عرفت الدولة المرينية الشريفة باهتمامها وحرصها الشديد على تشجيع المذهب المالكي والدفاع عنه بكل غال ونفيس والعمل على دفع الفقهاء إلى التنافس في ميدان الإبداع والتأليف، مما ساهم في ازدهار ونشاط التأليف في الفقه المالكي كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ومما يلفت النظر هو انتشار ظاهرة المختصرات الفقهية في العهد المريني حيث تذكر المراجع المعتمدة أن كتب المختصرات راجت وتكاثرت خلال الحقبة المرينية بشكل يلفت النظر، وصار الإقبال عليها من لدن الفقهاء والطلبة والتنافس على اقتنائها من الأمور التي امتاز بها العصر المريني. وفي هذا الصدد تذكر المصادر الفقهية المالكية الدفينة أن الاختصار في المذهب المالكي بزغ إلى الوجود أوائل القرن الثالث الهجري، وازداد انتشاره في القرن الرابع، وتوسعت هذه الظاهرة أكثر في القرن السابع والثامن الهجري، وتشير هذه المصادر إلى كون الفقيه المصري عبد الله بن عبد الحكم المصري (ت214ه/829م) هو أول من تصدى إلى ظاهرة الاختصار، حيث اختصر كتب الفقيه المالكي أشهب (ت204ه)، ولعل السبب الرئيس في ظهور هذا الاختصار هو كون كتب الأمهات مطولة كبيرة الحجم، ويصعب استيعابها وحفظها عن ظهر قلب بالنسبة للمتعلمين، ككتاب المدونة للإمام سحنون (ت240ه/854م) والعتبية لمحمد العتبي القرطبي (ت254ه)، والموازية لمحمد المواز (ت269ه/882م)، والواضحة لعبد الملك بن حبيب(ت238ه/852م)، والمبسوطة للقاضي إسماعيل (ت282ه/895م)، والحاوي لأبي الفرج الليثي (331ه/942م)، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (ت386ه/996م)، وغيرها من المصنفات التي تعتبر من أمهات الفقه المالكي. أما أول من تعاطى لاختصار المصنفات الفقهية المالكية التي يصطلح عليها بأمهات المذهب المالكي كالمدونة والواضحة والموازية، فهو الفقيه الأندلسي فضل بن سلمة الجهني (ت319ه/931م) الذي اختصر المدونة والواضحة والموازية فاتحا بذلك باب الاختصار على مصراعيه أمام الفقهاء، ثم سار على ضربه كل من محمد بن عيشون الطليطلي (ت341ه/952م) الذي اختصر المدونة، ومحمد بن عبد الملك الخولاني البلنسي (ت364ه/974م)، وابن أبي زيد القيرواني (ت386ه/996م) ومحمد بن أبي زمنين (ت399ه/1008م)، وأبو القاسم اللبيدي (440ه/1048م) وخلف البرادعي، وكلهم اختصروا المدونة الكبرى للإمام سحنون. ومن أشهر المختصرات الفقهية المالكية في القرون الهجرية الأولى مختصر ابن عيشون الطليطلي، ومختصر ابن أبي زمنين اختصرا فيه مدونة الإمام سحنون، وكتاب التهذيب لخلف البرادعي (كان بقيد الحياة سنة 373ه) اختصر فيه مدونة الإمام سحنون أيضا، والذي أصبح من الكتب الفقهية المالكية القيمة التي احتلت الصدارة الأولى بعد كتاب المدونة ردحا من الزمان إذ يوصف بكونه كتاب قد غير مجرى الدراسات الفقهية، وأثر في عقلية الفقهاء ونقلها من مرحلة التعامل مع كتاب مبسط في العبارة ككتاب المدونة، إلى مرحلة التعامل مع كتاب مختصر معقد الأسلوب والعبارة، فأقبلوا عليه يتنافسون في شرحه واختصاره؛ ولقد ظل كتاب التهذيب يشغل المراتب الأولى في الدراسات الفقهية بمنطقة الغرب الإسلامي لعدة قرون[1]. والجدير بالذكر، أن المدونة الكبرى ظلت هي الكتاب المدرسي الأول كما يقال عند المالكية منذ صدورها إلى أن صدر كتاب التهذيب لخلف البرادعي الذي أصبح ديدن الفقهاء المالكية في ذلك العصر، ومن تم اعتمد ككتاب مدرسي أول يدرس في حلقات العلم ويتهافت عليه الشيوخ والطلبة على السواء، وأصبح كتاب المدونة مصدرا يرجع إليه كل من أراد التبحر في الفقه المالكي أكثر والتوفيق بين الأقوال المختلفة للفقهاء المالكية[2]. ظل كتاب التهذيب للبرادعي المصدر المعتمد من لدن فقهاء المالكية لقرون خلت إلى أن ظهر رجل المختصرات كما يوصف في القرن السابع الهجري، أبو عمرو عثمان بن الحاجب المصري الذي عاصر الدولة المرينية، كان بارعا في المذهب المالكي كما يوصف حيث اختصر كتاب التهذيب السالف الذكر بطريقة بارعة، ولقد أخذ مختصره الشهير في الفقه المالكي مكان كتاب التهذيب وحل محله في حلقات الدرس في القرن الثامن الهجري؛ وفي هذا المختصر حاول ابن الحاجب تلخيص طرق أهل المذهب المالكي فجمع الأقوال المختلفة في كل مسألة حتى وصف كتابه بكونه "برنامج المذهب" على حد قول العلامة ابن خلدون رحمه الله، ولقد لقى مختصر ابن الحاجب قبولا حسنا من لدن الفقهاء شرقا وغربا فتنافسوا في حفظه وتدريسه وشرحه، ولابن الحاجب أيضا مؤلفات عديدة في الصرف واللغة والقراءات وغيرها، توفي ابن الحاجب سنة (646ه)[3]. وتجدر الإشارة إلى أنه رغم ظهور ظاهرة الاختصار عند فقهاء المالكية منذ القرون الهجرية الأولى إلا أن كتب المختصرات الفقهية كانت رائجة أكثر، ومعتمدة في العصر المريني الذي نحن بصدد ملامسة بعض جوانبه الفقهية، حيث كان لولوع الفقهاء المغاربة بها الأثر الواضح على الدراسات الفقهية المالكية بالغرب الإسلامي، ولقد تصدى لشرح مختصر ابن الحاجب عديد من الفقهاء الفطاحلة نذكر منهم من عاصر الدولة المرينية على سبيل المثال لا الحصر، محمد بن مرزوق الخطيب (ت711ه) وابن راشد القفصي (ت736ه)، وأبي زيد بن الإمام (ت743ه) وإبراهيم القيسي الصفاقسي (ت743ه)، وعيسى بن مسعود الزواوي (ت743ه) ومحمد بن يحيى البجائي المعروف بالمسفر (ت743ه)، وابن عبد السلام (ت749ه) وابن هارون (ت750ه)، وأحمد بن إدريس البجائي (ت760ه)؛ وغيرهم كثير لا يسمح المقام بذكرهم كلهم ويمكن الرجوع إلى كتب التراجم وطبقات المالكية التي ترجمت لهم بالتفصيل. لقد كان انفتاح المغرب على الشرق بعد سقوط العواصم العلمية بالأندلس الرطيب سببا رئيسيا في دخول هذه المصنفات الشرقية إلى المغرب وعكوف الفقهاء المغاربة عليها، وكان الذي أدخل مختصر ابن الحاجب المصري إلى المغرب الفقيه ناصر الدين المشدالي الزواوي البجائي (ت731ه) بعد أن أخذه على شيوخه بمصر، فنسخ منه نسخة حملها معه إلى بلده "بجاية" ونشره بين تلاميذه، ومن تم أخذ ينتشر في سائر أمصار المغرب حيث ظل طلبة الفقه يتداولونه بينهم ككتاب مقرر في حلقات الدرس التي كانوا يرتادونها، وكان ناصر الدين المشدالي يثني كثيرا على مختصر ابن الحاجب ويروي عن هذا الأخير قوله أنه كان يحتاج إلى جهد أكبر لفهم ما أورده في مختصره بعد تأليفه قائلا: "لما كنت مشتغلا بوضع كتابي هذا كنت أجمع الأمهات ثم أجمع ما اشتملت عليه تلك الأمهات في كلام موجز، ثم أضعه في هذا الكتاب حتى كمل، ثم أتي بعد ربما أحتاج في فهم بعض ما وضعته فيه إلى فكر وتأمل"[4]. استمر مختصر ابن الحاجب المصري في احتلال الصدارة بين المصنفات الفقهية المالكية خلال الحقبة المرينية حيث كان عليه الاعتماد في التدريس والفتوى، وغيرها من الأمور الفقهية ردحا من الزمان إلى حين ظهور مختصر جديد له على الساحة، وهو مختصر الشيخ خليل المصري (ت776ه)، أو مختصر سيدي خليل كما يحلو للمغاربة أن يسموه. أعزائي القراء الفضلاء سنكمل الحديث عن هذا المختصر الخليلي الذائع الصيت وعن الاهتمام المنقطع النظير به من لدن الفقهاء المغاربة خلال القرن الثامن الهجري قرن المختصرات الفقهية المالكية في العدد القادم بمشيئة الله، وهي قطوف فقهية مالكية نقتطفها معكم من بساتين الحضارة المرينية قصد أخذ العبر والدروس منها.. والله من وراء القصد ويهدي السبيل.. (يتبع) ---------------------------- 1. انظر: محاضرات في تاريخ المذهب المالكي لشيخنا المرحوم الدكتور عمر الجيدي، ص:132، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، دت. 2. للمزيد انظر: الفكر السامي للحجوي الفاسي، 4/457-459، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995م، مباحث في المذهب المالكي، لشيخنا المرحوم عمر الجيدي، مطبعة المعارف الجديدة، ص: 97، الرباط: 1993م. 3. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان، 1/195، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، الفكر السامي، 4/270-271. 4. للمزيد انظر: جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس لأحمد بن القاضي، 1/297، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور، الرباط: 1974م.