السليبة، وجامعة القرويين التي طار صيتها عبر العالم، وفي هذا يذكر ابن الآبار في "تكملته" عدة مدارس أخرى كانت منتشرة في أنحاء المغرب في عهد المرابطين منها: مدارس طنجة وأغمات وسجلماسة وتلمسان ومراكش.. و«جامع ابن يوسف» بمراكش المعلمة الرائعة يعتبر من مفاخر الدولة المرابطية والمركز الثاني للدراسات العلمية بالمغرب إذ هو بمراكش مثل القرويين بفاس؛ ولقد كانت هذه المدارس تجمع بين علم القيروان وعلم الأندلس الرطيب حيث نبغ فيها علام كبار ما زالت أسمائهم تزخر بها كتب التراجم والطبقات الأندلسية والمغربية. ما يمكن قوله هو أن الدولة الموحدية العظيمة في كل شيء قد تمكنت من مواصلة العمل الجبار الذي وضعت نواته الأولى الدولة المرابطية من إقامة صرح الحضارة المغربية وترسيخ قدمها، إذ حفل عصرهم بالأدباء والشعراء والأطباء والمهندسين والكيميائيين إلى غير ذلك من أنواع العلوم المختلفة التي سجلتها المصادر والمراجع المتنوعة، مما يدل على أنهم كانوا يعنون بنواح العلم والفن ويشجعونها ويهيئون الأسباب لازدهارها وتطويرها حسب متطلبات العصر وحاجياته[11] ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#_edn1 ، هذا العصر الذي يستحق لعمري أن نفتخر ونعتز به ونفاخر به، وأن يُجمع الجميع بأنه العصر الذهبي لتاريخ الغرب الإسلامي. ------- 1. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 للمزيد ينظر:عبد العزيز بن عبد الله.معطيات الفن الإسلامي في المغرب.مجلة المناهل.العدد:3.ص:56. 1975م. 2. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 عبد العزيز بن عبد الله، تطور الفن في عهد الموحدين،مجلة البينة،عدد:9. ص:71. 1963م. 3. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 للمزيد ينظر: إبراهيم حركات،المغرب عبر التاريخ، 1/342.دار الرشاد الحديثة، ط:1.البيضاء 1984م. 4. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 سيدي عبد الله كنون،النبوغ المغربي،1/137.دار الكتاب اللبناني، ط:2، بيروت،1961م. 5. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 عبد الواحد المراكشي.المعجب في تلخيص أخبار المغرب.تحقيق محمد العريان ومحمد العربي العلمي.ص:262.ط:7.البيضاء.1978م. 6. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 انظر:الحسن السائح.الحضارة المغربية عبر التاريخ.1/219.دار الثقافة.ط:1.البيضاء.1975م. 7. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 انظر:سيدي محمد المنوني.العلوم والأداب والفنون على عهد الموحدين.ص:243.مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة.ط:2.الرباط.1977م. 8. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 للمزيد ينظر:سيدي محمد المنوني.المرجع السابق.ص:106. 9. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 إبراهيم حركات.مرجع سابق.1/349. 10. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 سيدي عبد الله كنون.المرجع السابق.1/138. 11. ../../almithaq/contenu.aspx?C=2660#__edn1 للمزيد ينظر:يوسف أشباخ.تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين.ترجمة محمد عبد الله عنان.ص:495.ط:2.القاهرة.1958م.و أنخل جنثالت بالنثيا.تاريخ الفكر الأندلسي.ترجمة حسين مؤنس.مكتبة النهضة المصرية.ط:1.القاهرة 1955م.عبد العزيز بن عبد الله.تاريخ الحضارة المغربية.دار السلمي.البيضاء.1965م.سيدي محمد المنوني.مرجع سابق.